من أخلاق الشيخ وشمائله
كتبه ولده: د. معاذ سعيد حوى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
ـ كان الوالد رحمه الله من رآه عرف فيه إخلاصه،
وعرف فيه إقباله على الله سبحانه وتعالى، وعرف فيه علمه، وقوة حجته رحمه الله،
وعرف فيه فطرتهُ.
ـ من رآه لأوّل مرة في حياته وجده كأقرب الناس
إليه، بمجرد ما كنت تتعرف عليه تألفه، وكأنّك تعرفه من سنوات.
ـ لم يكن متكلّفاً في شيء من حياته، لا في
مجلسٍ ولا في طعام ولا في لباس، ولا في تأليف، ولا غير ذلك، يحب الجمال ويحب الترتيب
والنظافة، لكن من غير تكلف أو انزعاج لذلك، ترى في التحقق بقوله تعالى: (وما أنا
من المتكلفين).
ـ كان كثير الاهتمام بذكر الله وطاعته، مع
اهتمامه بالعلم، كان يدرك تماماً أنّ العلم وحده لا يكفى، إذا لم يوجد عند الإنسان
تربية وخلق وعمل صالح وعبادة وذكر، فهذه الأمور هي التي تعطي القوّة والهمّة
والثّبات والبركة في العلم.
ـ كان يركز على خدمة المسلمين، فالله تعالى خلق
الناس يحتاجون إلى بعضهم في قضاء حوائجهم، وقد جعل الله هذا الباب من أبواب
العبودية، وقد يفتح الله لك باب خدمة الناس ما لم يفتح لغيرك، وقد تعطى من الجاه
ومن العلم ومن الشهرة ما يجعل لك قدرة على قضاء حوائج النّاس، فتكون عندئذ ملزماً
بخدمة الناس وقضاء حوائجهم والمشي في أمورهم أكثر من غيرك، كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم تأتي إليه الأمة من إماء المدينة، فتأخذ بيده ليقضي لها حاجة ما، كما
روى البخاري، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي معها ويقضي حاجتها، من تواضعه
العظيم، ولا يرى مقامه مانعاً من خدمتها، وهذا واجب، على كلّ مسلم أن يهتمّ به
فيما أتاه الله من قدرة، وكان يرى أن الجاه والشهرة نعمة يجب الشكر عليها، ومن شكر
الجاه والشهرة التي أعطاك الله إياها أن تقوم بحقها وتستخدمها في نفع المسلمين.
مرّة سأله أحد طلاب العلم عن الشهرة فقال: الشهرة
نعمة ينبغي أن تقوم بحق الله فيها وتشكره عليها، الناس ينظرون إلى الشهرة من جانب الخوف
منها أن تؤدي إلى الغرور، ولكن الوالد رحمه الله وجَّه نظره إلى جانب آخر، فالشهرة
لخدمة الناس، لا للكبر والغرور، أعاذنا الله منهما.
وكثيراً ما كان يذكِّر إخوانه وتلاميذه بخدمة
المسلمين والتواضع لهم، مع تركيزه على العلم والذكر والدعوة.
ـ كان رحمه الله مداوماً على أذكاره وأوراده في
الصباح وفي المساء ،ويكثر من ذكر الله خلال النهار حتى مع الناس في مجالسهم ما لم
يكن يتكلم، وكان يحث من حوله على ذلك.
ـ لقد كان
لنا خير قدوة، فقد كان مثالاً في الخير والحق، رأينا حبه للخير والعمل والصالح،
رأينا من قيامه لليل، رأينا من كثرة ذكره، رأينا من حبه للقرآن وكثرة تلاوته،
رأينا من حبه للعلم وتقديره للعلماء، رأينا من صدقته، رأينا من كرمه، رأينا من
أدبه وتواضعه ومحبته للمسلمين ووحدتهم، رأينا من هِمَّته في التأليف والتعليم
والدعوة، رأينا من حبه للجهاد، رأينا من رحمته وحمله لهموم الأمة.
ومع قدوته
لنا في كل ذلك؛ لم يكن يترك نصيحة أهله وتربيتهم وموعظتهم، يحذر من الخطأ
والانحراف.
