بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
الانتصار لرسول الله
على ضوء سورة التحريم
إعداد : د. محمد سعيد حوى
جامعة مؤتة ـ كلية الشريعة
قسم أصول الدين
ملخص
يستغل
بعضٌ أثراً عن جهل أو مرض قلب أو عداء - كما حدث لمخرج الفلم المسيء - بعض
الروايات الواردة في بعض كتب التفسير أو الحديث - دون تمحيص - لانتقاص
مقام النبوة، والاعتداء على أهل بيته - كما يفعل الرافضة - ومن هذه
الروايات التي يساء التعامل معها ما ورد في أسباب نزول صدر سورة التحريم،
مستغلين ما وقع في بعضها من ضعف أو اختلاف بين الرواة في أسباب النزول؛ هل
كان بسبب أن النبي كان يشرب العسل عند إحدى زوجاته، فأرادت بعضهن صرفه عن ذلك؟
ومن هي هذه الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ ومن هن اللواتي أردن صرفه عن ذلك؟
أم كان سبب نزولها أن بعض زوجاته أردن صرفه عن معاشرة جاريته وأمَتِه مَارِيَة؟ وما حقيقة ذلك؟
فكان
لا بد من اكتشاف منهج القرآن الخاص في عرض هذه القضايا، وكيف انتصر الله
لنبيه، وكيف ننزه بيت النبوة عما لا يجوز أن ينسب إليه، من خلال دراسة
دقيقة للروايات الواردة في ذلك حديثياً.
ولعلّ أرجح ما رأيت في ذلك أنه وبسبب الغَيْرة الطبيعية البشرية عند النساء أردن صرف النبي
عن شرب العسل عند زينب، وأن المتظاهرتين هما عائشة وحفصة، ولا يمنع أن
يكون اجتمع إلى ذلك صرفه عن معاشرة أمَتِه، حيث أنها أمَةٌ ليس لها حقوق
الزوجية الكاملة.
لكن في الوقت نفسه لا يصح ما قيل: إن ذلك كان بسبب أنه واقع مارية في حُجْرة حفصة ويومها، وأنها غضبت لذلك.
ونلاحظ
هنا أن المنهج القرآني يسمو بنا عن الخوض في التفاصيل التي لا يترتب عليها
حكم خاص أو فائدة تربوية أو تشريعية، وقد جاءت الآيات بأعظم مظاهر
الانتصار لرسولنا .
Abstract
Many
disagreements occurred between relaters and interpreters Resulting from
the Occasions of the revelation of verses of Surat At-Tahrim; Is the
reason that the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at one
of his wives, for that Mother of believers Aisha and Hafsa wanted to
averted him from that ?
And the disagreements happened of whom is the wife that was the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at ?
Or was the reason that some of his wives wonted to averted him form intercourse his bondwoman Maria ?
we
had to approach the prevailing character of the Quran in the dealing of
these issues, and how we can upright the house of prophecy from what
may not be allowable to them, with an attempt to criticize the
narrations that had been reported Haddithia .
Perhaps
What I have most likely that, because of the natural jealousy in women
they wanted to averted the Prophet (Peace be upon him) form intercourse
his bondwoman, Where known that bondwoman do not have the conjugal
rights.
But
at the same time not true what was mention that this was because of the
Prophet (Peace be upon him) (go to bed) or (intercourse) with Maria, in
a chamber of Hafsa, and she got angry for that.
المقدمة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن معرفة مقام النبي
عند الله و من ثمّ حفظه والقيام بحقه بما يرضي الله سبحانه؛ من أعظم
الواجبات في حق الخلق جميعاً، وطالما نوّه القرآن بذلك؛ كقوله تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وقوله تعالى:﴿النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾
[الأحزاب: 6]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً،لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً،وَيَنصُرَكَ اللَّهُ
نَصْراً عَزِيزاً﴾ [الفتح:1- 3].
وقد
أوجب سبحانه كمال الاقتداء به ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21]، وبيّن سبحانه في آيات عديدة
انتصاره لنبيه في مواجهة من يسيء له؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، وكان تبعاً لذلك حفظ مقام أهل بيته،
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]، ولئن كان كل
ذلك من البدهيات عند كل مسلم؛ فإن بعضاً و أثراً عن جهل أو مرض قلب أو
عداء_كما حدث لمخرج الفلم المسيء_ يستغل بعض الروايات الواردة في بعض كتب
التفسير أو الحديث_دون تمحيص- لانتقاص مقام النبوة، والاعتداء على أهل
بيته_كما يفعل الرافضة_.
ولعلّ
من الآيات التي أسيء التعامل معها من بعض ممن ذكرت؛ آيات صدر سورة
التحريم، إذ أورد بعضهم في تفسيرها روايات ضعيفة تتضمن بعض ما لا ينبغي أن
يقال في حق النبي
وبيت النبوة، وما يخرج عن المنهج القرآني في الستر والصيانة وحفظ مقام بيت
النبوة؛ كما وقع في بعض آخر اختلافات؛ مما دفعني للبحث في هذه الروايات،
لعلي أحقق جملة من الأهداف، ومنها:
1- لفت النظر إلى بعض أسرار القرآن وحِكَمه في طريقة عرضه لآيات سورة التحريم، وهو يعلي مقامه، ويثني على أهل بيته، بعد أن كان من بعضهن-بصفتهن البشرية- خطأ ما، وقد سارعن إلى التوبة منه .
2- محاولة الترجيح بين الأقوال المتضاربة في شأن هذه الحادثة.
3- محاولة الإجابة عن الإشكالات المطروحة فيها، ومنها:
- اختلاف الروايات هل كان التحريم بسبب قصة عرفت بقصة العسل، أم بسبب قصة مارية.
- إن كانت قصة العسل هي الأرجح؛ فمَن التي كان يشرب عندها العسل ؟ ومَن اللواتي تظاهرن عليه ، إذ وقع اختلاف في ذلك.
- وإن كانت قصة مارية هي الأرجح؛ فما حقيقة هذه الحادثة؛ وسيقف القارئ على كل هذه الروايات.
4- رد الشبهات التي قد تثار حول بيت النبوة؛ بسبب بعض الروايات التي ربما لم تصح أوتحرر أو تدقق.
5_ وفي سياق ذلك كله لفت نظر إلى منهج حسن الفهم ودقة التدبر لكتاب الله، والحياة في ظلاله، والتحقق بأنواره.
فجاءت الدراسة في ثلاثة مباحث وخاتمة:
- المبحث الأول: تعريف عام بسورة التحريم، وبيانها لمقام النبي.
- المبحث الثاني: عرض لبعض آراء المفسرين والمحدثين في أسباب نزول صدر آيات سورة التحريم.
- المبحث الثالث: دراسة الروايات دراسة حديثيه ناقدة.
- الحاتمة، وفيها التأكيد على مقام النبي وأهل بيته؛ في ضوء حسن الفهم لكتاب الله وتحرير الروايات.
فإن
وفِّقت فمِن الله؛ فضلاً ومنة وكرماً، وإن كانت الأخرى؛ فأستغفر الله،
راجياً من أهل العلم والفضل التسديد والتصويب، سائلاً المولى أن يجعله
خالصاً لوجهه وهو ولي كل نعمة وفضل وتوفيق.
عمان 11 محرم الحرام 1434هـ الموافق25/11/2012م
وكتبت النسخة الأولى بتاريخ:
عمان 1 صفر الخير 1433هـ الموافق25/12/2011م
د. محمد سعيد حوى
المبحث الأول
التعريف بالسورة الكريمة
أولاً: تسمية السورة:
قال الآلوسي: سورة التحريم، ويقال لها سورة المتحرم، وسورة لِمَ تُحرِّم، وسورة النبي ، ...و سورة النساء().
ويلاحظ أنها سميت بذلك لمّا حرم النبي على نفسه ما حرّم؛ ابتغاء مرضات أزواجه، فكان ذلك سبب افتتاحها بهذا الخطاب الذي يحمل معاني التكريم للنبي ،
والحدب عليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]().
