الشيخ سعيد حوى في حياته اليومية
كتبه ولده:
د. محمد سعيد حوى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله
يتطلع طلبة
العلم وأصحاب الهمم أن يتعرفوا دائماً إلى دقائق حياة ويوميات الأعلام والمصلحين
والعلماء الذين كان لهم أثر ودور في الحياة والمجتمعات أو كان لهم رسالة ومنهج في التغيير
والإصلاح.
ولعل
عَلَمَنا اليوم فضيلة الشيخ العلامة المجاهد سعيد حوى رحمه الله واحد من أولئك
الأعلام الذين نذروا حياتهم لله، فكانت جهاداً ودعوة وعلماً، في ليلهم ونهارهم
وأوقات راحتهم وحِلِّهم وترحالهم.
فإذا أردنا
أن نلقي أضواءاً على يوميات الشيخ رحمه الله ودقائق حياته في داخل بيته، فإننا
نسجل الحقائق الآتية:
1ً. لم يكن
وقت الشيخ رحمه الله ملكاً له أبداً، فما كان يقصده قاصد من طالب علم أو صاحب حاجة
أو عابر سبيل أو راغب في معرفة أو حوار، في ليل أو نهار؛ إلا ويفتح صدره وبيته له.
تجد بعض
الأعلام يرغب أن ينظم وقتاً خاصاً لاستقبال الضيوف والمستفتين ونحو ذلك، بل قد
يخصص وقتاً لاستقبال الهاتف، أما فقيدنا رحمه الله فكان له منهج آخر، يرى أن لطالب
العلم والراغب والسائل والضيف حقه الذي لا يجوز تجاوزه، وأنه في مقابل ذلك فإن
الله يعوض عن ذلك دائماً بالبركة في الوقت والعطاء الوفير، ونحن أبناؤه قد لمسنا
ذلك عملياً، فكنّا في أوقات الامتحانات والدراسة تكثر عليه الوفود والضيوف،
ويشغَلُنا ذلك عن بعض ما يجب من دراسة، فكان يقول دائماً: لا يضيِّعُ الله لكم
عملاً ولا جهداً، وإنكم واجدون عوضاً عن ذلك، وقد كان والله.
ولذا كان
الشيخ رحمه الله احتفاؤه بالضيف والزائر وطلبة العلم ورواد الفكر والمعرفة غير
عادي، حتى كان عارفوه يشفقون على صحته، ويشفقون أكثر على أهل بيته.
2ً. وكما
لم يكن وقته ملكاً له؛ فكذا لم يكن ما يملكه من مال أو متاع ملكاً له، فلا يكاد
يتوافر لديه مبلغ فيقصده قاصد إلا ويقدم له ما تيسر أو يقتسمه معه.
ولقد تهيأ
له في بعض مراحل العمر عملاً في المملكة العربية السعودية، ومعه أم محمد حفظها
الله، ومع ذلك عاد مديوناً.
فلم يكن
يملك إلا بيتاً متوضعاً في مدينة حماه، هو بدل عن إرثٍ وَرِثَه، وعاش حياته في
الغُربة والهجرة متنقلاً بين البيوت مستأجراً ، لا يملك من الأثاث إلا أيسره، ولو
أراد أن يعيش غنياً مترفاً مرفّهاً لاستطاع ذلك.
3ً. مع
كثرة مشاغله في علاقاته الاجتماعية والعلمية والدعوية ولقاءاته العامة؛ فإنه مع
ذلك كان ثمت مرتكزات في حياته اليومية لا يتخلى عنها ما استطاع، فإن أسعفه الوقت
والصحة أن يؤديها في وقتها فعل، وإلا فلا يمضي اليوم حتى يعوض ذلك، وإلا حاول أن
يعوضها من اليوم الآخر، ومن ذلك:
أ. فكان يحافظ على صلاة الفجر في وقتها، وكذا باقي الصلوات،
ويحافظ عليها في الجماعة، في شبابه، لكن ظروفه الخاصة سياسياً وأمنياً وصحياً في
بعض المراحل كانت تحول بينه وبين الجماعة في المسجد، وكان يحض أبناءه على صلاة
الجماعة في المسجد.
