على
ضوء الصراعات المعاصرة
نظرة
في ضوابط الجهاد الشرعية
أ.
د. محمد سعيد حوى
مدخل:
لقد
بيّن لنا في القرآن العظيم والسنة المطهرة أحكام الجهاد الكلية؛ من حيث
أنواعه، وحكمته ودوافعه ومقاصده وآثاره، ومنهج التعامل مع العدو في
حالات السلم والحرب، ومتى يكون الجهاد مشروعاً ومتى لا يكون، ومن هو العدو الذي
يحارب، ومن لا يحارب، ومتى نكف عن القتال، ومتى نباشره، وكيف نباشره.
وما
أحوجنا اليوم، وقد اشتدت المآسي على المسلمين، وكثر الادعاء باسم الإسلام والجهاد،
كما اشتد العدوان الظالم والتآمر الخطير على الأمة من جهات شتى، وتطور الأمر
إلى الاقتتال الداخلي أحياناً بين بعض من ينسب نفسه إلى الجهاد، وغدا كثيرٌ
من هؤلاء مرتبطاً شاء أم أبى بجهات خارجية ذات ولاءات شتى ومصالح
متضاربة، وغدا قسمٌ منهم مخترقاً من قبل أجهزة مختلفة، وتسربت المصالح
الخاصة والفئوية والمادية إلى نفوس بعضٍ، وتفرقت الكلمة، على الرغم من أننا
نواجه عدواناً على الأمة في ميادين شتى، والحال كما وصفنا بعضه؛ فما أحوجنا أن
نلقي الضوء على بعض الضوابط الشرعية لأحكام الجهاد في ضوء واقع الأمة:
أولاً: تحرير
بعض المصطلحات:
قد
يكون من المفيد هنا أن نحرر بعض المصطلحات
منعاً للالتباس؛ فمن ذلك:
1-
أصل مصطلح
الجهاد مأخوذ من الجُهد، وهو بذل الوسع والطاقة، أمّا الجَهد بالفتح فهو المبالغة
في العمل، والمشقة فيه.
2-
ومن ثمّ عرف
الجهاد بأنه: بذل الوسع والطاقة في نصرة دين الله، بالنفس والمال واللسان.
3-
والقتال نوع من
أنواع الجهاد، ومن ثمَّ عرف بأنه: بذل الوسع والطاقة في قتال أعداء الله، أو هو
الدعاء إلى الدين الحق، وقتال من لم يقبله بالمال والنفس. (ينظر: البدائع 7/ 97،
والدر المختار3/ 238، والفقه الإسلامي6/413).
4-
تعريف الفتنة:
يخلط بعض الناس بين الجهاد وقتال الفتنة؛ فالجهاد كما رأينا عمل عظيم مشروع لنصرة
الحق بكل ما نستطيع، أمّا قتال الفتنة، فحيث لم يتبن الحق، ووقع اقتتال بين
المسلمين أو اختلاف ونزاع؛ فهنا يجب اعتزال الفرق المختلفة كلها.
5-
كما يخلط البعض
بين الجهاد والبغي، فالبغي هو الخروج على الإمام الحق بغير الحق، لشبهة. والواجب
فيه الإصلاح ما أمكن، وإلا فتُقاتَل الفئة الباغية إذا لم تخضع للحق والعدل. (ينظر:
الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، سورة الحجرات).
6-
كما يخلط بعضهم
موضوع الحرابة بالقتال والخروج على الحاكم، فالحرابة هي الخروج على الأمة والنظام
العام بالقوة والسلاح بقصد الإفساد؛ من قتل أو سرقة أو ترويع، وربما خصصها بعضهم
بقطع الطريق. (ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة المائدة، والفقه
الإسلامي6/128).
ثانياً: أحكام أساسية:
الأصل في العلاقات الدولية والإنسانية:
لا شك أن الأصل في كل العلاقات الإنسانية السلم، وكف اليد وعدم الحرب إلا إذا كان أحد الأسباب، قال تعالى: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ
فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾
[النساء: 90].
وقال تعالى: ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
وأمّا ما رواه أبو هريرة t وعُمَرَ t وغيرهما، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» متفق
عليه.
