في مقال نشر في مجلة النور، طلبَ فيه
القائمون على المجلة من الدكتور محمد سعيد حوى أن يتحدث عن صفحات مجهولة من حياة
الشيخ، فكتب هذا المقال:
الشيخ سعيد حوى، مع ذكريات ومواقف خاصة
بقلم ولده: د. محمد سعيد حوى
كثيرة هي
الذكريات والمواقف التي يعرفها الأبناء عن آبائهم العلماء، ولا تخلو من فوائد ونفع
وعبر، وقد اخترت أن أتحدث عن بعض ما أظنه نافعاً ومفيداً من ذكريات ومواقف عن
والدي رحمه الله تعالى.
وصايا
قرآنية تبث روح الهمة
وأبدأ بهذا
الموقف المؤثر في نفسي إلى الآن، فقد كان والدي رحمه الله قد أدخل السجن عام 1973م
على إثر ما سمي فيما بعد بقضية الدستور، وذلك بسبب نشاطه الكبير في جمع كلمة
العلماء وإصدار بيان موحد لعلماء سوريا يبين موقف الشرع وما يجب على الشعب
والسلطة.
ففي أول
زيارة لنا لوالدي رحمه الله في السجن-حين كان يسمح للسجين أحياناً برؤية أهله!-أخذ
يشد من عزيمتنا وكان مما قاله: إنني وصلت في تأملاتي في تفسير القرآن إلى قوله
تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً)، وقد كانت مناسبة طيبة جدا
بالنسبة له ولنا؛ أن يتناول هذه الآية العظيمة بالتفسير لأن المقام يحتاج إلى جلد
وصبر وتحمل في سبيل الله والقرآن والدعوة، ثم أن يكون يحيى الذي يخاطب بهذا النداء
العظيم صبياً ونحن أولاد الشيخ لم نبلغ الحلم، لحظة زيارته، يخاطبنا بهذا النداء
مما كان له أكبر الأثر في نفوسنا.
فهو يعتبر
رحمه الله أن هذه الآيات في سورة مريم نقاط علام أساسية في تربية الأولاد والشباب
وتمثل بالنسبة للداعية منهجاً ينبغي أن يسير عليه في تربية أولاده ومن حوله، أن
تربي ولدك على أخذ الكتاب بجد وعزيمة، وتنشؤه على فهم الحكمة والتحقق بها وتربه
على التقوى والطهارة في الأخلاق والسلوك والبر بالوالدين والتواضع مع خلق الله
جميعاً والرحمة بهم. (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا
وزكاة وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً). هذا محور أول لقاء نلتقي
به بوالدي رحمه الله في سجن المزة في دمشق، وكان عمري حينذاك نحو من عشر سنين، وما
زالت كلماته وقسماته ونبرات صوته والآمال التي يبنيها والهمة العالية التي يبديها
تتخايل أمام ناظري رحمه الله. كان رحمه الله من خلال ذلك يريد جيلاً غير عادي لحمل
دعوة غير عادية في ظروف غير عادية للوصول إلى أهداف متميزة في كل شيء فأين نحن من
ذلك.
وفي هذا
الاتجاه زرناه مرة أخرى في سجن المزة العسكري عام 1975م وكانت أحداث لبنان على
أشدها ومذابح تل الزعتر بالمسلمين الفلسطينيين العزل هناك تتوارد أخبارها إلى
الناس، فكان مما قاله لي والدي رحمه الله أمام مراقبه في السجن أن أعز أمنية لي في
هذه اللحظة أن أحملك وأضعك في تل الزعتر لتجاهد في سبيل الله. فقد كان يحترق لما
يسمع أخبار المذابح، والمسلمون مكبلون لا يستطيعون فعل شيء تجاه إخوانهم والعدو
يجثم فوق الصدور. هذه نسمات روحه التي كان يبثها فينا رحمه الله، لقد كان في السجن
وكان في كل لقاء يعطينا درساً لا ينسى في التربية الجهادية أو الأخلاقية أو
القرآنية. وأذكر أنه كان دائم السؤال لنا أين وصلت في حفظ كتاب الله تعالى، ويوماً
زرناه وكنت قد حفظت سورة التغابن، فسألني مبتهجاً :أو قد حفظتها؟!وقال مشجعاً
لي:إن هذه السورة من أكثر السور التي وجدت صعوبة في حفظها، وكأنه يقول لي :وإذ قد
حفظتها فغيرها أيسر، فلا تتأخر.