ـ كان الوالد رحمة الله عليه بعد أن خرج من
السجن وجاء إلى الأردن، كان مشغولاً إلى حد كبير في أعمال الإخوان المسلمين وفي علاقته
بهم، فكان استماعُنا إليه وتعلُّمُنا منه قليلاً، رغم انتفاعنا من صحبته وأدبه
وحاله، لكنه استدرك ذلك في السنوات الأخيرة من حياته، فجعل لنا جلسة يومية وفي بعض
الفترات كانت جلسة أسبوعية، قرأنا فيها من التفسير واللغة وعلم العقيدة والفقه
خلال سنتين، فقطعنا فيها شوطاً طيّباًً، قرأنا معه النّصف الأوَل من الجزء الأول
من (الأساس في التفسير)، وقرأنا سورة الكهف وبعض سور أخرى، وقرأنا كثيراً من (قطر
الندى) في قواعد اللغة العربية، وكتاب (اللباب) في الفقه الحنفي وكتاب (جوهرة
التوحيد) في العقيدة.
ـ كان الوالد رحمه الله يؤكد على الأخلاق والآداب
في البيت، وله رسالة صغيرة (قوانين بيت المسلم)، كتبها بلا تكلف، أصل هذه الرسالة
دروس كان يلقيها علينا في البيت، يعلِّم أهل البيت رجالاً ونساءً، وجعل من هذه
الدروس هذه الرسالة التي تَشعر بأنها متواضعة، وقريبة إلى القلب، تتكلم عن واقع البيت،
وما يمكن أن يكون في البيت، وما يحتاجه من أعمال وآداب وأخلاق واهتمامات ..
ـ كان الوالد رحمه الله لا يضرب أبناءه إلا قليلاً
ونادراً جدّاً، فلا يضرب إلا لخطأ كبير، وإذا ضرب أوجع بحيث يؤثر في النفس، ويزجر
عن الرجوع إلى الغلظ، وهذا شيء طيب في التربية، لأن الإنسان إذا اعتاد على ضرب
أولاده وأكثر من ذلك لم يعد يؤثر فيهم الضرب.
ـ كان على هيبته وجلالته ووقاره؛ يُشعرنا وكأنه
صاحبٌ أو صديق أو أخٌ لنا، لم نكن نشعر بخوف منه إلا حينما نقع في غلط فإننا ننتظر
تأديبه وتنبيهه، كانت علاقتنا معه علاقة حب وتقدير وهيبة واحترام، فكنا نعامله كعالم
جليل مهيب، أكثر مما نعامله كأب، على الرغم من حنان أبوته وقربه من قلوبنا وتلطفه
بنا، ولم يكن يحتاج إلى كلام كثير في التأديب أو إلى ضرب، لأن الهيبة والاحترام
والإجلال كانت تشكِّل حاجزاً دون خطئنا أو تجاوزنا للحدود أو سوء الأدب فيما بيننا،
ولعل من أسباب هيبته في قلوبنا كونه كان سجيناً في فترة طفولتنا.
ـ كان من
حرصه على وقاية أهله وأولاده؛ يرى تبكير الزواج، ليكون سبباً في الحفظ والتحصين،
وخاصة في مثل هذا العصر وما فيه من فساد كثير وتبرج، فزوجنا الوالد قبل دخولنا
الجامعة، فزوج أخوي محمد وأحمد معاً، وكان عمرهما ثماني عشرة سنة وسبع عشرة سنة، وزوَّجني
وعمري ثماني عشرة سنة ونصف، وكان يرى أنه لا ينبغي أن ندخل الجامعة حتى نكون
متزوجين، فيسر الله له ذلك وأكرمه بما يريد.
عبـادتـه :
1.
صلوات النوافل والتهجد:
أما عن صلوات النوافل والتهجد فلا أذكر الشيء
الكثير في ذلك، لكن كنا نراه أحياناً يقوم في الليل إلى الصلاة، وأحياناً كان يقوم
إلى العلم والتأليف في الليل، كنّا نستيقظ أحياناً الساعة الثالثة قبل الفجر فنجده
يكتب أو يقرأ، وكان يحرص على صلاة الضحى وعلى السنن الراتبة، وقد أخبرنا بعض من
كان معه في السجن عن كثرة قيامه الليل، فربما قام بخمسة أجزاء من القرآن في الليلة
الواحدة.
وقد كان كثير الاجتهاد في العبادة والقيام
والذكر في السجن، وخاصة في الأشهر الأولى منه، والتي أمضاها في زنزانة منفردة.