أمّا ما هو الذي حرمه رسول الله ؟ وما المراد بالتحريم ؟ فيأتي بيانه إن شاء الله.
ثانياً: تاريخ نزولها:
اتفق
أهل العلم أنها سورة مَدَنِيَّة، وأن آياتها اثنتا عشرة آية، إلا أن
السيوطي ذكر في الإتقان عن قتادة أن أولها إلى تمام عشر آيات مدنية، وما
بعدها مكي().
أقول: ولا دليل على هذا، بل هي سورة واحدة متحدة في سياقها وموضوعها كما سنرى.
وتعد هذه السورة الخامسة بعد المائة بحسب النزول، نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة().
ثالثاً: مناسبة السورة لما قبلها في ترتيب المصحف:
قال الآلوسي: هي متواخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي ، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الدماء، وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.
ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى ، إعظاماً لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة.
ويمكننا
أن نقول: إن سورة الطلاق تحدثت عما يكون من مشكلات في بيوت عامة الناس،
مما قد يفضي إلى طلاق، ومن ثم بينت ما يترتب على ذلك من أحكام، لكننا إذا
تأملنا في سورة الطلاق فإنها دعتنا إلى تقوى الله، وأن من تقوى الله أن
نسعى لمعالجة تلك المشكلات ما أمكن،كما أن تقوى الله طريق لمنع المشكلة
أوحسن حلها ، فإن كان لابد من طلاق فليكن وفق الهدي الرباني.
فجاءت
سورة التحريم لتقدم الأنموذج الأرقى، وهو بيت النبوة، وأنه مع ذلك فقد وقع
مشكلة كان يمكن أن تؤدي إلى طلاق، لكن انظروا عظمة خُلق النبي ،
وكيف كان صبره واحتماله وحلمه سبباً في حلّ المشكلة، ومِن ثمّ مثّل لنا
بذلك قمة التحقق بالتقوى، مما ترتب عليه الحفاظ على بيت النبوة، وإنهاء هذه
المشكلة.
كما تبين لنا السورة أثر اتقاء زوجاته ،
إذ سارعن إلى التوبة ؛ فإذن سورة التحريم سورة النموذج الأرقى للبيت
المؤمن، الذي سبق الحديث عن بعض قضاياه ومشكلاته في سورة الطلاق.
وإذا
كان الأمر كذلك في سورة الطلاق؛ فإن سورة التحريم تقدم النموذج الأرقى من
حيث إمكان وقوع المشكلة، والنموذج الأرقى في كيفية الحل وسرعة هذا الحل،
وكيف جعل الله لنبيه
مخرجاً من يمينه، إذ هو إمام المتقين، وقد سبق وأن بينت سورة الطلاق ﴿ومن
يتق الله يجعل له مخرجاً﴾، فكما أن سورة الطلاق تحدثت عن المشكلة ووجوب
علاجها بتقوى الله؛ فإن سورة التحريم رسمت المنهج لبيان كيف نتحقق بذلك،
سواء من خلال تلكم الحادثة التي وقعت للنبي ، أو من خلال النداءات التي في السورة، أو النماذج الأخرى التي قدمتها لنا سورة التحريم.
رابعاً: مناسبتها لما قبلها وما بعدها بحسب النزول:
رأينا
أن العلماء قد نصوا أنها نزلت بعد سورة الحجرات، ومن ينظر في سورة الحجرات
يراها سورة الأخلاق، كما أن فيها بيان مقام رسول الله ووجوب حفظ اللسان، وكله ذو صلة بموضوع سورة التحريم؛ إذ بينت سورة التحريم جوانب مما يجب له من حق، وضرورة حفظ ألسنتنا بين يديه، ونزلت بعد التحريم سورة الجمعة، وفي سورة الجمعة تأكيد على مقام رسول الله
وأنه سبب تزكية وهداية الأمة، كما فيها بيان الانتفاع بالهدي الرباني، فلا
نكون كأهل الكتاب الذين لم ينتفعوا بهذا الهدي الرباني، وكأن السورة تشير
أن أزواج النبي بعد أن كان ما كان منهن قد عُدْن إلى الهداية والرشد والتحقق بالتزكية والانتفاع بالهداية الربانية.
خامساً: الوحدة الموضوعية في سورة التحريم:
من
ينظر إلى سورة التحريم للوهلة الأولى قد يجد تنوعاً في الموضوعات فيتساءل:
لماذا كان الحديث عن قضية تخص بيت النبوة، ثم حديث موجه لعموم الأمة،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ
لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
[التحريم: 6]، ثم حديث عن الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ
تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[التحريم: 7]، ثم حديث عن التوبة، ثم كان الحديث عن زوجتي نوح ولوط وعن
امرأة فرعون ومريم عليهما السلام.
أقول:
من يتأمل في هذه السورة يجد مظهراً من مظاهر إعجاز القرآن في وحدته وتناسق
آياته وترابط موضوعاته وقضاياه، فلما كان الحديث عن مشكلة خطيرة حدثت في
بيت النبوة وترتب عليها أحكام ذات أهمية خاصة؛ كان لابد أن تُستثمر هذه
القضية إلى أبعد مدى، فكان قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ
أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ
قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
[التحريم: 5] وفي هذا بيان لجملة أمور:
1-
بيان أن تخلف بعض هذه الصفات قد يؤدي إلى طلاق أو يحدث مشكلات خطيرة، فهي
متضمنة التحذير من أسباب الطلاق، ولما كان الواجب علينا أن نحصّن الأسرة،
وأن نقوم بمسؤولياتنا جميعاً لنحمي أنفسنا وأُسَرَنا في الدنيا، ولتتم
النجاة في الآخرة، فإن ذلك لا يكون ذلك إلا من خلال تقوى الله واتباع الشرع
الحنيف.
2- ومن ثم فيها بيان صفات الزوجة الأرقى التي إن وجدت فيها؛ ساعد ذلك على اتقاء المشكلات أو حلها.
3- وبيان أن أزواج النبي قد تحققنَ بهذه الصفات الأرقى، ومن ثم ثبتن على عصمته ولم يطلقهن.
فجاء
النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ
شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وكان هذا النداء تنبيهاً إلى تربية الأهل
لتكون البيوت بعيدة عن الفساد والاختلاف والتجاوز.
4-
ولما كان من شأن الإنسان الضعف والقصور والوقوع في الخطأ أو الذنب، وفي
سياق ذلك قد تحْدُث اتهامات وافتراءات واعتداءات وتجاوزات، وكلها ذنوب
خطيرة، وقد يترتب عليها مشكلات ومآس في الدنيا والآخرة، فكان لابد من بيان
منهج معالجة ذلك كله، من خلال فتح باب التوبة والحض عليه، وبيان أثره
النوراني في الدنيا والآخرة، فكان النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن
يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8].
وفي هذا كله رَسْم لمنهج معالجة المشكلات الفردية والأسرية والاجتماعية، ومن ثم فالسورة كالاستمرار لما جاء في سورة الطلاق.
5-
ولما كان وجود النموذج مما يساعد على التحقق الأرقى؛ فقد أعطانا الله أخطر
نموذجين سلبيين، كانا في تاريخ الأنبياء السابقين: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ
يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ
الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10],
وأعطانا
أعظم أنموذجين إيجابيين لامرأتين وجدتا في التاريخ السابق، وكيف أن
الإيمان الحق والالتزام الأكمل رفعهما إلى أعلى مقام عند الله من جهة،
وحفظهما في الدنيا أعظم حفظ، مع تنوع في هذين الأنموذجين، فقدم أنموذج
المرأة المؤمنة في بيت زوج كافر بل هو أعتى الكفرة، ومن خلال صبر وإيمان
امرأة فرعون تتعلم المرأة المسلمة كيف يمكن أن تصبر وتتعامل مع كل مشكلة
تواجها داخل أسرتها، والأنموذج الآخر أنموذج المرأة الطاهرة العفيفة التي
تعرضت لموقف هو الأشد على النفس (أن تحمل بلا زوج)، مع كونها في أسرة طاهرة
عفيفة مؤمنة.