فمعناه أنه إذا بدأ القتال لسبب مشروعٍ ثم أعلن العدو
الإسلام تحت قوة السيف فيجب أن نتوقف، ولا ندعي أنه فعل ذلك خوفاً من السيف، كما
حصل مع أسامة بن زيد t، إذ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ
اللهِ r فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا
الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ r، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا
مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ
أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ
أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ. (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم 96).
الإمام الشرعي شرط أصلي لمشروعية الجهاد:
وإذا كان كل هذا واضحاً جلياً؛ فالأصل في الجهاد
(بمعنى القتال وإعلان الحرب) أنه يكون تحت راية الإمام الشرعي، وعندئذٍ يأخذ
أحكامه من حيث كونه فرض عين أو كفاية، لذلك وجدنا أن النبي r في مكة لم يؤمر بقتال، وكان يقول: «لم أؤمر بقتال
...» (ينظر: مسند الإمام أحمد رقم 15798، وسنده قوي).
ومع هجرة النبي r نزل قوله تعالى : ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ
اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].
وارتبط أمر الجهاد بالهجرة، وقيام الدولة، لذلك جاءت
الآيات ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72].
مما يدل أنه قبل بدء الدولة التي تكونت بعد الهجرة لم
يكن جهادٌ بمعنى القتال، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[النحل: 110].
القتال إذا لم يكن إمام شرعي:
لكننا قد نجد أنفسنا في حالةٍ لا يوجد فيها الإمام
الشرعي، ومع ذلك تقوم كل أسباب الجهاد، ومنها القتال؛ كاحتلال أرض المسلمين في
فلسطين، وكالواقع الدموي المأساوي الظالم المعتدي المغتصب في سوريا، حيث لم يتوقف
الاعتداء لحظة واحدة، فضلاً عن المحاداة لله ولرسوله r، فكان لنا في حادثة أبي بصير دليلاً على أنه من
الممكن أن يقوم جهادٌ كحالة استثنائية من غير وجود راية الإمام الشرعي، فإن أبا
بصير لم يكن تحت سلطان النبي r، وقال r في حقه: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ
كَانَ لَهُ أَحَدٌ» (صحيح البخاري 2731).
ومن هنا يعد مثل هذا الجهاد حالة استثنائية لها ظروفها
القاهرة، ولأنها استثنائية قال أكثر أهل العلم لا تكون هذه الحالة فرض عين ولا
كفاية، بل اختيارياً لمن انتدب نفسه لذلك، ولكنها من أعظم الجهاد عند الله، كما
ورد في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ
عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» (سنن أبي داود، صحيح).
ومع ذلك فثمة فرقٌ بين الجهاد الفردي، والجهاد الذي يشمل
حال الأمة ككل فإن الإنسان عندما يكون فرداً من حقه أن يُقدم كل أنواع التضحية
والاستبسال في سبيل الله إذ هو يتحمل آثار ذلك بنفسه.
رابعاً:
الضوابط الشرعية لقتال العدو:
1-
استنفاذ
الوسائل السلمية، إذ الأصل الامتناع عن ذلك القتال، والسعي للإصلاح ما أمكن، ﴿إن
أريد إلا الإصلاح ما استطعت﴾ ﴿لئلا يكون للناس عليكم حجة﴾، ومما يستأنس به لذلك
أننا نجد النبي r وهو النبي الرسول، وله كل صلاحيات الإمامة والولاية في إعلان الحرب،
لم يكن يدخل في حربٍ أو قتال إلا بعد أن يستنفذ الوسائل الأخرى، ومن هنا وجدنا أن
صلح الحديبية كان مقدمةً للفتح، لتقوم الحجة كاملةً على العدو.
2-
وجود مسوغ قوي من
العدو؛ يصبح الجهاد هو الخيار الوحيد؛ كوقوع الإجرام منه والاعتداء، واستباحة
الأموال والأنفس والأعراض، وامتناعه عن الإصلاح بكل السبل، ومثل هذا ما حدث في
سوريا تماماً، لأن الشأن كما قال تعالى: ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾
[البقرة: 150]، وقال تعالى: ﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ﴾ فلا بد أن يكون الحق
واضحاً جلياً.
3-
ترجيح المصلحة
على المفسدة، وهذه قاعدةٌ مُسلَّمةٌ عند الأئمة، إذ درء المفاسد مقدمٌ على
جلب المصالح، ولقوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، وَلَوْلا
رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوَهُمْ أَن
تَطَؤُوَهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لِّيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [الفتح: 25].