وأجدني
بدأت بذكرياتي من مرحلة السجن لأنها المرحلة التي بدأ وعيي يتشكل فيها.
منحة في محنة!
فما وعينا
على والدي رحمه الله إلا وقد غيب في سجون الظالمين لقول كلمة الحق التي لم يكن
يخشى فيها لومة لائم، وقد كان عمري يوم اعتقل ثمان سنوات.وأذكر يوم أن جاءت النذر
والأخبار لتقول إنك أيها الشيخ سعيد ستعتقل، فعليك بالاختباء والتواري عن الأنظار،
وجدي رحمه الله يلح على والدي في ذلك، ووقف والدي رحمه الله في ساحة المنزل يتأمل
في الطائرات المروحية التي أخذت تجوب أجواء المدينة، ثم قال :ليقضي الله أمراً كان
مفعولا وأصر في اليوم التالي أن يذهب إلى عمله في التدريس كالمعتاد ليعتقل من
هناك.ولقد كان لهذا الاعتقال بركاته، وكم من منحة جاءتك في طي محنة كما يقول
العارفون:فمن بركاته، هذا التفسير الكبير(الأساس في التفسير) في أحد عشر مجلداً،
والعديد من مؤلفاته الأخرى ونواة كتاب الأساس في السنة...
تربية
إسلامية:
وفي صدر
الحديث عن الجيل الذي يريده الشيخ رحمه الله فإني أستذكر بعض المواقف في صغري،
فلقد كان حريصاً كل الحرص أن نربي تربية إسلامية كاملة لا تشوبها شائبة ولذا فما
كان يسمح لبعض الهفوات والأخطاء أن تمر دون ما تنبيه أو عقاب إذا اقتضى الأمر،
وأرجو أن لا يكون كلامي هذا تزكيه لنفسي.
فلقد شتمت
يوماً أخي الأصغر مني ولم يتجاوز عمري الخامسة بعد، وعلم الوالد رحمه الله بالأمر
وكنا إذا أخطأنا خطأ نخافه ونريبه ونحسب له ألف حساب، وكنت حريصاً أن لا يصل الخبر
إليه، ولكنه وصل، فكان يوماً في حياتي لا أنساه في باب التربية والعقوبة والتأديب،
وبعد أن نلت عقابي وجزائي أخذني معه في السيارة وكنا في المدينة المنورة على
ساكنها أفضل الصلاة والتسليم فحبسني بالسيارة من بعد صلاة المغرب إلى ما صلاة
العشاء إتماماً للعقوبة.
ولكن ذلك
بإذن الله كان كافياً إن يجعلنا نضبط ألسنتنا في كل كلمة تصدر منا، ولا أذكر أني
احتجت بعدها إلى عقوبة أخرى في ذنب مماثل.
كما كان
حريصاً على أن ينشئنا على القدرة على التصرف ومواجهة المواقف، وأذكر وأنا صغيراً
في المدينة المنورة وعمري أقل من خمس سنوات أرسلني مراراً وتكراراً إلى مكتبة
بالسوق لأشتري له قلماً من نمط معين، وما زال يرسلني حتى أتيته بالقلم الذي يريده.
كما كان
حريصاً على تربيتنا على الشجاعة، كان في سقف منزلنا مروحة فكان يرفعنا إليها ونحن
صغاراً وهي تدور مداعبة لها وتقوية لأنفسنا في الوقت نفسه، فإذا ما صدر منا ما
يشعر بخوف أو نحوه عوقبنا.