وكأنه يقال من مجموع السورة: لا تخرج أحوال الأسر والزوجات عَمّا ذكر سواء مما كان مع رسول الله
أو مع آخربن ممن ضرب مثلاً، ولئن كان هذا الأمر واضحاً فيبقى السؤال: أنه
قد ذكر في سياق السورة آيتان نحن بحاجة إلى تبيين علاقتهما بالسياق:
الأولى:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7].
الثانية:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ﴾ [التحريم: 9].
ولعل
السرّ في ذلك أنه لابد أن نتذكر أن أخطر ما نواجه في سياق البناء الأسري
والأخلاقي والحياة الزوجية؛ ما قد يلقيه الكافرون من شبهات، وما يقومون به
من مخططات وأعمال لهدم الأسر وانحلال الأخلاق، فضلاً عن اتخاذ مثل هذه
الأحداث ذريعة للإساءة إلى رسول الله وإلى الإسلام نفسه، ومن ثم للمسلمين.
وإن
علاج ذلك كله كما يكون بالتربية والوقاية من النار والتوبة؛ فكذلك يكون
بالإعداد القوي الذي تردع به الكافرين، وتحول دون اجترائهم على الإسلام
والمسلمين، وأننا طالما كنا في حالة من القوة الإيمانية والمادية؛ فلا يصل
لنا الكافرون بشيء، وطالما ضعفنا في أي جانب فلاشك أن الاختراق حاصل، و
لعل واقع المسلمين المأساوي اليوم معبر عن ذلك().
ومن ثمّ جاءت الآية الثانية: ﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ﴾.
النظام الزوجي في السورة:
وإنه لمما يلفت النظر في السورة الكريمة أنه إذ تتحدث عن الحياة الزوجية؛
فقد قامت على نظام زوجي عجيب، ومن ذلك: يتكرر الخطاب للنبي
مرتين، وكذا للمؤمنين، والنساء اللواتي تظاهرن اثنتان، والنساء الكافرات
اللواتي ضرب بهن المثل اثنتان، وكذا المؤمنات، والصفات المثلى للمرأة
المسلمة ثمانية، وكل صفتين متواخيتان مترابطتان، وعدد آياتها 12، ورقم
السورة 66، وفي الجزء 28، وهناك المزيد لمن تأمل.
سادساً: الآيات ومعناها العام:
قد يكون من المناسب أن نورد بين يدي البحث الآيات المقصودة بالدراسة، مع بيان إجمالي لمعانيها:
قال
تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [1] قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [2] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ
أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا
بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ [3] إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [4]
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ
سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [5] ﴾.
التفسير:
{
يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } يخاطب الله نبيه
خطاب تعظيم وتكريم: لِمَ تَشُقُّ على نفسك، فتمتنع عما هو حلال لك، تفعل
ذلك { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك }، وهذا بقطع النظر عما كان قد منع رسول
الله منه نفسه؛ هل امتنع عن شرب العسل عند بعض أزواجه، أو امتنع عن قربان
جاريته، على ما سيأتي بيانه، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وإن كنت قد حلفت
أن تمتنع عن هذا الشيء؛ فلك مخرج بالكفارة: { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ
تَحِلَّةَ أيمانكم } قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو
قد شرع لكم تحليلها بالكفارة، { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم،
وقيل: مولاكم: أولى بكم من أنفسكم ،فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم
أنفسكم،أو هو ناصرك في كل موطن ومن ذلك هذا الموطن ، { وَهُوَ العليم } بما
يصلحكم فيشرعه لكم، { الحكيم } فيما أحل وحرم وفي كل ما يكون ، ومنه أحداث
هذه السورة .
{
وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حفصة على الأرجح {
حَدِيثاً } حديث مارية وأنه لا يقربها أو غيره { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }
أفشته إلى عائشة رضي الله عنها، { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وأطلع
النبي
على إفشائها الحديث، على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ }
أعلم ببعض الحديث، وعاتبها على بعضه { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } فلم يعاتبها
على كل فعلها، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} نبأ النبيُّ حفصةَ بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي :
{ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم } بالسرائر {الخبير }
بالضمائر، { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة
الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن تتوبا
إلى الله فهو الواجب إذ وقع منكما ما يستوجب ذلك ، ودل على المحذوف: {
فَقَدْ صَغَتْ } مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله
من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه،أو فإن تبتما فقد خضعت قلوبكما للحق ، {
وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } وإن تتعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في
الغَيْرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } وليه وناصره، ومجئ : {
هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته سبحانه، { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه،
{وصالح الْمُؤْمِنِينَ } ومَنْ صَلَح من المؤمنين أي كلُّ من آمن وعمل
صالحاً، { والملائكة } على تكاثر عددهم {بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله
وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٍ } فوج مظاهر له، فماذا يبلغ تظاهر
امرأتين على مَنْ هؤلاء ظهراؤه ، ثم من مظاهر هذه النصرة أنه سبحانه لوشاء
أن يبدله أزواجاً خيراً منكن لفعل ، فقال سبحانه : { عسى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } فإن قلت: كيف تكون
المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟
قلت: إذا طلقهن رسول الله
لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه
الأوصاف خيراً منهن {مسلمات مؤمنات } مُقِرّات مُخْلِصات، { قانتات }
مطيعات، فالقنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، { تائبات
} من الذنوب، أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ،
{عابدات } لله، { سائحات } مهاجرات أو صائمات، وقيل: للصائم سائح لأن
السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم
في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، { ثيبات وَأَبْكَاراً } ووسط حرف العطف
بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متقابلات بخلاف سائر
الصفات.
وحيث لم يطلِّقْهن دلّ ذلك أنهن قد استقمن على أمر الله بعد تلك الزلة منهن().
سابعاً: بيان السورة لمقام النبي ومكانة أزواجه:
إنه على ضوء ما سبق يمكننا أن نستخلص وجوهاً من بيان السورة لمقامه، وتبعاً لذلك مكانة أزواجه، فمن ذلك:
1-النداء الرباني بصيغة (يا أيها النبي)، ولم يناد باسمه في القرآن.
2-كون العتاب من باب الحدب عليه؛ أن كلف نفسه أمراً ما رعاية لمصلحة أزواجه.
3-بيان أخلاق النبي العظيمة في حرصه على تعامله مع أزواجه بـأرقى مظاهر التعامل، والحرص على إرضائهن، ولو بتنازله عن حقه.
4-تشريع الله إكراماً لنبيه - ومن ثمّ للخلق - كفارة اليمين؛ ما يكون سبباً للمخرج مما هو فيه.
5-انتصار الله لنبيه في سرعة إعلامه بما كان من إسرار بعض زوجاته.
6-أخلاقه العظيمة في كيفية مفاتحة زوجه؛ إذ كاشفها ببعض ما كان وسكت عن بعض آخر، كما قال تعالى : (عرّف بعضه وأعرض عن بعض).
7-مطالبة أزواجه بسرعة التوبة، والتأكيد عليها وبيان خطورة عدم التحقق بها؛ إشارة إلى عظم ما وقع منهن في حقه ، مهما كان يسيراً في نظر الناس.
8-بيان
أن الله مولاه، ثم لم يقتصر على ذلك بل ضم إلى ذلك ذكر جبريل وصالح
المؤمنين، وسائر الملائكة؛ وفي ذلك إشارة عظيمة إلى ما أوجب الله على جميع
الخلق من الانتصار لرسولنا .
9-بيان المواصفات العظيمة التي يجب أن تتوافر فيمن تصلح زوجة له .
10-بيان تحقق أزواجه بكل تلك الصفات، وتحققهن بالتوبة الكاملة؛ ومن ثمّ بقين على عصمته، وبقين أمهات للمؤمنين إلى الأبد .
11-
الستر على أزواجه إكراماً له في حقيقة ما حدث، وتستمر الحكمة إذ إلى الآن
_وبرغم الروايات الواردة في الباب سواء عند المفسرين أو المحدثين_ لا يجزم
أحد بما حدث.
12- التأكيد في هذا السياق على المغفرة والرحمة الإلهية، وكونه هو المولى سبحانه.