2.
حفظه للقرآن وتلاوته:
حفظ القرآن في أربعة أشهر، وهو طالب في جامعة
دمشق، وكان مداوماً على قراءته باستمرار.
أما كم كان يقرأ؟ هل كان يختم كل شهر؟ أم يقرأ
كل شهر مرتين؟ لا أعرف بالضبط لكن في آخر حياته بالإضافة إلى ما يقرؤه بنفسه كان
يراجع القرآن بتسميعه علينا كل فترة ليتأكد من قوة الحفظ.
وكانت قدرته على استحضار أي آية للاستدلال على
أي موضوع؛ قدرة عظيمة، لم أر مثلها عند عالم أو حافظ لكتاب الله.
وكان حفظه قوياً جداً، وكان ـ حينما نسمِّع له ـ
إذا أخطأ في سورة ما مثل سورة النمل؛ إذا أخطأ خطأين أو ثلاثة يعيدها من أولها إلى
آخرها تثبيتا للحفظ.
وفي آخر حياته لما ثقل لسانه وصار معه الشلل
الجزئي، بدلاً أن يقرأ بنفسه كان يكثر من سماع القرآن من المسجِّل، ولما أصابه
الغيبوبة فإتماماً لما كان عليه؛ كنا نضع المسجل فوق رأسه في المستشفى يقرأ
القرآن.
3.
الحج:
حج الوالد عشر مرات، أو إحدى عشرة مرة، فقد مكث
خمس سنوات في السعودية قبل السجن، كان يحج في كل سنة، وبعدما خرج من السجن حج خمس
مرات أو ستاً.
4.
أذكاره وأوراده:
كان الورد الرئيسي عنده، الذي كان يعتبره الحد
الأدنى من الذكر، وكان يحرص عليه، ويعلمه لغيره، وهو الذي أخذناه منه: الاستغفار
مائة مرة، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة مرة، والتهليل (لا إله
إلا الله) مائة مرة في الصباح وفي المساء، مع قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين، كل
واحدة ثلاث مرات في الصباح والمساء.
وله أوراده كالإكثار من الصلاة على الرسول صلى
الله عليه وسلم، وخاصة يوم الجمعة.
تكلم عن الأذكار والأوراد في رسالة (غذاء
العبودية) وغيرها، وأنه ينبغي على الإنسان مع استمراره على أوراده يومياً أن يجعل
لنفسه كل فترة نوعاً من التجديد والنشاط في الذكر، ويترك بعض الأشغال الأخرى من
غير الواجبات لحساب الذكر، فيأتي بأهم الأذكار التي حثت عليها السنة، وهي عشر
أذكار: الاستغفار، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إله إلا الله، وسبحان
الله، والحمد لله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ولا حول
ولا قوة إلا بالله، وحسبي الله ونعم الوكيل، فكان يحث على أن يجعل الإنسان بين
الفترة والأخرى دورة لإحياء القلب بذكر هذه الأذكار، كل واحد منها سبعة آلاف مرة، يبدأ
هذه الدورة بالاستغفار، يذكره سبعة آلاف مرة، سواء انتهى منه في يوم أو يومين أو ثلاثة
أو أكثر، يستمر حتى ينهيها، بحسب فراغه ونشاطه، فإذا أنهى سبعة آلاف من الاستغفار
يبدأ بسبعة آلاف من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمّ لا إله إلا الله،
وهكذا حتى ينتهي من هذه الأذكار العشرة خلال أيام، فإنها تعطي نوراً للقلب
وتجديداً في حياة الإنسان، وغذاء لمعاني العبودية، وتحديد العدد ليس مقصوداً لذاته
فليس هو من السنة، بل هو للكثرة، فيجوز أن يحدد الإنسان لنفسه أي عدد آخر.
وإذا أراد أن يعمل دورة أعلى من ذلك، وعنده
فراغ أكثر يعملها سبعون ألفا بدل سبعة آلاف، لكل ذكر، وكان الوالد يحرص كل فترة
على ذلك.
وكان يركز على الصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، لأن بعض شيوخه كان يقول: من لم يكن له شيخ فإن الصلاة على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ألف مرة في اليوم تنوب مناب ذلك إلى أن يدله الله تعالى على
الشيخ المرشد.