ب. كان يحرص أن لا تفوته أبداً أوراد ما بعد الصلاة.
ج. الأوراد اليومية التي اعتاد عليها، وأقلها:
1. جزء من القرآن، عن ظهر قلب حداً أدنى، وأحياناً كان
يفوته ذلك فيجلس جلسة واحدة يقرأ عدداً من الأجزاء بقدر الأيام التي شغل فيها.
2. مائة مرة استغفار.
3. مائة مرة تهليل.
4. مائة مرة صلاة على رسول الله r.
ثم
بعد ذلك لا تكاد تراه ـ إذا لم يكن يتكلم ـ إلا مستغفراً، أو مصلياً على رسول الله
r، أو ذاكراً لله، أو متفكراً في همّ أو مسألة علم أو قضية من قضايا
الأمة والمجتمع.
د. مجلس علمي دوري لأهل بيته يحرص أن يكون بعد أوراد الفجر،
إذ هذا الوقت الذي يمكن أن يجتمع كل أهل البيت فيه، ولا يقطع مجلسهم ضيف أو شاغل،
وكان ينقطع أحياناً بسبب الأسفار أو الأمراض أو الأعمال الطارئة.
هـ. مجلس التأليف، وغالباً ما يمتد من الشروق إلى ضحوة
النهار، قبل أن يبدأ الناس والزوار وأصحاب الحوائج بالتوافد إليه.
و. أما باقي النهار فموزّع بين حقوق الناس، وأداء العبادات،
ورعاية مصالح الأهل، ومجالس العلم، فكان أكثر ما يحرص عليه عقد مجالس العلم، سواء
للطلبة أو لأهل بيته.
مع بيان أن
مراحل حياته كانت فيها متغيرات كثيرة، ففي حياته أيام التدريس في المدارس العامة كان
لا بد أن يعطي التدريس حقه من الصباح الباكر إلى ما بعد الظهر.
ثم تبدأ
حلقات العلم الخاصة أو العامة إلى نحو منتصف الليل.
أما في
سجنه فقد حدّث هو وبعض من كان معه أنه مرت فترة في السجن كان للشيخ فيها في اليوم
الواحد (14) أربعة عشر درساً، وبعضها كان عاماً لجميع إخوانه في المهجع الذي كان
يضمهم في السجن، وبعضها كان خاصاً لبعضهم.
ومنها دروس
في التربية والتفسير والفقه واللغة، وغير ذلك.
4ً. ومع
كثرة المشاغل والأعمال الواجبات، كان عنده أولويات لا يدعها إلا لظروف طارئة جداً:
أ. متابعة أمر التأليف، إذ يرى أنه بسبب ظروفه السياسية لا
يستطيع التواصل مع الناس مباشرة، فكان الكتاب هو صلة الوصل.
كما
أنه كان يرى أن المحاضرة والدروس ـ على أهميتها في التربية الخاصة المؤثرة
المباشرة ـ فإن الكتاب يبقى أبقى زماناً وأوسع انتشاراً، ولم يكن يتاح له ما يتاح
اليوم لبعض الأعلام من فضائيات أو وسائل إعلام أخرى.
ب. متابعة توصية أسرته علمياً وتربوياً في جلسات مستمرة
منتظمة أو غير منتظمة، وفي تلك الجلسات قرئت بعض الكتب العلمية من ذلك الجزء الأول
من الأساس في التفسير، وكتاب قطر الندى، وكتاب في العقيدة، وعَقَد جلسات لأبنائه
في الفقه، تولاها فضيلة الشيخ وهبي الغاوجي، وكان يحضر هو مستمعاً.
هذا
مع اهتمامه بالملاحظات اليومية، فيما يحتاج إلى تصحيح وتقويم.
ومنهجه
في ذلك الصبر وطول النفَس والحلم الواسع، فيشير إلى الخطأ إشارة ويكرر الملاحظة
مرة بعد مرة، ولا يلجأ إلى الشدة إلا بعد أن يتم التجاوز في الخطأ بعد التنبيه
إليه مراراً.
ومع
ذلك فإذا أوقع عقوبة فيها شدة؛ فلا بد بعد ذلك من المصالحة والمحاسنة وإعادة
البسمة وتصفية الصدر.