المبحث الثاني
سبب نزول صدر سورة التحريم عند بعض المفسرين والمحدثين
من
المفيد أن نقف على نماذج من آراء المفسرين والمحدثين في هذه القضية ؛
لتكون بمثابة إلقاء الضوء على ما نحن بصدده ، ولنرى توجهاتهم ، ولقد تعددت
الروايات في بيان سبب نزول صدر سورة التحريم، فوجدت بعضها يتحدث عن قصة
مفادها أن النبي كان يشرب عسلاً عند إحدى زوجاته مما أثار الغَيْرة عند بعض
نسائه الأخريات، فعمدن إلى أن يتفقن على أمر يحول بينه وبين شرب العسل، ثم
اختلفت الروايات من هي تلك الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ومن هن
اللواتي تظاهرن عليه في هذا الأمر؟
ثم جاءت روايات أخرى تتحدث أن سبب النزول حادثةٌ أخرى، لا صلة لها بالعسل، وإنما بسبب أن النبي
كانت له أَمَة (جارية) هي مَارِيَة، فأَرادت بعضُ نسائه أن يصرِفْنه عن
معاشرتها، وزادت بعض الروايات تفاصيل سنراها، وفي كلا القصتين حرَّم النبي على نفسه ما كان سبباً في ذلك.
فمن
هنا كان لا بد من دراسة مستفيضة لمحاولة الوصول إلى الأرجح والأصح، وبيان
ما يترتب على ذلك من حِكَم وأحكام، إذ قد وجدنا اختلافاً بين المفسرين
والمحدثين في بيان سبب النزول، وأي الروايات أرجح وأدق، كما أن بعض
الروايات تضمنت مالايجوز أن يكون في حق النبي أو لا يليق ببيت النبوة، مما
كان سبباً لاستغلالها من بعض مرضى القلوب؛ فكان لا بد من دراسة ممحصة،
وفيما يلي بيان لأهم آراء المفسرين والمحدثين في هذه المسألة:
أولاً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة العسل:
1-2-إماما أهل الحديث؛ البخاري ومسلم:
خرّج
البخاري ومسلم حديث قصة العسل، كما سنبين، وأعرضا عن قصة مارية، فلعلّ في
ذلك إشارة منهما إلى أن هذا هو الأصح. مع كون قصة مارية لم ترو بسند على
شرط الصجيج.
3- الإمام النووي (ت 676 هـ):
ورجح النووي أن الصحيح قصة العسل، وأن اللتين تظاهرتا هما عائشة وحفصة، وأن التي شرب عندها العسل هي زينب().
4-الإمام ابن كثير (ت 774 هـ):
قال: اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل: نزلت في شأن مارية، وكان رسول الله قد حرمها، ثم ذكر حديث أنس عند النسائي، ونقل ما رواه الطبري في الموضوع ومذاهب الفقهاء فيمن حرّم على نفسه شيئاً، ثم قال:
قال
ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الطبراني بسنده ... عن ابن عباس نزلت
هذه الآية: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ في المرأة التي وهبت
نفسها للنبي ().
قال
ابن كثير: وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل، كما قال
البخاري، وذكر حديث عبيد بن عمير عن عائشة في شرب النبي العسل عند زينب().
ثم
خرج حديث عروة عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، ثم قال: وقد يقال
إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية
فيه نظر، ورجح أن يكون اللتان تظاهرتا هما حفصة وعائشة، بحديث عمر لابن
عباس لما اعتزل نساءه شهراً().
فخلص كلام ابن كثير إلى ترجيح قصة العسل.
ثانياً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة مارية:
1- الإمام الخطابي (ت 388 هـ):
وقال الإمام الخطابي: الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية حين حرمها على نفسه().
2- الإمام البغوي (ت 516 هـ):
وإلى ذلك أشار الإمام البغوي، فبعد أن ذكر الروايات الواردة في ذلك، قال:
((وقال المفسرون: وكان رسول الله يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله في زيارة أبيها، فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله إلى جاريته مارية القبطية))، ...وساق قصة مارية.
ثم قال البغوي: ((وقوله: { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } وهو تحريم فَتاتِه على نفسه، وقولُه لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً)).
ثم
نقل رأياً آخر فقال: ((وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أَسَرَّ أمر
الخلافة بعده، فحدثت به حفصة، قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة
يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر
خليفتي من بعدي)).
وقال :(( قال مقاتل بن حيان: لم يُطَلِّق رسول الله حفصة، وإنما هَمَّ بطلاقها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة فلم يطلقها )().().
فيظهر
من كلام البغوي ترجيح قصة مارية، مع أنه أشار في سياق التفسير إلى قصة
العسل ، وسيأتي بيان أن شيئاً مما ذكره لايصح باستثناء قصة الغيرة .
3- الزمخشري (ت 538 هـ):
ونجد الإمام الزمخشري يذكر السببين، مع تبشير حفصة بأمر الخلافة، لكنه قدم ذكر قصة مارية، فقال:
روى أن رسول الله
خَلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: «اكتمي علي، وقد
حَرَّمْت ماريةَ على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي»،
فأخبرت به عائشة، وكانتا متصادقتين، وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها
بذلك واستكتمها، فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه، ومكث تسعاً وعشرين ليلة في
بيت مارية، وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طَلَّقَك،
فنزل جبريل عليه السلام، وقال: راجعها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك
في الجنة، وروي أنه ما طلقها، وإنما نَوَّهَ بطلاقها، وروي أنه عليه الصلاة
والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة، فقالتا له:
إنا نشم منك ريح المغافير()، وكان رسول الله يكره التفل()، فحرم العسل، فمعناه : ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من ملك اليمين، أو من العسل().
4- الإمام الآلوسي (ت: 1270 هـ):
وبعد أن استعرض الإمام الآلوسي الروايات الواردة في ذلك بإيجاز قال:
والمشهور
أنها مارية، وأنه عليه الصلاة والسلام وطأها في بيت حفصة في يومها، فوجدت
وعاتبته، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرِّمها فلا
أقربها، قالت : بلى، فحرَّمها، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم
عائشة، ثم قال:
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعتَ ما قيل فيها، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل، لا
في قصة مارية ... ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح، ثم قال الخفاجي نقلاً
عنه أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال
الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف،... والله تعالى أعلم().
5- جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ):
قال القاسمي :اختلف السلف قديماً وحديثاً فيما نزلت هذه الآيات؛ أفي
تحريم الجارية (مارية القبطية)، أم في تحريم شرب العسل، ليس هذا موضوع
بحثنا.
وطريق الجمع بين هذا الاختلاف؛ الحمل على التعدد، فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد.
وعند الترجيح ـ الذي يَظْهَرُ ـ أن سبب نزولها هو روايات تحريم الجارية، وذلك لوجوه:
منها: أن مِثله يبتغي به مرضات الضرّات، ويهتم به لهن.
ومنها:
أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف
لا يشربه أَنَفَةً من ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة
عليها.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة؛ لتقريع أزواجه وتأديبهن
في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك ... وإعلامهن برفعة
مقامه، وأن ظُهراءَهُ مولاه وجبريلُ والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على
أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغَيْرة مِن مِثل ما
روي في شأن الجارية.
وأما
تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن
الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا().
بعض الأعلام الذين رجحوا إمكان القصتين وتعدد الوقائع:
1- الإمام الطبري (ت 310 هـ):
قال الطبري: واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه...
فقال بعضهم: كان ذلك مارية ...
ثم ذكر الروايات الواردة في ذلك [وسيأتي تخريجها]، ثم قال:
« والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ
على نفسه شيئًا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز
أن يكون كان شرابًا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ
ذلك كان، فإنه كان تحريم شيئ كان له حلالاً فعاتبه الله على تحريمه على
نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه
ما حرّم على نفسه »().