زواجــه:
تزوج وهو ابن ثلاثين، فقد كان انشغاله بالدعوة
والعلم والعبادة سبباً في عدم التفاته كثيراً إلى هذا الأمر، حتى سعى له بعض
إخوانه وأحبابه في ذلك، وقد يسر الله له زوجة صالحة من أبوين صالحين، وقد كانت
جدتي إذا خُطِبَتِ الوالدة أغلت المهر، حتى إذا خطبها الوالد لم تطلب منه مهراً،
فتزوجها بخاتم من ذهب.
صور من حياته في السجن، وتربيتنا وهو في السجن:
حياته في السجن
أول فترة كان منفرداً فكانت تشبه العزلة والخلوة مع الله بين عبادة وذكر و فكر، ولما
انتقل إلى المهاجع مع المساجين، فكان يعيش حياته الجماعية معهم، فكان له أوراده
وأذكاره وتلاوته للقرآن، ولكن الشيء البارز في ذلك كثرة الدروس: دروس في التجويد
والتفسير والسيرة والفقه والحديث والتزكية واللغة، وكان يصل عدد الدروس أحياناً في
اليوم إلى أربعة عشر درساً، وأحياناً كان يوقف الدروس فجأة حتى يغير الجو كنوع من
التجديد، ومراعاة لأحوال المساجين ونفسياتهم، وربّما مكث الأيام لا يتكلم، يشغل
نفسه بذكر الله.
وألف في السجن عدداً من كتبه الأساس في التفسير،
وكتاب من أجل خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك.
وكنا نزوره بين الفترة
والفترة في السجن، فكان يوصينا بالصلاة ويوصى الوالدة بنا.
وقد كان للوالدة فضل عظيم
في تربيتنا، وخاصّة ونحن في سنّ النشأة، مع غياب الوالد في السجن، فكانت تهتم
بالصلاة، وإلى الآن أذكر وكان عمري ست سنين وإخواني أكبر مني، فكانت توقظهم على
الصلاة، وتهددهم بالضرب ليقوموا إلى صلاة الفجر، فلمّا رأيت ذلك فمن يومها وإلى
الآن ما تركت الصلاة، والحمد لله، وكانت تمنعنا الوالدة من التأخر خارج البيت بعد
المغرب حرصاً علينا وحفظا لنا، ونحن صغار.
من أعماله بعد مرضه:
الوالد رحمه الله
في آخر حياته ذهب بصره بسبب السكري، ولم يعد يكتب بنفسه، فكان يملي علينا إملاءً ونكتب
ونضع ما كتبناه حيث يأمرنا، فمثلاَ كتاب (جند الله تخطيطاً) مؤلف من أربعين فصلاً
،كل يوم يملي علينا فصلاً ـ أنا أو إخواني أو الوالدة ـ فخلال أربعين يوماً أنهى
الكتاب، وأيضاً كتاب (الأساس في السنة)، كان قد جمع أحاديثه من قبل واختار منها
الصحيح والحسن، فتمم بعض التعليقات عليه إملاءً علينا، نقرأ عليه الأحاديث ويعلق
عليها.
حبه
للنبي صلى الله عليه وسلم :
أما حبه للنبي صلى
الله عليه وسلم فينبئك عن ذلك كتابه (الرسول صلى الله عليه وسلم) ورسالته: (السيرة
بلغة الحب والشعر)، هذا الكتاب التي نبه فيه إلى خطأ من يقول: إن الحب هو الاتباع
فقط، صحيح أن الحب يقتضي الاتباع، ولكن ليس الحب الاتباع فقط، الحب عاطفة وميل
وانجذاب إلى المحبوب وتعلق به، وبعض الناس يرى أن الحب هو الاتباع فلا تجد عنده أي
عاطفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة فإن الاتباع هو ثمرة الحب،
كما قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فالاتباع لازم
وثمرة من ثمرات الحب، وليس هو الحب حقيقة.
من
أبرز أخلاق الشيخ سعيد رحمه الله: الزهد والكرم والتوكل والتواضع:
أما عن زهده فكان رحمه الله تعالى لا يهتم
بأمور الدنيا، ولا بزينتها، وخاصة في بداية حياته، كان يعيش على حصيرة وفرش خفيفة،
لم يكن يحرص على مظاهر الدنيا وراحتها ولا يأبه بذلك، على الرغم من أنه كان صاحب ذوق
حسن وتقدير للجمال.