ج. الدروس التربوية والعلمية الخاصة لخواص طلبة العلم، وكان
من ثمرات ذلك كتاب: مذكرات في منازل الصديقين والربانيين.
د. العمل السياسي والدعوي والاجتماعي والعلمي، ضمن إطار
جماعة الإخوان المسلمين.
هـ. العبادات الكثيرة المتنوعة، فلقد كانت جزءاً أصيلاً في
حياته، وأكثرها الذكر بأنواعه، وقيام من الليل إلا في أحوال مرضه الشديد.
تلك
الأولويات الأساسية في حياته، مع التنويه مرة أخرى أن ذلك كان يتفاوت ويختلف
باختلاف الظروف والأحوال والطوارئ والأسفار.
5ً.
والطابع العام الذي يطبع حياة الشيخ الخاصة واليومية البساطة المتناهية وعدم
التكلف، إنْ في اللباس أو الطعام أو الكلام أو المعاملة مع الأهل والآخرين.
فكان
أبعدَ ما يكون عن التكلف، قريباً من القلوب، يألف ويؤلف، يقدّر محدثه وزائريه.
6ً.
وبالجملة فيمكننا أن نؤطر جوانب حياة الشيخ الخاصة واليومية في جملة من النقاط
السريعة:
1. كان شديد التوقير لوالده وخالته زوج والده، التي كان
يعاملها كأمه تماماً، إذ توفيت والدته في صغره، فكان من أشد الناس برّاً بهما،
وحناناً عند لقائهما، وحرصاً على متابعة أحوالهما، وإجابة لرغباتهما، فكان لا يسمح
قط أن يؤذوا من أحد ولو بكلمة أو إشارة، فكان لهما نصيب وافر في حياته، من
زيارتهما والمؤانسة لهما، بالرغم من كثرة أعبائه وأعماله.
2. كما كان لصلة الأرحام حظها ونصيبها الوافر في حياته،
يواصلهم بالزيارة والمهاتفة والاطمئنان على أحوالهم ومعالجة مشكلاتهم.
ومع
علمي أن هذه القضايا واجبات شرعية أصلاً؛ إنما أريد أن أقول: إنه بالرغم من أعباء
الدعوة وكثرة الأعمال والمشاغل وكثرة التأليف ما كان يضيّع أن يفرط في هذه الحقوق
والواجبات.
3. كانت علاقته بأم محمد متميزة فريدة، فمع الود الخالص
والوفاء الصادق والاحترام الكبير المتبادل؛ كان الانسجام والتكامل الروحي والفكري
والعملي، والتعاون على شؤون العلم والدعوة وأعباء الحياة، فكانت أم محمد تجسيداً
للتضحية، ومثالاً للزوجة المُعِينة لزوجها على كل عمل خير، وكان هو مثالاً للوفاء
والود، تتميز حياتهما بالكلمة الطيبة والأخلاق الرفيعة والمعاملة الراقية.
4. كما كانت العلاقة مع الأبناء حميمة جداً، يشعرون بحنانه
العجيب، وحبه الكبير، وقلبه الرؤوف الشفوق، مع ما كان يقترن بذلك من حرص على
التربية والتوجيه والارتقاء، فلا إهمال ولا سكوت على خطأ وانحراف، حلم مع حزم،
ولين مع قوة، وإحكام ولطف مع هيبة، وأنس وألفة وقرب وبساطة مع وقار.
هكذا
كان في بيته حقيقة، كل ذلك بلا تكلف ولا تصنع، ولا أصِفُ إلا ما رأيت وعايشت.
5. كما كان لجلسات الصفاء والاستجمام ـ مع كل مشاكل العمل
العام والخاص ـ وجودها في حياته، طالما تيسر وقت لذلك.
فمن
مظاهر ذلك أنه كان محبباً لديه جلسة ما بعد العصر للشاي والاسترخاء، ولكنك تعجب إذ
ترى أنه ما يفتأ في هذه الجلسة أن يكون ذاكراً أو متفكراً أو مؤنساً جليساً بحديث
عذب رقراق، أو يُباحِث ويُشاوِر في همّ من هموم الأمة وقضاياها.