الأب الحنون
قَلَّ أن رأيت
شدة في لين وحزماً في حلم، وقوة في رحمة؛ كما رأيت من والدي رحمه الله؛فإنه ما من
عقوبة لذنب إلا ويعقبها مصالحة وترضية كما يقولون، وهذه العقوبات إنما هي استثناء
في حياته، وإني لأعدها على أقل من عدد أصابع اليد، فقد كان يحتمل منا كثتراً
ويتجاوز عن كثير من الهفوات حتى إذا طفح الكيل جاء الكيل وافياً ومناسباً. أما في
باقي وقته فقد كان في بيته مرحاً مداعباً غاية في اللطف والأنس وحلو الكلام ينبض
قلبه بمشاعر الأبوة والحنان بغزارة، ولقد كانت أختي الوحيدة يوماً بعيدة عنه في
سوريا وهو في السعودية فقال فيها شعراً، وكان مما قال :
وتعطفني نحو البـلاد أواصـر تـذوب
لها روحي وقلبي المدنــف
وأغلى الغوالي؛ فلذة سال دمعها تنـادي
أبـاها كل حيـن فتسرف
فلا قلبها سـال ولا أنـا سامع ولا
الصبر مسطاع ولا الوصل يسعف
وبمناسبة
ذكر هذه الأبيات الشعرية أذكر أنه زار يوماً في المستشفى الإسلامي المرحوم الشاعر
عبد القادر حداد رحمه الله، وهو أخ كريم ذو شاعرية فذة لكن لم ينشر عمله الشعري
بعد فيما أعلم، فتبادلا أطراف الحديث فكان مما قاله والدي في تلك الجلسة تلك
الأبيات وأبيات سأذكرها. فرأيت الدموع تترقرق من بعض الحاضرين تأثراً بشعره ونبرات
صوته وطريقة إلقاء، حتى عده الأخ الحداد من عيون الشعر...
نفس تأنف الذل
وإذا انتقل
بنا الكلام إلى الشعر، فقد كان رحمه الله يعمل في السعودية مدرساً، وقد تطاول عليه
بعض مدرائه مشيراً له أنكم جئتم تجنون المال من بلادنا فكانت هذه الأبيات التي
تمثل عزة المسلم وعنفوانه وإباءه ورسالته في حياته:
حـذار المسـاس بحريتــي فكسر الكرامــة لا يجبـر
إذا ألف النــاس
عيش العبـيد فأعرقكم بــــه الأمهـر
فإني ألفـت الحيـــاة التي يفوح منـها العبق الأعطـر
حيـاة الجهـاد وكلي
جهـاد
وكلي كفـاح ولا
أضجـر
وإنـي تركت البــلاد التي
هي الوطن الأطيـب الأطهـر
لأنـي خـشيت ذليـل الأذى
وظلمـاً أراه فـلا أنكــر
فلا يطمعنك أنـي غـريـب
فعودي صـلب ولا يـكسر
سـأنفض عنـي الغبـار الذي أصـاب ثيـابي ولا أشـعر
وأعصـر جسمي فخـذ مـاءه
وأعصـر ثوبي إذا يعصـر
وأتـرك فـي أرضـكم
مالكم وأمضـي إلى حيث قد أعذر
وقد كان
منه رحمة الله عليه أن غادر تلك البلاد في أخطر مرحلة تمر بها سوريا، غادر ليدخل
بعد ذلك إلى السجن خلال فترة وجيزة ويمضي فيه خمس سنوات متتالية.
ولك أن تحلل
أي نفس مؤمنة عزيزة أبية وأية مشاعر كان يحمل الشيخ حتى لقد تعب وأتعب من
بعده.وكان مما قال شعراً:
وما هجرت عن طيب نفس وإنمـا بنو قومـنا جاروا ونفسي تأنف
بقـاء بأرض قـد
تمـادت بغيها وأعيـا بنيها أن يقيموا فينصفوا
إلا أنه
بعد ذلك يقول عائداً إلى بلاده:
تذكرت أوطاني فهـاجـتني الذكرى وأيقنت أن المكث فيها هو
الأحرى
وقد أخطأ النــاؤون عنـها وإنني لأكبرهم خطــأ وأكثرهم وزراً
حقيقة أني
كلما تمثلت بهذه الأبيات شعرت أنها تمثل منهج حياته وطبيعة روحه وصورة صادقة
لعواطفه ومشاعره.وفي صدد الحديث عن المشاعر أتحدث عن جوانب من الإخاء والحب في
الله والعطف والحنو كان صدر الشيخ رحمه الله يفيض بها؛فما كان يسمع بمريض من
إخوانه أو محتاج أوذي مظلمة وأمكنه أن يزوره أو يقدم له عوناً إلا فعل إلا أن يحول
بينه وبين ذلك حائل من مرض أو انشغال بأهم، وإذا لم يمكنه أن يفعل شيئاً بنفسه كان
يحاول أن ينيب أحداً عنه في ذلك.ولا غرو في ذلك فهذا ما أدبنا عليه رسول الله عليه
الصلاة والسلام وهذا شأن الداعية في كل وقت، والقصص في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة
واعتقد أن هذه الإشارة كافية لذلك.