كان ماله في الكرم، وكله لله، إذا جاء الضيف
يكرمه ويضع له طعاماً، كانت صفة الكرم عنده واضحة جداً، ولما درّس في السعودية خمس
سنوات والوالدة كذلك كانت تدرّس في تلك الفترة، والمعروف أن كل واحد يذهب إلى
الخليج أو السعودية يرجع وجيبه مليءٌ، ولكن الوالد رجع مديوناً، ينفق على نفسه
وينفق على أهله وينفق على ضيوفه، وينفق على الناس ويحل مشكلات الناس ولو من ماله
الخاص.
وكان متواضعاً لا يمدح نفسه، ولا يرى لها ميزة، ولا يحتقر أحداً، ولا يترفع
عن شيء، ولا تشعر بتكلف عنده في تواضعه، فهو سجية راسخة عنده.
وأما توكله على الله، فقد كان لا يخفى على من
يعيش معه، أنه كان صاحب ثقة بالله واعتماد عليه وعلى ما عنده، فكان ينفق ولا يخاف
من ذي العرش إقلالاً، ينفق وكأنه لا يخشى من الفقر، ينفق ما دام في جيبه شيء وهو
في حاجة للإنفاق، لا يقول: كيف سأقضي حاجاتي المتوقعة، ولا يقول: أدخر للأيام
شيئاً.
صفة التوكل واضحة في حياة الوالد رحمه الله،
كان أيام دراسته في الشام مثلاً ينفق على نفسه وعلى إخوانه، فما تكاد تنتهي النقود
إلا ويبعث له والده من غير أن يطلب منه، من حسن التوكل، حتى في أواخر حياته
أحياناً كان لا يبقى عندنا في البيت ولا نصف دينار، ولكن الله يأتيه بالرزق وفي
الوقت المناسب، وأحياناً يأتي من حيث لا يحتسب ولا يتوقع، (ومن يتق الله يجعل له
مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: لما قُبِل أخواي محمد وأحمد في الدراسات العليا، وفوجئنا بمضاعفة الرسوم ولم
يكن عندنا ما يكفى لتسجيلهما حتى فكرنا بالعدول عن التسجيل، فذهب الوالد هو وأخواي
ليزوروا أخاً في الله ـ رجلا عراقي الأصل كويتي الجنسية ـ زيارة في الله بعد قدومه
إلى عمان، وبعد انتهاء الزيارة وإذا بالأخ ـ والوالد هم بالخروج من عنده ـ يعطي الوالد
مبلغاً من المال، وهذا المبلغ يكفي لتسجيل أخوي معاً، على الرغم أن الرجل لم يكن
من عادته أن يعطي الوالد قبل هذا.
كان اعتماده على
الله كبيراً وثقته بوعد الله ودعاءِ رسوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم
اجعل رزق آل محمد كفافاً)، فإذا احتاجوا جاءهم رزقهم، وإذا لم يحتاجوا فمالَهم
وللمال؟
كان بيته مفتوحا
للناس للصغير وللكبير وللعالم وللجاهل وللفقير وللغني، كان مضيافاً يرحّب بالضيوف،
وكثيراً ما يتوافد علينا الضيوف من الصباح إلى المساء، يذهب واحد ويأتي واحد، تذهب
مجموعة وتأتي مجموعة، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الحادية عشر ليلاً دون
انقطاع، ولم يكن يُشعِر الناس بضيق من ذلك، على الرغم من مرضه وأتعابه وأشغاله، ويستحث
الناس على الجلوس يؤانسهم ويفيدهم.
بركة الوقت:
كان الوالد رحمه
الله مباركاً في وقته، فالذي ينظر إلى مؤلفاته يقول: إنّه متفرغ للتأليف، والذي
يرى أعماله الدعوية يقول: هذا متفرغ للدعوة، والذي ينظر إلى حياته في البيت وكثرة
الضيوف يقول: ما عنده إلا الضيوف، لكن الله يبارك في وقته، وقت للعلم، ووقت للضيوف،
ووقت للعمل الجماعي، ووقت لصلاته وأوراده وأذكاره وللقرآن، وكل ذلك يتسع له وقته رحمه
الله.
