الشيخ سعيد حوى . . أباً ومربياً
كتبه ولده: د. محمد سعيد حوى
لقد عشنا
في كنف أبينا؛ فكان أباً رحيماً رؤوفاً عطوفاً شفوقاً، جمع مع الحلمِ الحزمَ، ومع
الصبرِ التأديبُ في موطنه، ومع الحبِّ التوجيهُ والتسديد، ومع الجِدِّ الدعابةُ
اللطيفة، من غير تفريط ولا إفراط .
مع بدأ
تفتح وعيي المعرفي بدأت أشعر أن الوالد بالنسبة لنا أكثر من مجرد كونه والداً فكل
حركاته وأقواله وأفعاله ومواقفه داخلياً وخارجياً كانت تشكل بالنسبة لنا مدرسة
متكاملة وكانت قضية تربية الأبناء إسلاميا مع زرع الخصائص المتميزة فيهم هاجساً
مهماً بالنسبة لوالدي رحمه الله.أذكر كنت في الصف الثاني الابتدائي وعمري سبع
سنوات تحدث إلينا الوالد رحمه الله عن النجاح والتميز في الدراسة فقلت يمكن أن
أكون الثاني أو الثالث على الصف فما رضي ذلك مني، فكان يشكل الدافع والحافز
المستمر لنا للتميز واكتساب أسباب النجاح.وما يترك مناسبة يزرع فيها معنى تربوياً
إلا ويغتنمه.
ما كان
يسمح للخطأ أو الانحراف أن يتسلل، وإن وجد فلا يستمر، إن أجدى التنبيه قضي الأمر
وإلا فلو اقتضى تكرار الملاحظة فعل بلا ملل فإن لم يكن إلا العقوبة فعل، وإن كان
الأكثر من أحواله أن يأخذنا بالنصح المسبق والترغيب ولطالما عقد لنا جلسات عائلية
لغايات المدارسة التربوية فينبه على أدق الأمور والتفاصيل: كيف تتطهر، كيف تستتر،
كيف تتكلم، رفع الصوت، كيف تخاطب الأكبر سناً، كيف تتعامل مع الأشياء وتحافظ
عليها، كيف ترعى حرمة الجيران. ولعل كتابه الموجز (قوانين البيت المسلم ) أنموذج
لما كان يوجهنا به من خلال تلك الجلسات وكان له اهتمام خاص بعقد الجلسات العلمية
الشرعية.
ولقد كان
رحمه الله كما يعرفه أقرب الناس إليه سهل المعاملة لين الجانب حلو المعشر والمنطق
دائم الإبتسامة رقيقاً متواضعاً في تعامله حليماً غاية الحلم فانعكست هذه القضايا
علينا في تربيته لنا فلطالما مازحنا وداعبنا وقدم الهدايا العينية والنقدية
وجالسنا وآنسنا بحلو حديثه فإذا وقعت معصية وخاصة إذا تكررت فكان له موقفه الذي
يحسب له ألف حساب وبالرغم من إصابته بمرض السكري واشتداده في أواخر حياته وضغط
الأعباء الدعويه والهموم السياسية وغيرها مما افقده قدراً من حلمه فصار في آخر
حياته يسارع إليه الغضب تجاه بعض القضايا التي كانت بالنسبة له ذات حساسية كبيره
فإننا مع ذلك لم نلمس منه داخل بيته إلا الألفة والمودة والأنس والحب، أقول:
بالحلم والأنس وبالحب واللطف قاد سفينة البيت مع ما يقتضيه كل موقف.
وأود من
خلال المنهج العملي الذي ربانا عليه رحمه الله أن أضع بين يدي القارئ أهم القواعد
والأسس التربوية التي ربانا عليها رحمه الله، فمنها:
ـ
المحاسبة الدقيقة إشعارا بتحمل المسؤولية والقيام بالواجب على خير وجه ممكن فمثلاً
طلب مني أن أتدرب على الخط وبين أن الخط لابد أن يكون جميلاً وتابع ذلك معي
مراراً، ويكلفنا أحيانا بشراء أمور ثم يحاسبنا بكم اشترينا وكيف ثم يكرمنا بعدها،
ولقد عقد لنا اكثر من محاكمه علنيه لبعض التصرفات مع إحضار الشهود.