رعاية طلاب العلم
وكان يقدم في هذا الجانب طلبة العلم الشرعي على
سواهم : إذ هم اكثر الناس تعففاً وانشغالاً بالعلم عن الكسب الدنيوي وقل من يلتفت
إليهم من الأغنياء وكان يرى أنه إذ أمن لطالب العلم حاجته فان ذلك يجعله يقدم
ويعطي الأمة كثيراً وأنهم أولى من غيرهم بالرعاية إكراماً للعلم الذي يحملون وكثير
من إخواننا وللأسف عن هذا غافلون.
إنفاق بلا حدود
وهنا قد يسأل البعض من أين ينفق الشيخ رحمه
الله؟! كانت سنته في ذلك "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" فكان
بعض أهل الخير يعلمون من الوالد أنه ينفق هاهنا وهاهنا ويقصده الناس فكان البعض
يضع تحت تصرفه شيئاً من زكواته أو صدقاته، فإذا لم يجد شيئاً من ذلك ووجد عنده
شيئا وقل أن تجد عنده شيئا من ماله أعطى وكان أحيانا يقترض ليلبي حاجة ثم يسدد بعد
ذلك مما يأتي من سهم الغارمين أو من ماله أو غير ذلك.
وإذ
انتقل بنا الحديث إلى المال أقص هذه القصة المؤثرة في نفسي إلى الآن، فكما قلت كان
رحمه الله لا يدخر شيئا وكان منهجه ـ كما ذكرت ـ أنفق بلال.
وفي عام 1987م قبلت أنا وأخي في الدراسات
العليا في الجامعة الأردنية وكان ذلك يقتضي منا أن ندفع رسوم التسجيل، وكانت تزيد
عن 350 ديناراً أردنياً لكل واحد، ولم نكن نملك منها شيئا حتى فكرنا بالعدول عن
التسجيل وكادت تضيع الفرصة والوالد رحمه الله صامت لا يتكلم بشيء.
وفي
صحوة النهار علم بأن أخا في الله عاد من سفر، فرأى أن الواجب يقتضي الذهاب للسلام
عليه، وكانت زيارة عادية جداً، ولم نكن نفكر بشيء لحظة الزيارة ولم نفتح مع الأخ
المزور أي حوار يفهم منه شيئا ما بصدد ما نحن فيه من الضيق وغير ذلك، وإذا بالأخ
ونحن نهم بالخروج من عنده يعطي الوالد رحمه الله مغلفاً يشتمل على شيء من المال
يتصرف فيه، وهاهنا ما كان الوالد رحمه الله إلا أن صارحه بحاجتنا لرسوم التسجيل في
الجامعة، واستأذنه بذلك! "ومن يتق الله يجعل له مخرجا".
وحقيقة
فإنه كما كان الوالد رحمه الله يتمثل بـ"أنفق يا بلال" فإن كرم الله لا
حدود له" ولا تخش من ذي العرش إقلالا" فلم نمر بضائقة يوماً إلا ويسر
الله فكها بأيسر السبل.
وأعود
إلى موضوع الزيارات قليلاً: كان رحمه الله حريصاً على زيارات إخوانه في مرض أو
حاجة وأذكر ـ فيما أذكر ـ إلى الآن زيارته للشيخ أحمد قطيش رحمه
الله في المستشفى الإسلامي وزيارته للشيخ ناصر الألباني رحمه الله.
ولك أن
تقف من خلال هاتين الزيارتين على جمل من أدب أهل العلم مع الموافق لهم في الرأي
والمخالف في آن واحد.
فأذكر
أن الشيخ ناصر طرق بعض الموضوعات التي ربما للوالد رحمه الله رأي فيها، لكنه استمع
إليه منصتاً دون أن يحاوره بشيء، فالرجل أكبر سناً وهو في زيارة مريض ليس من
المعقول أن يحاوره فيها.
أما
زيارة المرحوم أحمد قطيش ـ أمين عام الجبهة الإسلامية في الأردن سابقاً ـ فقد كانت
مجالاً لتناول هموم الأمة ومشكلاتها بالرغم من أن كلا الرجلين كانا مريضين.