2- الإمام ابن حجر (ت 852 هـ):
وقال ابن حجر: واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب؛ أن ذلك بسبب شربه
العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره «ولن أعود له، وقد حلفت» ثم قال :
ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: «حلف رسول الله
لحفصة لا يقرب أَمَتَه، وقال: هي علي حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِرَ
أن لا يحرم ما أحل الله». ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحق في حديث
ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه، وأخرج الضياء في
(المختارة) من مسند الهيثمبن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال رسول الله
لحفصة: لا تخبري أحداً أن أم إبراهيم عليَّ حرام، قال فلم يقربها حتى
أخبرت عائشة، فأنزل الله: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)، وأخرج الطبراني
في عِشْرة النساء وابن مردوية من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة
عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله
بمارية ببيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: «يا رسول الله في بيتي تفعل
هذا معي دون نسائك» فذكر نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس
قال: «دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته»، فذكر نحوه، وهذه طرق
يقوي بعضها بعضاً،[كذا قال ابن حجر] فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين
معاً، وقد روى النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن
النبي كانت له أَمَة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ الآية().
فيبدو أن ابن حجر يرجح صحة الأمرين معاً.
وهكذا
نلاحظ من خلال استعراض بعض أقوال المفسرين والمحدثين اختلافهم الشديد في
هذا الأمر، فمنهم من مال إلى ترجيح قصة مارية، (الخطابي والبغوي والزمخشري
والآلوسي والقاسمي)، ومنهم من مال إلى احتمال الأمرين، (الطبري وابن حجر)،
ومنهم من يرى أنها بسبب قصة العسل (النووي وابن كثير وصنيع البخاري ومسلم
في الاقتصار على تخريج قصة العسل يدل على ذلك)، مع كون جميع المفسرين
أشاروا إلى القصتين، مع اختلاف الروايات فيمن كان يشرب عندها، ومن التي
تظاهرت عليه ،ورجح
النووي أن التي شرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة
وحفصة، ورجحها على الرواية التي تقول إن التي شرب عندها العسل حفصة، وأن
اللواتي تظاهرن هم: عائشة وسودة وصفية، مع أن الروايتين في الصحيحين، لأن
القرآن نص أن التظاهر كان من اثنتين، واحتمل ابن كثير تكرر الحادثة()، فلعلنا نستطيع أن نصل إلى الراجح في هذا الأمر والله المستعان.
المبحث الثالث
الدراسة النقدية للروايات الواردة في سبب نزول صدر سورة التحريم
المطلب الأول
الروايات الواردة في شرب العسل
وفيه فروع:
أولاً: ما ورد أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب بنت جحش:
عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ أنه سمع عَائِشَةَ تخبر؛ أَنَّ النَّبِىَّ
كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا
عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ
عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ()،
أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: « لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ
جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ »، فَنَزَلَتْ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ إِلَى ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى
اللَّهِ ﴾ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ﴾ لِقَوْلِهِ « بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً »().
ثانياً: الروايات التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة:
عن عُروَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ
عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ
ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً
مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ
مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ
سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ
مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لاَ، فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ
الرِّيحُ؟ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ)، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ
لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ
نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا
صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ:
وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ
بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ،
فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: « لاَ »،
قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: « سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ
عَسَلٍ »، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَىَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ
فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: « لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ »،
قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ
حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي().
وبحسب هذه الرواية فإن الزوجة التي شرب النبي عندها العسل هي حفصة، وأن الذين تظاهروا عليه هم ثلاثة نساء: عائشة وهي التي بدأت الأمر، ثم سودة وصفية.
ثالثاً: ما ورد أن التي شرب عندها العسل هي أم سلمة:
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله
قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من أهله، فيضع يده، ويقبل كل
امرأة من نسائه، حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها، وإلا قام،
فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها، فقلت أنا وحفصة، وكانتا جميعاً يداً
واحدة: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها، تعنيان الجماع،
قالت: واشتد ذلك علينا، حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا
صار إليها أخرجت له عُكَّة من عسل، فتحت له فمها فيلعق منه لعقاً، وكان
العسل يعجبه، فقالتا: ما من شيءٍ نُكَرِّهُه إليه، حتى لا يلبثَ في بيت أم
سلمة؟ فقالتا: ليس شيء أكره إليه من أن يقال له: نجد منك ريح شيء، فإذا
جاءك فدنا منك؛ فقولي: إني أجد منك ريح شيء، فإنه يقول: من عسل أصبته عند
أم سلمة، فقولي له: أرى نحله جرس عرفطاً، فلما دخل على عائشة فدنا منها
قالت: إني لأجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا
رسول الله أرى نحله جرس عرفطاً، ثم خرج من عندها فدخل على حفصة، فدنا منها،
فقالت مثل الذي قالت عائشة، فلما قالتاه جميعاً اشتد عليه، فدخل على أم
سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل، فقال: أخريه عني، لا حاجة لي فيه، فقالت:
فكنت والله أرى أن قد أتينا أمراً عظيماً، منعنا رسول الله شيئاً كان
يشتهيه().
قلت: ولا تصح هذه الرواية، فيها: محمد بن عمر، هو الواقدي؛ متروك()، وفيها: عبد الرحمن بن أبي الزناد؛ متكلم فيه، ضعفه ابن معين وأحمد وغيرهم().
رابعاً: من قال إن التي شرب عندها العسل هي سودة:
قال السيوطي(): « عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْرَبُ عِنْدَ سَوْدَةَ مِنَ الْعَسَلِ، فَيَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ: إِنِّي أُرَاهُ مِنْ
شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَاللَّهِ لا أَشْرَبُهُ »().
إلا
أن هذه الرواية شَذَّت بذكر أن التي شرب عندها العسل هي سودة، وإن وافقت
ببيان أن حفصة هي المتواطئة مع عائشة، وفي سندها راو ضعيف كما هو مبين في
الهامش.
خامساً: روايات مَنْ لم تُسَمَّ:
عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِهِ كُلَّ غَدَاةٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ،
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عِنْدَهَا عَسَلٌ، فَكُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا أَحَضَرَتْ لَهُ مِنْهُ، فَيَمْكُثُ عِنْدَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّ
عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَدَتَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتَا حِينَ دَخَلَ
عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّا نَجْدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَسَلَ. رواه أبو يعلى()، وقال الهيثمي: فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات()، قلت: قال علي في يعقوب: ضعيف منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي().
فهذه الرواية ضعيفة، كما رأيت، ولم يبين من المرأة التي كان يشرب عندها العسل، وإن كانت تبين أن حفصة هي التي تواطأت مع عائشة.
وأخرج نحوه الحاكم بسنده عن القاسم بن محمد؛ قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يدخل على بعض أزواجه، وعندها عكة من عسل، فيلعق منها لعقاً، فيجلس عندها، فأرابهم ذلك، فقالت عائشة لحفصة ولبعض أزواج النبي ، فقلنا له: إنما نجد منك ريح المغافير، فقال: « إنها عسل ألعقه عند فلانة، ولست بعائد فيه »().
وأخرجه البيهقي بسنده: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
يَشْرَبُ مِنْ شَرَابٍ، يَعْنِي عِنْدَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، يَعْنِي
مِنَ الْعَسَلِ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ : إِنِّي أُرَاهُ مِنْ شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ
فُلانَةَ، وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿
يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾().
وغاية ما تفيد هذه الروايات أن اللتين تواطأتا هما حفصة وعائشة، ولا جديد فيها، ثم إنها لا تصح-كما هو مبين في التخريج -.
وهناك روايات مرسلة ذكرها الطبري، تذكر أنها نزلت في شأن الشراب دون تفصيل، قال الطبري():
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن
عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: نزلت هذه الآية في شراب ﴿ يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ ﴾.
وقال
الطبري :حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم،
قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الله بن شدّاد مثله، قال: ثنا أبو
قطن قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة، قال: نزلت في شراب.
خلاصة الروايات وإشكالاتها:
فالخلاصة أن بين الروايات اختلافاً وتضارباً:
1- فمن الروايات من يذكر أن التي شرب عندها العسل هي حفصة، كما في رواية هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، عند البخاري ومسلم.