فدلَّ هذا على
أنه مُنِعَ القتال حماية وصيانة للدماء؛ ترجيحاً لدرء المفسدة على جلب مصلحةٍ
متوقعةٍ.
4-
القدرة على القيام بحق هذا الجهاد قدر الطاقة
والوسع، وهذا يشمل أموراً، منها:
أ- وجود الجهة
الشرعية والسياسية والعسكرية ذات الكفاءة التي تُحكِمُ الأمر وتحسن
قيادته.
ب- وجود القدرة
على مواجهة العدو بما يكافئه بالحد الأدنى، مع بيان أن الأمور لا تقاس اليوم
بالعَدد، أو العُدد؛ فوسائل القتال متنوعة.
ج- القدرة على
تأمين المجاهدين مالياً، واجتماعياً، وتزويدهم باحتياجاتهم الأساسية؛ إن في
المعركة، أو في غيرها.
د- حُسن تقدير
الموقف السياسي.
هـ- حُسن تقدير
موازين القوى.
كل هذا يدلنا
عليه جملة نصوصٍ وقوله تعالى: ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال:
66]؛ دلَّ على وجوب تقدير موازيين القوة.
وقوله
تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ
مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن
شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ
تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60]؛ فإذا لم يكن هنالك إعدادٌ يصلح معه تحقيق
الغاية من الجهاد وهو ﴿ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾، أو لم يكن قدرة على تحمل
تبعات الجهاد، وحماية الأمة من القتل والمفاسد الأشد؛ فلا يكون قتال، إلا أن توضع
خطة تحقق الجهاد، وتمنع المفسدة الأشد.
ونجد من وقائع
السيرة انسحاب خالد بن الوليد يوم مؤتة حماية لجيش المسلمين، حيث ترجحت المصلحة
في ذلك، فأطلق النبي rعلى خالد لقب
سيف الله، ووصف فعله فتحاً، عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ النَّبِيَّ r، نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ،
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ،
فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ
فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ
حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»، (البخاري رقم 3757).
5-
استقلالية
القرار والمال والسلاح، بالحد الأدنى، فلا يكون خاضعاً لجهة غير مؤتمنة
على قضيتنا، ذلك أنه عندما يكون جهادٌ ثم يكون محكوماً من الغير فهذا يعني أن هذا
المجاهد سيكون أسيراً لإرادة هذا الغير، وضمناً في ذلك لن يكون حراً في إرادته
وقراره، مما قد يدفعه أن يعطي ولاءً لمن لا يستحقه، أو لمن لا يصدق معه.
6-
معرفة مآلات
الأمور تقديراً، وتوقع تحقيق أهداف الجهاد الصحيحة، من حيث رفع الظلم، وحقن الدماء،
وتحقيق العدل والسلم والحرية والكرامة، أمّا إذا كانت المآلات عكس المراد من
الجهاد فلا، وآيات سورة الفتح السابقة تدل على ذلك.
7-
وضوح الحق
والراية التي نقاتل تحتها ولأجلها، وصحتها، ووضوح الرؤية والهدف.
قال تعالى: ﴿ كَمَا
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ
المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ، وَإِذْ
يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ
الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ
الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ﴾
[الأنفال:5- 8] فانظر كم مرة كرر الحق هنا.
أحياناً تكون
صاحب حق، لكن يختلف الناس فيه كثيراً وينقسمون؛ فلا بد عندها من إعادة النظر في
الأساليب والخطط.
8-
ضمان عدم قدرة
العدو على الاختراق للمجاهدين، إذ ثبت أن من أعظم ما ابتلينا به أن بعضاً ممن
يجاهد إنما يسيّره النظام الباغي، شعر أو لم يشعر، فيدفعه لأعمال تؤذي الأمة،
وتشوّه الجهاد، وتعطي العدو مبررات الإجرام.
9-
تحقق قيادة المقاتلين
بالتربية والتزكية، وتحصينهم بالحد الأدنى من العلم الشرعي، لنتأكد من حسن
الالتزام، والقيام بحق الله، وتحقيق مرضاته، والتجرد عن الأهواء، ولكي يرتقوا
بالمقاتلين أنفسهم ما استطاعوا.
10-
القدرة على
حماية الأمة من الأهوال والتدمير الشديد، بوجود القوة التي تردع العدو، أو ترد على
إجرامه.