وكان
يطلب مني بعض طلبة الجامعة لما كنت أدرس فيها اللقاء بالوالد رحمه الله، فما كان
يرد طلباً لأحد منهم طالما أن الظرف يسمح بذلك… مرة التقى ببعض الشباب الذين هم على أبواب التخرج من المرحلة
الجامعية الأولى وجرى حديث حول أمور السياسة والفقه ومستقبل العالم الإسلامي، فكان
مما قاله لأولئك الشباب: أنتم أساتذة ولستم طلبة فماذا تريدون أن أزيدكم، قال ذلك
لما رأى من نضجهم ووعيهم… وقد كان هذا شأنه مع الناس يتواضع لهم وينزلهم منازلهم ويكرمهم.
رعايته لأهل بيته
كان رحمه الله رغم كثرة مشاغله الدعوية
والعلنية والسياسية يولي بيته رعاية خاصة ومن القضايا التي يوليها الوالد رحمه
الله اهتماما خاصاً قضية العلم والذكر وتعميق محبة الله ورسوله في قلوبنا، فلا
يترك مناسبة لذلك إلا ويستثمرها، أذكر مرة أنه أهدى إلي وأنا صغير (مسبحة) جميلة
فأعجبت أخي وأرادها فكان الوالد رحمه الله حكيماً، فكان أن أشترط على من يأخذها أن
يصلي في اليوم على رسول الله ألف مرة، فمن يقوم بالشرط يأخذها وكانت من نصيب أخي.
كما
أنه أخذ علي مرة العهد أن ألتزم ورداً يوميا يسيراً، لكنه في التربية مهم، وهو
مائة مرة استغفار ومائة مرة تهليل ومائة مرة صلاة على رسول الله عليه السلام وثلاث
مرات سورة الإخلاص صباحا ومساء ما أمكن.
وكان
يعقد لنا في البيت جلسات لتعليم تلاوة القرآن وتفسيره، وقد قرأنا على يديه كتاب
شرح جوهرة التوحيد في العقيدة وكتاب قطر الندى وقسماً من المجلد الأول من الأساس
في التفسير وقرأنا بحضوره على الشيخ وهبي الغاوجي الألباني متن اللباب المسمى
(الكتاب) في الفقه الحنفي، وكان يحرص أن يشركنا معه في جهوده في التأليف بقصد
الإفادة وتحصيل العلم وجعلنا قريبين منه نفيد كما يفيد هو ويفيد.
كان
التحقيق العلمي البعيد عن أي تعصب أو انطواء أو مذهبية منغلقة شأنه دائما، يأتيه
المستفتي الذي وقع في حرج ما جراء مسألة فإذا وجد المخرج له في مذهب غير مذهبه
الحنفي أفتى له بذلك أو أرشده إلى من يثق به من العلماء، وقد كان حريصاً على أن لا
يخرج عن آراء أهل العلم مجتمعين . . كان بعض الأخوة التجار يسألونه عن رأيه في
التأمين، فيقول لهم الأستاذ مصطفى الزرقا يجوّز ذلك بشروط، يقولون نريد رأيك،
فيعيد عليهم شيخنا الزرقا يجوز ذلك بشروط.
وأعود
مرة أخرى إلى جلساته التربوية في البيت فلشدة اهتمامه بذلك عقد لنا عدداً من
المجالس التربوية كان ثمارها رسالة بعنوان "قوانين البيت المسلم" نشرت
مختصرة ضمن كتاب "كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر" بل تستطيع أن
تقول إن جل ما في هذا الكتاب، وكتاب مذكرات في منازل الصديقين والربانيين وجند
الله تخطيطا وجند الله تنظيماً وغيرها من الكتب هي ثمار جلسات كان يعقدها لإخوانه
وأحبابه وأهل بيته.
وحدثني
بعض الأخوة الذين عاصروا شباب الوالد رحمه الله أنه درسهم مضامين كتاب
"الله" و"جند الله" و"المدخل" قبل أن يكتبها رحمه
الله على هيئة كتاب.
حرص على الوقت
وهنا تخطر ببالي قضية بمناسبة الحديث عن العلم،
فكثيراً ما يسألني بعض الأخوة متى كان الوالد يكتب ويؤلف رغم هذه الأنشطة الدعوية
والحركية والسياسية والأمراض الكثيرة فمؤلفاته زادت على أربعين مجلداً.