2- ومنها ما يذكر أن التي شرب العسل عندها هي زينب، كما في رواية عبيد بن عمير، عند البخاري ومسلم أيضاً.
3- ومن الروايات ما يذكر أن المتظاهرين عليه هم عائشة وسودة وصفية، وهي عند البخاري ومسلم، من رواية هشام بن عروة بن أبيه عن عائشة.
4-
ومنها ما يذكر أن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة، كما هي رواية عبيد بن
عمير، عند البخاري ومسلم، ورواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند
أبي يعلى مع ضعفها.
5-
ومن الروايات ما يذكر أن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة، وأخرى
تذكر أنها سودة، وروايات لم تُسَمِّ أحداً ، ولم يصح منها شيء.
نقد الروايات:
إن كل ما سبق يقتضي منّا أن نقف وقفة نقدية متأنية مع هذه الروايات:
1-
إنه من حيث المبدأ يمكن ترجيح رواية ابن جريج عن عبيد بن عمير؛ التي تضمنت
أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة وحفصة،
لأدلة عدة منها:
- أن ذلك موافق للنص القرآني من حيث أنه ذكر أن المتظاهرتين اثنتان لا ثلاثة.
-
وموافق لحديث سأل فيه ابنُ عباسٍ عمرَ: من المرأتان اللتان تظاهرا على
رسول الله؟ فبين أنهما حفصة وعائشة، وإن كان لم يذكر قصة العسل().
- وموافق لرواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند أبي يعلى مع ضعفها.
- أن الذي خالف فروى حديث شرب العسل عند حفصة هو هشام بن عروة، من رواية العراقيين عنه، وقد أعلّ العلماء هذه الروايات، كما سنرى.
-
أما الرواية التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة، وأن التي تواطأت عائشة
وسودة وصفية، وفيها زيادات مستغربة؛ فهي مما تفرد به هشام بن عروة، وقد
رواه عنه ثلاثة كوفيون هم:
1- أبو أسامة حماد بن أسامة.
2- علي بن مسهر.
3- حفص بن غياث.
قال
أهل العلم: إنه لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في
غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، وكان مالك لا يرضاه، نقم عليه حديثه لأهل
العراق().
وقال يعقوب بن شيبة: ثبت ثقة، لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده().
وإذن فهذا الطريق أيضاً لم تسلم من العلة؛ إذ هي من رواية العراقيين عن هشام.
ج-
أما الروايات التي تحدثت أن المتظاهرتين هما حفصة وعائشة، دون بيان مضمون
هذا التظاهر؛ فهي صحيحة في الصحيحين، وهو موافق بالجملة للنص القرآني، الذي
بيّن أن ثمت شيء حدث من اثنتين، دون تفصيل.
د- أما الرواية التي قالت: إن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة؛ فهي من رواية الواقدي المتروك.
هـ- وأما من قال: إنها سودة، أو لم يسم أحداً، فوجدنا أن جميع الروايات في ذلك لم تصح.
-ومن ثمّ؛فإذ كان الأصح رواية عبيد بن عمير؛ فإن بعض الروايات التي ذكرت
زيادات عليها؛ لا تسلم، كزيادة:(فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ
لَهُ)، وزيادة: (تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ،
لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى
الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ)، وزيادة: (وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ،
قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي).
المطلب الثاني
الروايات الواردة في أن سبب النزول قصة مارية
وردت هذه القصة من طرق؛ مختصرة ومطولة، وفي بعضها ما لا يجوز نسبته لرسول الله .
وفيما يلي عرض هذه الروايات ونقدها:
أولاً- حديث أنس:
عن أنس « أن رسول الله
كانت له أَمَةٌ يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً،
فأنزل الله هذه الآية ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات
أزواجك﴾ إلى آخر الآية().
قلت: في إسناده محمد بن بكير الحضرمي، صدوق يخطئ()، وقد توبع فأخرجه النسائي() قال: أخبرني إبراهيم بن يونس بن محمد ؛حرمي (كذا لقبه)، ثنا أبي ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله
كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل
الله عز وجل ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ﴾
إلى آخر الآية.
قال: ابن حجر(): إسناده صحيح، وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري بسند صح عن زيد بن أسلم، قلت: سيأتي ذكر أثر زيد .
ثانياً- حديث أبي هريرة:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: « دخل رسول الله
بمارية القبطية سَرِيَّتِه ببيت حفصة بنت عمر، فوجدتها معه، فقالت يا رسول
الله؛ في بيتي من بين بيوت نسائك، قال: فإنها علي حرام أن أمسها يا حفصة،
واكتمي هذا عليّ، فخرجت حتى أتت عائشة، فقالت: يا بنت أبي بكر: ألا أبشرك؟
فقالت: بماذا؟ قالت: وجدت مارية مع رسول الله
في بيتي، فقلت: يا رسول الله في بيتي من بين بيوت نسائك، وبي تفعل هذا من
بين نسائك، فكان أول السرور أن حرَّمها على نفسه، ثم قال لي: يا حفصة ألا
أبشرك، فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلمني أن أباك يلي الأمر من
بعده، وأن أبي يليه بعد أبيك، وقد استكتمني ذلك فاكتميه، فأنزل الله عز وجل
في ذلك: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، أي مِنْ مارية، ﴿
تبتغي مرضاة أزواجك ﴾، أي حفصة، ﴿ والله غفور رحيم﴾، أي لما كان منك، ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ، وإذ أسر
النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾، يعني حفصة، ﴿ فلما نبأت به ﴾، يعني عائشة، ﴿
وأظهره الله عليه ﴾، أي بالقرآن، ﴿ عرّف بعضه ﴾، عرف حفصة ما أظهرت من أمر
مارية، ﴿ وأعرض عن بعض ﴾، عما أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر، فلم يثربه
عليها، ﴿ فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ﴾، ثم
أقبل عليها يعاتبها؛ فقال: ﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا
عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ﴾، يعني أبا بكر وعمر، ﴿
والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن
مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا﴾، فوعده من
الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وأخت نوح().
ثالثاًً- حديث ابن عباس، وقد روي الحديث عنه من طرق:
1- عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾ قال: دخلت حفصة على النبي في بيتها، وهو يطأ مارية، فقال لها رسول الله :
« لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، إن أباك يلي من بعد أبي بكر، إذا أنا مت »، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة أنها رأت رسول الله وهو يطأ مارية، وأخبرتها أن النبي أخبرها أن أبا بكر يلي بعد رسول الله ، ويلي عمر بعده، فقالت عائشة للنبي :
من أنبأك هذا؟ قال: ﴿ نبأني العليم الخبير ﴾، فقالت عائشة: لا أنظرُ إليكَ
حتى تُحرِّم مارية، فحرمها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك ﴾().
رواه الطبراني، وقال الهيثمي(): وفيه إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله ثقات.
أقول:
رواية ضعيفة جداً لا يحتج بها، فإن إسماعيل بن عمرو البجلي؛ قال فيه ابن
عدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف، وقال
الذهبي: ولقد أتى بحديث باطل، وساق جزءً منه()، والضحاك بن مزاحم: صدوق كثير الإرسال()، وقال يحيى بن سعيد: الضحاك ضعيف عندنا، وقال الذهبي: وثقه أحمد()، واتفقوا على أنه لم ير ابن عباس فالرواية منقطعة.
2- رواية ثانية تجمع بين عدد من الروايات، من حديث ابن عباس:
من
حديث الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن
رومان عن ابن عباس قال: « كنت أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن قول الله عز
وجل: ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم
أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه وهو ببطن مرو، قد
تخلف لبعض حاجته، فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله، ما حاجتك؟ قلت: شيء كنت
أريد أن أسألك عنه يا أمير المؤمنين، فكنت أهابك، فقال: سلني عما شئت،
فإنّا لم نكن نعلم شيئاً حتى تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿
وإن تظاهرا عليه ﴾ من هما؟...»(). في رواية مطولة تضمنت حديث ابن عباس عن عمر الذي أخرجه البخاري، وقد سأل ابن عباس عمر: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟()، لكن زاد في هذه الرواية قصة العسل وقصة مواقعة مارية في بيت حفصة، مع ألفاظ وزيادات مستغربة.