11-
صيانة الأنفس
والأعراض والأموال ما أمكن، وهنا نحب أن نؤكد أن صيانة الأنفس والأعراض والأموال
مقدمٌ على مصلحة إعلان القتال، فإذا لم نكن قادرين على حماية الأمة من التدمير
والأهوال والأخطار الكبيرة؛ فلا بد من إعادة النظر في الخطط ومناهج العمل، ولذلك
رأينا أن مرحلة مكة لم يكن فيها قتال، ورأينا أن النبي r اجتهد دائماً لأن يؤمن هذه الحماية للمسلمين، فكانت هجرة
الحبشة، وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد وجد من يؤمن هذه الحماية فكانت البيعة،
وفيها النص على الحماية: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا
تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ» (صحيح، مسند أحمد 15798).
وكان اتخاذ
الخندق كوسيلة متاحة، وهكذا نجد قوله تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ ولا تُلْقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
نعم، روى
أبو داود 2512، والترمذي 2972 عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ
التُّجِيبِيِّ، قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا
صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ
أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى الجَمَاعَةِ
فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ
الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ
يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ
فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا
التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ
لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا
لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ r: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ
الإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا،
فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ r
يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ
الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا، وَتَرْكَنَا الغَزْوَ، «فَمَا
زَالَ أَبُو أَيُّوبَ، شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ
الرُّومِ». (قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ).
فلا شك أن ترك
الجهاد عند مقتضياته وأسبابه وإمكاناته تهلكة، لكن أيضاً عندما لا يكون الإنسان
آخذاً بأسباب ذلك فهي تهلكةٌ أخرى، ويبقى النص القرآني على عمومه.
وقد قال تعالى
أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم
بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ
مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيماً ﴾ [النساء: 29].
وقال
تعالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَاوَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا
لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ
الكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].
وقال
تعالى: ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾
[الطلاق: 7].
وهذا لا يعني
إلغاء فكرة الجهاد أو الإعداد له، لكن يعني أن تُتخذ الخطط والتدابير
والوسائل المناسبة المكافئة، وتجنب ما لا يكون في طاقتنا ووسعنا تحمله، أو ما
يكون سبباً في هلاكٍ ودمارٍ شديدين.
خامساً:أحكام
استثنائية:
اتخاذ قرار الجهاد اضطراراً:
قد
يضطر بعض المسلمين لاتخاذ قرار القتال اضطراراً؛ نظرة لشدة الظلم، وللدفاع عن
النفس، من غير توافر كل تلك الضوابط، ومع ذلك فلا بد من حساب المصالح والمفاسد
والمآلات، فإذا كانت تقدير المآلات مزيداً من القتل والظلم والتدمير والتشويه،
وتمكين الظالم، واستعداء العالم، وتفرق الناس والكلمة، وكانت الأمة غير مهيأة
للوقوف بجانب الحق بوضوح؛ فعندئذ لا يمكن اتخاذ قرار الحرب، لكنه ـ وكما الحال في
سوريا ـ فقد يفرض على الأمة واقع لا مناص منه، وهو أن تحمل السلاح دفاعاً عن
وجودها وحريتها وكرامتها ودينها، ورداً لعدوان لا يمكن أن يسكت عنه، أو يُحتَمَل،
وقد تجاوز كل حد، أمّا إذا كان الأمر كذلك؛ وقد فقدت بعض الضوابط فلا بد من السعي
الجاد والحثيث لاستكمال الأسباب، و السير في إعداد الأمة والموقف والرأي العام،
واستكمال أسباب النصر، ولو تدريجياً.
سادساً: من صاحب الحق في القرار
والفتوى في قضايا الجهاد:
وإذ نبين كل ما مضى فإننا نؤكد أن المجاهدين على الأرض،
وبما يملكون من معلومات ومعطيات، وكونهم أصحاب الفعل والعمل، والتضحيات الحقيقية، وأنهم يبذلون الغالي والنفيس؛
فهم أصحاب القرار أولاً وآخراً، لكن لا بد أن يكون لهم المرجعية الشرعية
والسياسية، فضلاً عن القيادة العسكرية الملمة بما يجب، وإنما دورنا النصح ما أمكن،
وقد تغيب عنا بعض الحقائق، فيكمل بعضنا بعضاً.
والله ولي التوفيق.