6. كان يميل إلى تنظيم الأوقات بما لا يتعارض مع سلامة سير
العمل العام وحقوق الإخاء وطلب العلم، إلا أن ظروف حياته ربما لم تكن تسمح له بذلك
دائماً، فمثلاً في إحدى فترات حياته عوّدنا كيف نستيقظ للفجر ونغتنم ما بعد صلاة
الفجر، ثم وقت حر إلى الساعة الثامنة، ليكون وقت الإفطار، وحدد وقت الغداء الساعة
الثانية بعد لظهر، لم تستمر طويلاً هذه التجربة لظروفه المتقلبة، لكن أحسسنا من
خلالها أنه يريد أن يربي فينا معنى البرمجة والتنظيم للوقت.
7. وإذ وضع لنفسه برنامجاً عاماً يومياً لا بد منه، من
تلاوة وذكر وعلم وقيام، وحيث فاته ذلك يحاول أن يعوّضه إما من الليل أو من يوم
تالٍ.
8. وكان من برنامجه اليومي اهتمامه بمتابعة بعض نشرات
الأخبار اليومية من بعض الإذاعات العالمية، فكان يحرص على نشرة عامة صباحاً،
وواحدة عند الظهيرة، وأخرى عند العاشرة ليلاً، وعند الانشغال ربما اقتصر على
واحدة، ليكون على متابعة تامة لمجريات الأحداث.
وربما
تابع بعض البرامج العلمية والإذاعية الثقافية والفكرية، من بعض تلك الإذاعات، حيث
لم يدخل الشيخ رحمه الله التلفاز إلى بيته إطلاقاً، ثم لم تكن هذه القنوات
الفضائية المختصة بالبرامج الإعلامية الهادفة موجودة أصلاً.
9. كما كان يحاول أن يرتب للرياضة البدنية، وخاصة رياضة
المشي بعض الوقت بين الفينة والأخرى، إلا أنه لم يكن يستطيع المداومة على ذلك،
وربما اقتصر على المشي في البيت وهو يقرأ ورده من القرآن والأذكار.
10. أما قضايا الطعام فلم كان يهتم بها كثيراً، فباستثناء
مرحلة يسيرة حاول أن ينظم وقت الطعام فيها كان يغلب عليه عدم التكلف في ذلك، فإذا
جاع أو حضر الطعام أكل، وإلا فكم كان ينهمك في الأعمال فلا يطلب طعاماً ولا يهتم
به، حضر أو غاب، حتى يغلبه الجوع أو التعب، وما كان يتكلف في أنواع الطعام، بل
يتناول ما يتيسر منه.
ثم
بسبب الظروف الصحية كان أحياناً يحاول أن يحتمي وينظم غذاء حمية، لكنه ما كان
يستمر على ذلك طويلاً لظروف خاصة.
ولقد
كان في شبابه أكثر رياضة وصياماً وقياماً، لكنه بعد خروجه من السجن وقد أصيب بعدة
أمراض كالضغط وتصلب والشرايين والسكري، مما أعاقه عن كثير من تلك المجاهدات، إلا
أنه كان يوصي بها كثيراً ويعتذر عن تقصيره في بعضه، ومع ذلك فجهاده في ميادين
الدعوة والعلم والسياسة والفكر لم يتوقف ولم يضعف لحظة واحدة.
11. وتميز الشيخ في بعض مراحل حياته بالقراءة الكثيرة
النهمة السريعة حتى كان يقرأ في بعض الليالي مجلداً كاملاً.
12. ومن أكثر ما كان يحرص عليه توجيه طلبة العلم إلى الهمة
العالية، والتطلع إلى امتلاك ناصية العلم والحِلْم، والتحقق بالحال القلبي الأرقى،
مؤكداً على أهمية حفظ كتاب الله لطالب العلم، وحفظ ما استطاع من السنة، وضبط
اللغة، فذلك عدة العالم والداعية، التي لا يستغني عنها بحالٍ أبداً.
وبعد فهذه
شذرات من حياة الشيخ رحمه الله اليومية، وبعض ملامح حياته الخاصة، نرجو أن يكون
فيها بعض الفائدة للدعاة وطلبة العلم، والله من وراء القصد.