قلت:
وهذه الرواية لا تثبت، فإن حديث ابن عباس عن عمر كما في الصحيحين؛ ليس فيه
هذه الزيادات، ثم إن الرواية هذه من طريق: سعيد بن أبي هلال الليثي
مولاهم، أبو العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي:
صدوق، كان أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث().
أقول: ومن نظر في روايته هذه، وقارنها برواية البخاري؛ رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
3- أخرج الدارقطني بسنده عن هشام الدستوائي قال: كتب إليّ يحيى بن أبي كثير يحدث عن عكرمة عن عمر قال: الحرام يمين يكفرها، (كذا الرواية ولم يكمل النص) ثم قال الدارقطني: قال هشام وكتب إليّ يحيى
عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول: في الحرام
يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ إن
النبي
كان حرم جاريته؛ فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً().
وأصل هذا الحديث في البخاري دون ذكر الجارية، قال البخاري:
حَدَّثَنَا
مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ
حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما
قَالَ: فِى الْحَرَامِ يُكَفّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾().
4- طريق أخر عند البيهقي، قال :
أخبرنا
أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن كامل القاضي، أنا محمد بن سعد بن محمد
بن الحسن بن عطية بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية،
حدثني أبي عن جدي عطية بن سعد عن بن عباس رضي الله عنهما: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، إلى قوله: ﴿ وهو العليم الحكيم ﴾، قال: كانت
حفصة وعائشة رضي الله عنهما متحابتين، وكانتا زوجتي النبي ، فذهبت حفصة إلى أبيها تتحدث عنده، فأرسل النبي
إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة رضي
الله عنها، فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرة
شديدة، فأخرج رسول الله جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيتُ من كان عندك، والله لقد سُؤْتَني، فقال رسول الله : والله لأرضينك، وإني مُسِرٌّ إليك سراً، فاحفظيه، فقال: إني أُشهِدُك أن سَرِيَّتي هذه عليَّ حرام، رضاً لك، وكانت حفصة وعائشة تظاهرتا على نساء النبي ، فانطلقت حفصة فأَسَرَّتْ إليها سراً، وهو أن أبشري أن محمداً قد حرم عليه فَتاتَه، فلما أخبرت بسِرِّ النبي أظهر اللهُ النبيَّ عليه، فأنزل الله على رسوله : ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى آخر الآية().
قلت : وهذا حديث لا يصح؛ فيه محمد بن سعد بن محمد، قال الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به()، وفيه: الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به()، وأبوه: الحسن ضعيف()، وعطية: صدوق يخطئ، وكان يدلس().
رابعاً- حديث عمر:
1- أخرج الدارقطني بسنده () عن عبدالله بن عمر العمري عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله
بأمِّ ولدِه مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال: لا تذكري هذا
لعائشة، فهي عليَّ حرامٌ إن قربتها، قالت حفصة: وكيف تحرم عليك، وهي
جاريتك؟ فحلف لها لا يقربها، فقال النبي :
لا تذكريه لأحد، فذكرته لعائشة، فآلى [أي حلف] لا يدخل على نسائه شهراً،
فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلة، فأنزل الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾
الآية، قال :والحديث طويل().
وهذه الرواية لا تصح، ففيها عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عَنْعَن.
2-
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد
الرقاشي، حدثنا مسلمبن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن
ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي
لحفصة: « لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام »، فقالت: أتحرم ما
أحل الله لك؟ قال: «فَوَالله لا أقربها »، قال: فلم يقربها حتى أخبرت
عائشة، قال: فأنزل الله: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ ﴾.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج().
قلت: فيه عبد الملك بن محمد الرقاشي، صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، وكان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام في روايته()، وقد تفرد بهذا الإسناد.
خامساً- أحاديث مرسلة:
1- عن الضحاك: أن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها زارت أباها ذات يوم، وكان يومها، فلما جاء النبي
فلم يرها في المنزل، فأرسل إلى أَمَتِه ماريةَ القبطيةَ، فأصاب منها في
بيت حفصة، فجاءت حفصة على تلك الحالة، فقالت: يا رسول الله، أتفعل هذا في
بيتي، وفي يومي، قال: فإنها عليَّ حرام، لا تخبري بذلك أحداً، فانطلقت حفصة
إلى عائشة، فأخبرتها بذلك، فأنزل الله عز وجل في كتابه: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ وصالح المؤمنين ﴾، فأُمِرَ أن
يُكَفِّر عن يمينه، ويراجع أَمَتَه، وبمعناه ذكره الحسن البصري مرسلاً().
2- قال الطبري:
حُدثت
عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾
كانت لرسول الله فتاةٌ، فغشيها، فبَصُرت به حفصة، وكان اليومُ يومَ عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله : « اكْتُمي عَلَيَّ وَلا تَذْكُرِي لِعَائِشَةَ مَا رَأَيْتِ »، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله حتى حَلَفَ أن لا يقربها أبداً، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفِّر يمينه، ويأتي جاريته().
3- وعن مسروق أنه قال: إن رسول الله حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: هي عليَّ حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِر أن لا يحرم ما أحل الله().
4- وعن قتادة قال: كان رسول الله في بيت حفصة، فدخلت فرأت فتاتَه معه، فقالت: في بيتى ويومي؟ فقال: اسكتي، فوَالله لا أقربها، وهى على حرام().
5- وعن زيد بن أسلم أن رسول الله
أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أيْ رسول الله؛ في بيتي
وعلى فراشي، فجعلها عليه حراماً، فقالت: يا رسول الله؛ كيف تحرم عليك
الحلال، فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ﴾().
وقال
الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن مالك، عن
زيد بن أسلم، قال لها: « أنت عليّ حرام، وَوَالله لا أطؤك »().
نقد الروايات:
ـ روي حديث مارية من طريق: أنس وأبي هريرة وابن عباس وعمر، كما روي مرسلاً عن الضحاك وقتادة ومسروق وزيد بن أسلم.
ـ فأما حديث أنس؛ فجاء عنه من طريقين جيدين: عن ثابت عنه، وكانت روايته مقتصرة على ذكر أن عائشة وحفصة ما زالتا بالنبي حتى حرم جاريته، وصححه ابن حجر.
ـ وأما حديث أبي هريرة؛ ففيه موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه، قال الذهبي: مجهول وخبره ساقط، فلا يصح.
ـ وأما حديث ابن عباس فروي عنه من طرق:
فأما الطريق الأول ففيه: إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وهو ضعيف.
وأما
الرواية الثانية فلا تثبت، فيها سعيد بن أبي هلال الليثي مولاهم، أبو
العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي: صدوق، كان
أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث، ومن نظر في روايته هذه،
وقارنها برواية البخاري رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
وأما
الرواية الثالثة فهي عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان
يقول: في الحرام يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة ﴾ إن النبي
كان حرم جاريته، فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً.
وأصل هذه الرواية في البخاري دون ذكر الجارية.
وأما
الطريق الرابعة عن ابن عباس فلا تصح؛ فيها محمد بن سعد بن محمد، قال
الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به، وفيه
الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا
يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به، وأبوه الحسن ضعيف، وعطية صدوق يخطئ،
وكان يدلس.
ـ وأما حديث عمر، فمن طريقين:
فأما الأول: فلا يصح؛ فيه عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عنعن.
وأما
الثانية: أخرجها الهيثم بن كُلَيب في مسنده، وهي موافقة لرواية أنس
الصحيحة، وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، قلت: لكن فيها عبد الملك بن محمد
الرقاشي؛ صدوق، وقد اختلط في آخره.
ـ وأما الروايات المرسلة: فلم يصح منها إلى الراوي المرسل إلا روايتان عن مسروق وزيد موافقتين لرواية أنس المختصرة الصحيحة .