لقد
كان يحاول أن ينظم وقته ما استطاع، فوقت الصباح بعد صلاة الفجر إلى ضحوة النهار
يحاول أن يستثمر في التأليف، فإذا لم يكن ذلك لسبب من الأسباب فإن الوقت الآخر
الذي كان يفضله بعد صلاة العشاء إلى الفجر وفي النهاية ينام قليلاً، ويقوم
بالأعمال الدعوية العامة، وقد كان يحاول في كل فترة من الزمن أن يعتزل الناس لفترة
من الوقت ينجز فيها أفكاراً اختمرت في ذهنه ليخرج لنا كتاباً من كتبه، كما أن فترة
السجن كان لها فضل في ذلك. ويسأل بعض الأخوة كيف كان يعيش الشيخ في بيته، كيف كان
يأكل ويشرب وينام ويتعامل مع أهله، والحقيقة أن الأمر أبسط وأيسر من ذلك بكثير،
فلربما من يرى الوالد رحمه الله لأول وهلة خاصة إذا رآه يتحدث أو يخطب أو يحاضر
فلربما أوقع ذلك في نفسه هيبة أو رهبة، كما كان بعضهم يذكر، لكنها سرعان ما تتقلب
أنسا ولطفا وبساطة، إذ هكذا كان بساطة في كل شيء لا يعرف شيئاً اسمه التكلف.
أذكر
أنه يوماً دعا بعض الأخوة إلى غذاء ونسي أنه قد دعاهم وقد كان عنده ضيوف فوضع لهم
ما تيسر من طعام ثم حضر الأخوة المدعون أصلاً، وكان الغداء قد انتهى ولم يكن عندنا
شيء جاهز نقدمه لهم فقام رحمه الله بنفسه إلى المطبخ واعد لهم غداء متواضعاً
وسريعاً شيئاً من الأرز مع ما يسمى عندنا بالملفوف وهو من أنواع الخضار، ولبساطته
كان يحب أن يخرج إلى النزهة مع إخوانه وأهل بيته ويحب أن يخدم غيره بنفسه وكثيراً
ما كان يعد لنا نحن أهل بيته أصنافاً من الطعام بسيطة لكنها لذيذة كفتة الحمص أو
الدجاج أو المتبل البستاني، ويحب أن يدخل السرور على أهل بيته ويشاركهم في أعمالهم
البيتيه كما هي السنة عن رسول الله عليه السلام.
ونعود مرة أخرى إلى بعض الشؤون العلمية:
فلقد كان حريصاً على الحق أينما كان متواضعاً
في طلبه، أذكر أنه مرة ألقى محاضرة في الرياض حول منطلقات إسلامية لحضارة عالمية
جديدة (نشرت) فقام أحد الأساتذة ليقول أن هذه المحاضرة عاطفية أكثر منها عقلانية،
وقام آخر لينتقد تلك المنطلقات بأنها حالمة أكثر من كونها واقعية، وكل أخذ يدلي
بدلوه منتقداً ومنقحاً أو أحياناً ذاماً وأحياناً مادحاً، وبعد أن أنهى كل مقالته
كان أن قال لهم لئن كانت هذه انتقاداتكم فقط فأنا إذن سعيد جداً فقد أبقيتم أكثر
مما رفضتم أو نحو ذلك.
وواجهه
بعض الأخوة بانتقادات وخاصة لكتاب تربيتنا الروحية وكان مما قاله في هذا الشأن
للشيخ ابن باز ضع يا فضيلة الشيخ ما تريد من تعليقات وتصويبات وأنا أطبعها مع
الكتاب دون تعليق. وقد بلغني أنه قال هذا لآخرين ممن يثق بهم من أهل العلم.
تلتقي
في شخصية الشيخ روح المداعبة والبساطة مع هيبة أهل العلم ووقارهم وحزم الساسة
وحكمة الكبار وحلم المربين ولبساطته فقد كان لا يتكلف في لباسه وخاصة في البيت
وكان مرة يلبس ثوباً قصيراً وتحته سروال طويل كاللباس الباكستاني وزاره أحد الشيوخ
الكبار وهو ممن يحب المداعبة والنكتة فقال مداعباً يا شيخ نحن في مستشفى المجانين
(نظراً لطبيعة اللباس) فقال والدي مداعباً الشيخ: يشرفني أن أكون في مستشفى أنت
مديره، وضحكا . .
يتلقى من الآخرين انتقاداتهم بصدر رحب، من ذلك
أنه زاره في مرضه الأستاذ زهير الشاويش ووجه له ثلاثة انتقادات حول كتاب هذه
تجربتي، مفادها أنه أعطى مدينة حماة أهمية أكبر من حجمها، وأنه لم يف بعض الشخصيات
حقهم، وأنه كبر من حجم بعض الشخصيات، فتلقى كل ذلك مبتسماً ولم يناقشه في شيء من
ذلك، ومن مداعباته أنه التقى مع الشيخ محمد شقرة وهو من شيوخ المدرسة السلفية،
فقال له: يجب أن نعقد اتفاقية هدنة! فكان الشيخ شقرة حاضر البديهة فقال: وهل بيننا
حرب.