هذا من فضل الله تعالى، عاش أربعاً وخمسين سنة، ألّف فيها ما يقارب خمسين
مجلداً، على كثرة ضيوفه وأعماله ودروسه، كان أحياناً يأتي بورده بعد الفجر مباشرة،
ثمّ يجلس إلى الكتابة، يقول: إذا لم أكتب الآن فلن أستطيع بعد ذلك، بركة النهار في
أوله، كما في الحديث (بورك لأمتي في بكورها).
اعتدال منهجه في التصوف، وحرصه على التصوف العليم المنضبط:
سلك على الشيخ محمد
الهاشمي ثم الشيخ عبد القادر عيسى رحمهما الله، وكان يدرك معاني التصوف وحقائقه، ولكنه
لم يكن يقبل الشطحات، وكان لشيخه الشيخ محمد الحامد أثر طيب في التحذير من الشطحات
والتهاون في العبارات.
كان يؤكد على أن لا
يتحدث الإنسان بشيء قد يفهم على غير وجهه وغير مراد قائله، وكان يقول: نريد التصوف
العليم المنضبط بالكتاب والسنة، التصوف المبني على العلم، بحيث لا يخرج أي شيء من
أعماله وأحواله وعلومه عن الكتاب والسنة، وبحيث لا ينكر عالم العقيدة والفقيه شيئاً
منه.
وإذا كان ينكر عليه
بعض العلماء بعض الأشياء في ذلك؛ فهي كلها مما يدخل في باب الفقه، ويتسع الاجتهاد
والدليل للاختلاف فيها.
وكان يوصي المنشدين
بأن لا ينشدوا ما ينكره عليهم العلماء، وما يكون فيه تجوُّز كبير في التعبير، وما
هو في ظاهره منكرٌ أو غير سليم.
وكان يحبذ للصوفية
أن يبتعدوا عن الأعمال والأقوال الخلافية التي ينكرها عليهم الناس، حتى ولو كان
لهم فيها اجتهاد أو رأي فقهي تحتمله الأدلة.
وموقفه من الشطحات
والبدع التي توجد عند بعض الصوفية واضح في كتابه (تربيتنا الروحية) وغيره، وواضح
فيه موضوعيته وعلميته وإنصافه، فلم يكن يقف مع الصوفية دائماً، ولا يدافع عن كلّ شيء
عندهم، كما يفعل المتعصبون، وإنما يتابع العلم، ويقف مع الدليل والحجة شرعية، كما
كان يرد على غيرهم ما يخالفون الصوفية فيه مما فيه للصوفية وجه أو دليل، فكان
منصفاً معتدلاً باحثاً عن الحق قدر طاقته.
وقد ألف الوالد
رحمه الله في التصوّف والتزكية ثلاثة كتب: (تربيتنا الرّوحية) و(المستخلص في تزكية
الأنفس) مختصر إحياء علوم الدين و(مذكرات في منازل الصديقين والربّانيين)، وهذه
الكتب تكاد تمثل منهجاً متكاملاً في التزكية وتحرير التصوّف مما دخله من دخن
وانحراف وبدع وشطحات، وهذا ما كان يتمناه الإمام حسن البنا رحمه الله؛ أن يقوم
مجموعة من العلماء بتحرير التصوف، وانتقاء جوانبه السليمة؛ فقد قام الوالد رحمه
الله بتوفيق الله بجانب كبير منه.
من الرؤى الصالحة:
1. ذكر لنا الوالد
رحمه الله مرة أنه رآى النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه زجاجة عطر، فتمنى الوالد أن
يضعها النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وضعها في
عقله، ولعل تأويلها واضح فيما كان يملكه الوالد من فكر سديد ثاقب وعلم واسع
وهداية.
2. ومن الرؤى الصالحة
رؤيا حدثنا إياها أحد أقران الوالد، رآها الوالد رحمه الله في بداية أيام سلوكه في
التزكية، فقد رأى في المنام قلبه وهو ممتلئ نوراً.
من الرؤى الصالحة فيه بعد وفاته:
رأت امرأة رؤية في
يوم وفاته، رأت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، والنبي
صلى الله عليه وسلم مشمر، رافع ثوبه قليلاً، ويمشى مسرعاً، فسألَتْه إلى أين تذهب،
فقال: نستقبل الشيخ سعيد حوى، ولعل في هذه الرؤيا بشارة أنه من أهل القبول، وأهل محبة
الرسول صلى الله عليه وسلم.