ـ
التدريب على تحمل المسؤولية ايضاً كلفني على صغري وأنا دون الخامسة ربما، أن اشتري
له نوعاً من الأقلام فلم أوفق أول مرة إلى ذلك فأعادني كما أذكر أكثر من مرة إلى
المكتبة حتى تمكنت من تحقيق طلبه، كما كلفني أن أقوم وأنا في الثالثة عشرة من عمري
بمهمة دقيقة كانت سبباً في إنقاذ حياة إنسان وصاحبها موجود، وأرسلني من عمان إلى دمشق
ثم حماه وعمري خمسة عشرة عاماً بمفردي.
ـ
التدريب على الشجاعة والجرأة ومن ذلك كان يعرضنا لبعض الأخطار فرفعني مرة في
الهواء وأنا صغير دون الخامسة باتجاه مروحة في السقف فشعر أنني أتخوف من ذلك
فكررها مراراً.
ـ
العقوبة المناسبة في وقتها وقد يظن البعض انه ليس من المناسب الضرب، أقول اذكر مرة
أني شتمت أخي فكان عقاباً عسيراً لكن ما تكررت مني هذه المعصية.
ـ
الترغيب والتشجيع وطالما كان يكافؤنا لأي عمل صحيح نقوم به.
ـ
الحوار والمجادلة، حتى كان يجلس معنا جميعاً أو يتفرد بأحدنا؛ فيحاورنا بقضايا
تتصل بالسياسة أحياناً، أو الفكر أو الشأن والهم الإسلامي.
ـ
الاهتمام بقوة البدن والجانب الرياضي ولقد كلف اكثر من مرة بعض الإخوة ليدربونا
على الجيدو والكراتيه وغيرها.
ـ
حرصه على غرس المعاني الإيمانية: فقد كانت قضية تزكية النفس وغرس الإيمان في القلب
الشغل الشاغل الأكبر له رحمه الله، لذا نجده لا يفتأ يفسر ويشرح ويبين في معاني
قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم
الكتاب الحكمة...) ومعاني قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون من
الكتاب وبما كنتم تدرسون) وكان من أثر ذلك ثلاثة كتب في التزكية: تربيتنا الروحية،
والمستخلص في تزكية الأنفس، ومذكرات في منازل الصديقيين والربانيين.
وأستطيع
القول: إن الإلحاح المستمر على هذه القضايا كان معلماً واضحاً في حياته، بحيث
نشأنا وكأنه لا قضية فوق هذه القضية، ثم عقد المجالس التربوية التي تضمنت التوجيه
المباشر والتذكير منه رحمه الله، أضف إلى ذلك المواقف الخاصة له التي كانت تغرس
فينا هذه المعاني، يزرع فينا معاني التوكل على الله والثقة بما عنده والزهد في
الدنيا من خلال كثرة الإنفاق الذي كنا نلمسه ونشاهده وبشكل منقطع النظير يعرفه كل
أحبابه عنه حتى عاد من السعودية بعد تدريس خمس سنوات هو ووالدتي وهو مدين، والناس
كما تعلمون يذهبون لتلك البلاد ليوفروا ما يتيسر من متاع الدنيا.يربينا على معاني
الجهاد والشجاعة والتضحية ومن ذلك أنه أخرجنا بنفسه مرة ودربنا على استخدام السلاح
في منطقه نائية.