ولقد
اشتهر عن الشيخ أنه كثير الأكل، والحقيقة إن لهذه الأمور ظروفها فبعض هذا صحيح،
لكنه أحياناً كان يأكل كثيراً إما أثراً عن جوع شديد ألم به نتيجة انشغال لمدة
طويلة يوم أو اكثر، أو رغبة في إدخال السرور على من يأكل عنده فلقد زار يوماً أخاً
يعد من الأخوة المغمورين، فطلب منه طعاماً فأكل واكثر حتى قال إما أن تحملوا
الطعام أو تحملوني عن الطعام رغبة في إدخال السرور على أهل البيت، وإلا فلقد كان
عنده الهمة والإرادة ما يمكنه من الانقطاع عن الطعام فترات من الزمن، مرة بقي
أسبوعاً كاملاً لا يشرب إلا الماء وكان في بدايات حياته شديد الزهد والتقشف مما لا
يتسع المجال لسرده الآن…
ذكريات
أي إنسان عن والده كثيرة، فكيف إذا كان هذا الإنسان من أهل العلم والفضل والتربية
والدعوة والجهاد.
وألفت
النظر هنا إنه نظرا لطبيعة حياة الوالد ما بين هجرة وسجن وعمل سياسي ودعوي ميداني
ولقاء بالآخرين فلربما كان لكثيرين ذكريات معه تفوق كثيراً ذكرياتي معه وأتمنى لو
تلقيت من محبي الوالد رحمه الله ممن لهم معه ذكريات ومواقف أتمنى لو تلقيت منهم
شيء مكتوباً في ذلك لنعد كتاباً كاملاً حول الوالد رحمه الله، فإن ذلك في حقه
قليل.
هذا، وقد
يرى بعض الأخوة أن في ما قلته أشياء بسيطة ومواقف عادية ربما تحدث مع إنسان أو
مرشد أو موجه . . وهذا صحيح من وجه، ولكنني حاولت أولاً أن أكون دقيقاً غير متكلف
وهذا ما حضرني ثانياً، وإنما أردت ثالثاً من خلال مجموع ما ذكرت أن ألفت الانتباه
إلى بعض الجوانب التربوية والعملية في حياة الشيخ رحمه الله من خلال مشاهداتي فإن
أصبت بفضل الله ورحمته، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله واستغفر الله.
* * *
وقد سأل أحد المحبين للشيخ سعيد حوى، سأل
ولده الدكتور أحمد عن بعض المواقف من حياة الشيخ، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
من
آدابه مع العلماء وتواضعه لهم:
أذكر عندما خرج الوالد من السجن وكنت في الصف
الخامس، جاء أحد شيوخ حماه وكان عمره ثمانين سنة يريد أن يزور الوالد، وكان بيتنا
في الطابق الثاني، فلمّا رآه نزل الوالد مباشرة، وقال: نأتي إليك، ولكن الشيخ أصر
على الصعود.
ومن شدة اهتمام والدي بأهل العلم ومراجعته لهم؛
أنه بعدما أصيب بالشلل النصفي، وكان عنده بعض المسائل الفقهية التي يريد أن يسأل
عنها الشيخ مصطفى الزرقا، فاتصل به كيف نأتي إليك، فجاء الشيخ الزرقا فجلسوا
جلستين، وتناقشوا في بعض المسائل الفقهية.
موقفه
من المخالف :
أثناء عودة والدي رحمة الله عليه من
المؤتمر الشعبي الإسلامي في العراق، كان في رفقته في الطائرة الشيخ محمد إبراهيم
شقرة، وقد حدث بينهما مداعبة فقال له : يجب أن نعقد وإياكم اتفاقية هدنة ! فأجاب الشيخ
محمد شقرة: وهل بيننا حرب؟ وكانت العلاقة بينهم جيدة بعد ذلك على الرغم من
اختلافهما في الرأي، فلم يكن بينهما عداوة، ومما يؤكد ذلك يوم وفاة الشيخ سعيد رحمه
الله حضر الشيخ شقرة وطلب أن يجهِّز الشيخ سعيد، وأن يصلى عليه في مسجدِه.