وأصر أن
نشارك إخواننا محنتهم يوم أحداث حماة من خلال الاستعداد لما يمكن وكنت في سن
السابعة عشرة ومعي أخي أحمد ويصغرني سنة علماً أنه أصر أن ألتحق بمدرسة للتدريب
الكشفي ونحوه في سن الخامسة عشرة، المواقف المؤثرة والعملية منه كانت من أكبر
الجوانب التي زرعت فينا قضايا التزكية ومعاني الإيمان، وما عرفناه عنه من كثرة
العبادة والذكر سبب آخر يمارسه في نفسه ويوجهنا إليه باستمرار ولقد كان في شبابه
أكثر صياماً وذكراً ومجاهدةً وقياماً وتلاوةً لكتاب الله ولطالما حدثنا جدي وجدتي
عن مجاهداته وتلاواته وصيامه وقيامه فكان ذلك يشكل حافزاً لنا، إنما بسبب المرض في
آخر حياته ضعف عن بعض الأعمال، ومع ذلك كان في مجلسه الخاص دائم الذكر
فكان ذلك
مذكراً لنا بذلك.
ـ
التوجيه إلى القراءة: أذكر كان يوجهنا إلى قراءة عدد من الكتب ذات الفائدة الخاصة
في النواحي المختلفة الأدبية والشرعية والثقافية، فمن الناحية الأدبية وجهنا
لقراءة كتب مصطفى صادق الرافعي وقصص نجيب الكيلاني وكان يهيأ لنا ذلك، ويلمح لنا
إلى كيفية الإفادة من الكتاب والقراءة السريعة كأن تطالع الفهرس لتقف على
الموضوعات التي اشتمل عليها الكتاب لتأخذ تصوراً عنها، ثم نقرأ المقدمة لتجعل بينك
وبين الكتاب وموضوعاته جسراً وتواصلاً، ثم كيف تكون القراءة السريعة المعتمدة على
التركيز وقطع أسباب الإنشغال، إلا إذا كان الكتاب من الكتب الدقيقة أو العسيرة في
بنائها، فتهيئة الكتاب والتوجيه إلى المهم منه والثناء على بعضها بما تستحق
والتوجيه إلى حسن التعامل وسرعة القراءة أسباب في نماء حب المطالعة. ولكن أعترف
أننا لم نرق إلى بعض يسير مما كان عليه الوالد من كثرة المطالعة وسرعتها.
ـ
مراعاة قضية الوقت: من يعرف الوالد رحمه الله يعرف تماماً كم كان العمل العام
يستغرقه، حدث بعض تلامذته عن الدروس والجلسات العلمية التي كان يعطيها لأبناء
الدعوة حتى إلى ما بعد منتصف الليل ثم كان عليه أن يذهب إلى دوامه مبكراً، وكان
زواره كثر وما كان يعتذر لأحد تقريباً إلا لضرورة قاهرة حتى في مرضه، ولذلك كان
بعض الناس يتساءل متى يتسنى للشيخ أن يكتب مؤلفاته الكثيرة. والواقع أنه كان ينظم
وقته ما استطاع، فعلى سبيل المثال ما بعد الفجر كان للتأليف غالباً وهذا وقت لا
يشغله أحد فيه ثم كانت محنة السجن ساعدته إلى إنجاز التفسير وبعض الأعمال الأخرى،
ومهما استطاع أن يقتطع لنا من وقته جزءاً إلا وفعل، فإن خرج إلى المسجد اصطحبنا معه
وإن عقد مجلس علم شاركنا فيها، وإن زاره الضيوف متعلمين مسترشدين جلسنا بينهم، وإن
كتب وألف أجلسنا معه نشاركه ونعينه في الكتابة والتأليف والنسخ فكنا جسماً واحداً
لا نشعر أبداً أنه ينشغل عنا إلا لما كان الأمر يتعلق بالعمل السياسي الخاص، وإلا
ففي أعماله الأخرى كان حريصاً أن نكون معه ونشاركه في كل شيء.