من
مواقف في التربية:
كنت في صغري كثير المشاغبة، فكان يداعبني في
ذلك ويقول: يجب عليك أن تكتب كتاباً بعنوان: (عفرتة الأولاد).
وكان الوالد رحمه الله يصبر علينا كثيراً، وكان
رحمه الله بين الفينة والفينة يعقد لأولاده وأهله أو أبناء العائلة جلسة للتأديب،
ويسألنا عن عدد من القضايا الماضية، مما أخطأنا فيه أو أسأنا، فتصير محاكمة
ومساءلة ومسامحة، وربما يصير عقوبات أحياناً نادرة، وأحياناً كان الوالد رحمه الله
يصحح بعض الأخطاء بالتلميح دون التصريح، ولكنا نفهم المراد.
سماحته
في المعاملة والبيوع:
في قضية البيع والشراء كان يتمثل قوله صلى الله
عليه وسلم: (رحم الله امرؤاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى)، ولم يكن يهتم
بالأسعار، هل هي رخيصة أم غالية، إذا أعجبه اشتراه، وإلا تركه، وعندما نقول له:
هذا غالي، لا يهتم لذلك، فهو معتمد في رزقه على الله، ويرغب إذا اشترى أن يكون
مكرِماً للبائع، بحيث يُسَرُّ البائع بربحه.
القراءة
السريعة
:
مما يذكره أحد إخوانه الذين كانوا معه في
السجن؛ أنه كان إذا أمسك كتاباً من خمس مائة صفحة لم يكن ينام حتى ينهيه، وقد
رأينا مثل ذلك في حياتنا معه.
وقد كان ـ رحمه الله ـ تعوَّد سرعةَ القراءة في
طفولته، فقد دفعه جدي محمد ديب حوى رحمه الله إلى استعارة عدد من القصص الشعبية في
كل أسبوع، يقرأها ويستعير غيرها، حتى أنهاها، فاتجه إلى القراءة في كتب المسجد،
فقويت قراءته وصارت سريعة، وزادت ثقافته.
لا
يخص نفسه دون إخوانه:
ومن المواقف التي حدثت له في السجن، قال له مدير
السجن :اكتب التماساً للسيد الرئيس لعله يفرج عنك، ولكن الشيخ كتب التماساً لجميع
من في السجن، فأهمل الطلب.
من
المعونات والكرامات:
1. كنت أنا وأخي محمد نسوق السيارة، وكنا
صغاراً، وليس معنا رخصة، وأردنا أن نسوق من ضاحية الأمير حسن إلى جبل النزهة، ولكن
الوالد أخذ المفتاح، فمشينا فإذا بآخر الموقف دوريات شرطة، فلو تركنا لربما قبضت
علينا.
2. مرة جاءه مبلغ 300 ليرة سوري، وهو ما يعادل
25 دينار أردني، فأرسلها والدي معي وأخي محمد، وقال لنا: اذهبوا بها إلى الشيخ أبي
مصعب الشامي، وهو أحد إخوانه كان يسكن في مركز البلد في عمان، فضربنا الجرس فسمعنا
شيئاً يتحرك خلف الباب، وطال انتظارنا، وبعد دقائق فتح الباب، فسلمنا عليه وقلنا
له: الوالد بعث لك هذه النقود، فقال أبو مصعب: زوجتي في حالة ولادة، وليس في جيبي
شيء، وكيف سأدفع للقابلة؟ فأخذها فقضى بها حاجته مباشرة.
3. جاء مرة إلى الوالد الشيخُ عبد الفتاح أبو
غدة، فقال للوالد: نحن نريد أن نذهب إلى مكة، فقال له: انتظر حتى تتناولوا الغداء
معنا، ولكن الشيخ رفض وذهب إلى مكة، وفي الطريق خربت السيارة، فعادوا إلى بيت
الشيخ سعيد، وقال الشيخ أبو غدة: كما تريد يا شيخ سعيد.
4. مما حدث في فترة الغيبوبة والشلل الكلي، قبيل
وفاته وهو في المستشفى الإسلامي، كما حدثني بعض الممرضين أنه لاحظ على الشيخ
الوالد رحمه الله أنه كان عندما يأتي وقت الأذان؛ لاحظ أنه يتشهد، أي يشير بأصبعه
للتشهد.
رحمه الله
تعالى