على أنه
يمكن تقسيم مراحل حياته هذه إلى أربع مراحل وهي :
الأولى: مرحلة
السعودية وكنا دون السادسة من عمرنا وهي من أكثر المراحل انشغالاً بالنسبة له ومع
ذلك ألف سلسلة الأصول الثلاثة وجند الله وبعض المؤلفات الأخرى، ولكن لصغر سننا
كانت الوالدة جزاها الله خيراً هي الأكثر اهتماماً ولصوقاً بنا، ولقد أحسن الله
إليه وإلينا أن وفق للزواج من امرأة صالحة عابدة عالمة من بيت علم ودين وخلق فكان
لها أعظم الأثر خاصة في مرحلة الطفولة وما تلاها.
الثانية: مرحلة
السجن وعمري كان فيها ما بين الثامنة والثالثة عشرة ومع ذلك كلما زرناه في السجن
وكنا نزوره كل أسبوعين مرة فقد كانت التوجيهات المختلفة هي محور حديثه :كم حفظتم
من كتاب الله، ما أخبار العالم الإسلامي ومن خلالها يزرع فينا معاني الاهتمام
بقضايا المسلمين والموقف منها، كيف صلاتكم والتزامكم بالمساجد، ما نتائج
امتحاناتكم. تلك كانت محاور أساسية فما انقطع التوجيه ومع ذلك بفضل الله، ثم
الوالدة قد غطت هذه المرحلة تماماً.
الثالثة: 78 - 82 وانشغل بها كثيراً في أعمال
الإخوان وقيادتها، لكن كان يقتطع من وقته لنا ما يسدد به مسيرتنا.
الرابعة: ما
بين 83 - 89 حيث كان أكثر وقته يمضيه إما داخل البيت أو في عمل دعوي تربوي، فكنا
شبه ملازمين له رحمه الله.
تأثيره على
أولاده في التوجه إلى مسلك العلم الشرعي والدعوة
كتبه: د.
معاذ سعيد حوى
لقد عرفنا
معنى الجندية لله وفي هذا الدين من خلال حياة والدنا، فعرفناها من فعله أكثر من
قوله، ولقد كان أحد إخواني ـ ولعله أكثرنا ذكاءاً ـ يرغب في دراسة علمية فنصحه
الوالد أن هذا الدين وعلم الدين أولى بالأذكياء، فإذا ذهب الأذكياء إلى التخصصات
العلمية الدنيوية فمن لهذا الدين، ولم يلزمه والدي بذلك، فاقتنع أخي وسار في طريق
العلم الشرعي.
وحينما يرث
الولد من علم والده ويعيش في بيئة العلم والعلماء الصادقين؛ فإن ذلك يجعله أقرب
إلى العلم ويسهل عليه أخذ العلم، لا سيما مع كثرة ما يسمع من مسائل ودروس بغير
مشقة السعي، ولا ذهاب أوقات في إتيان الدروس وتحصيل الفوائد.
وقد درست
أنا وأخوي محمد وأحمد في كليات الشريعة حتى حصلنا الدكتوراه، بعد وفاة الوالد رحمه
الله، وقد أوصانا الوالد رحمه الله بأمرين قبل وفاته:
الأمر
الأول: إتمام الدراسة الجامعية إلى الدكتوراه، لأن الجامعات هي منبر العلم اليوم،
والعالِم لا يستطيع أن يعلم ولا أن يربي على منهجه العلمي إلا من خلالها غالباً،
وقد أوصى الوالدة رضي الله عنها وأمد في عمرها وعافيتها أن تتابع ذلك وأن تدفعنا
إليه، فكان لها فضل علينا في ذلك.
الأمر
الثاني: حثنا على العمل الدعوي والعلمي من خلال المسجد، وإمامة المسجد، لأن العمل
من خلال المسجد أعظم بركة وأوسع أثراً، وقد يسر لنا ذلك فثلاثتنا أئمة مساجد
وخطباء، والحمد لله ونسأله العون والتوفيق.
وقد كان
يوصينا الوالد بعدم التوسع في العلاقات الاجتماعية خلال فترة طلب العلم، لأن هذه
العلاقات غالباً ما تكون على حساب طلب العلم، كما أنها تكون على حساب تزكية النفس
والاجتهاد في العبادة والذكر وقراءة القرآن.