فيلاحظ مما مضى صحة الرواية سنداً؛ التي تقتصر على أن السيدة عائشة وحفصة مازالتا بالنبي
حتى حرَّم على نفسه مارية، وهي رواية أنس من طريقين عن ثابت عن أنس،
ووافقتها رواية ابن عمر عن عمر، عند الهيثم بن كليب، كما وافقتها رواية
مسروق وإحدى روايتي زيد بن أسلم المرسلتين بإسناد صحيح إلى مسروق وزيد، دون
ذكر تفاصيل في هذا الشأن، ودون ذكر أنه وطئ مارية في حجرة حفصة، وغيرِ ذلك
من الأمور التي لا يليق نسبتها إليه ، و التي يُشعِر الحديث عنها بسوء أدب مع رسول الله .
ويلاحظ
أن المفسرين قد اختلفوا كثيراً في هذا الأمر، ولولا أن الشيخين قد خرجا
قصة العسل؛ لرأينا أن أكثر المفسرين يميلون إلى قصة مارية.
لكننا لسنا معهم في ما ذُكِر من تفاصيل بسبب تحريم مارية.
الخاتمة
يخلص الباحث بعد هذه الدراسة إلى جملة من الحقائق والقضايا والنتائج، أهمها:
-
يوجهنا
القرآن إلى منهج عظيم في التربية ؛ وهو أن الأصل وجوب الستر على من وقع
منه خطأ، إذ الفضح لايأتي بخير ولانتيجة ، ولذا نجد أن الله قد ستر ههنا
نوع المخالفة ومن اللواتي وقع منهن ذلك ، وهذا المنهج عام في كتاب الله ؛
كما نلاحظ في قصة الثلاثة الذين خلفوا ، وقصة الإفك، وقصة بدر (إذ همّ
طائفتان أن تفشلا)، وقصة الأنفال، ومن رغب بالدنيا في قضية الغنائم،
وغيرها.
-
للقرآن العظيم منهجه الخاص في النظم والبيان، ومن ذلك أنه يعرض للقصة أو
سبب النزول ـ في أكثر الأحيان ـ مجرداً عن الشخوص والأزمنة والأمكنة، إلا
لحكمة وفائدة خاصة؛ كقصة زيد: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: 37]، ولهذا المنهج القرآني في النظم
والبيان حِكَم كثيرة وفوائدة عظيمة؛ من ذلك:
- أن ينشغل فكر القارئ المتدبر بالعبر والدروس والتوجيهات المرادة من الآيات، لا أن ينشغل بالحدث نفسه، وبمن كان له صلة به.
- أن القرآن ليس كتاب قصة ابتداءً، ولا تاريخ، بل هو كتاب هداية وإعجاز.
- أن هذا المنهج أدْعَى إلى مزيد من التدبر والتفكر والبحث، حيث يتميز في البحث فيه الراسخون في العلم.
- كما أن في هذا المنهج ـ في بعض الأحايين ـ ستراً على بعض الناس، رفقاً بحالهم أو تكريماً لهم ـ كما أشرت.
ونحن إذا تأملنا في سورة التحريم ولِمَ أُخفي تفصيل السبب؟ نجد أن
هذه الحِكَم بادية، ولكننا مع ذلك نجد أن المفسرين اشتغلوا كثيراً ببيان
هذه الشخوص، وتفاصيل السبب والقصة، وخاصة في سورة التحريم، ولعلّ من أسباب
ذلك:
- وروود روايات في مصادر التاريخ أو السنة تفصل في هذه القصة.
- قد يرون أن ذلك مما يلقي الضوء على الآيات فهماً وتفقيهاً.
-
إشباع فضول الناس في التعرف على التفاصيل، لكن هذا الانشغال ترتب عليه في
كثير من الحالات اختلافات، وأَخْذ ورد، وربما كان فيه ما لا ينبغي أن يقال،
كما حدث في تفسير سورة التحريم.
ولعلّ
من خلال هذا البحث تأكَّد لدينا عملياً ضرورة التزام المنهج القرآني في
عرض القصة والأحداث، من غير الخوض في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، إلا لحكمة
وفائدة واضحة.
3_ تعلمنا القصة أهمية النظرة الواقعية إلى الحياة، فبالرغم من كون أزواج النبيهنّ
من هنّ في المقام؛ فلم يمنع ذلك أن يقع منهن خطأ ما، كما أنه إذا كان من
الممكن أن تقع مشكلة ما في بيت النبوة؛ فمن باب أولى غيرها، وأن المهمّ في
ذلك سرعة الحلّ وإيجابياته، وسرعة الاستجابة لأمر الله، والتقوى في ذلك
كله.
4- إن القصة وفق العرض القرآني لها تبين عظمَ مكانة الرسول
عند ربه، وخطورةَ الإساءة إليه، مهما كان نوع الإساءة صغيراً في نظر
الآخرين، وأنه قد وقع ما لا ينبغي من بعض أزواجه تجاهه، بصفتهنّ البشرية،
ولكن لعظم خلقه أراد إرضاءهن، ولو على حسابه، وبتنازله عن حقوقه، لكن الله ينتصر له من جهة، ويبين المَخْرَج مِن حَلْف يمين وقعت منه ،
وفي هذا توجيه لجميع الخلق من بعده، كما تبين الآيات سرعة استجابة زوجاته
للتوجيه الرباني، وسرعة التوبة، وفي هذا بيان لمقامهن أيضاً، لذا لم يطلقهن
لتحققهن بما ذكر من صفات: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ
تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ... ﴾، ومع كل هذه المعاني ستر الله هذه
الزوجات اللواتي قصرّن في حقه ، وحفظ سر ذلك حفاظاً على مقام النبوة ومقام زوجاته.
ولكن
كان لا بد من استثمار الحدث في بيان منهج المعالجة، وأهمية التوبة النصوح
والمسارعة إليها، ليبين لنا أن من شأن الإنسان الخطأ والتقصير، لكن التوبة
تطهره من كل ذلك، فكان قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ
عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]، ومن خلال ذلك تُعَرِّفُنا الآيات كيف يمكن
أن نواجه المشكلات الأسرية التي لا بد أن تقع، ومن وسائل ذلك: حُسن خلق
الزوج والزوجة، وسرعة مراجعة كل طرف لنفسه، وتنازل كل طرف عن بعض حقه
تكريماً ورعاية، وعدم الإصرار على الخطأ، بل المسارعة إلى التوبة، والستر
ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
5-تبين للباحث عدم صحة الروايات التي تدّعي أن النبي عاشر مارية في حجرة حفصة، أو في يومها، وأنها غضبت لذلك، فأسَرَّ إليها أنه يحرمها على نفسه.
6- بعض
روايات قصة العسلِ من طريق ابن جريج المدلس، ولم يصرح بسماع صحيح،
والثانية كانت من رواية الكوفيين عن هشام بن عروة، وحديث هشام في العراق
متكلم فيه، وباقي الروايات لم تصح.
ولكن
وعلى ضوء أن صاحبي الصحيحين ـ وهما من هما ـ قد اختارا رواية العسل في
تفسير سبب النزول؛ فهي الأرجح على ضوء النقد الحديثي، عند جمهور المجدثين،
وأن ذلك إنما كان من بعض أزواجه بدافع الغيرة البشرية الطبيعية، بل وبدافع الحب له .
7-أن الأرجح أن التي كان يشرب النبي
العسل هي زينب، وأن اللتين تظاهرتا هما السيدة عائشة وحفصة، كما هي
رواية عبيد بن عمير، وأن رواية هشام بن عروة وقع فيها مخالفة لما أنها من
رواية العراقيين عنه.
8- لكن ومع ذلك يمكن القول: إنه وبسبب الغَيرة الطبيعية في المرأة؛ أرادت بعض أزواجه أن يَحمِلنَ النبي
على الامتناع من معاشرة مارية، دون تفاصيل أخرى، وأن النبي أسَرَّ إلى
إحداهن بذلك إرضاءً لها، ولكن لم يُرِدْ أن يفشي ذلك، فأفشت هذه الزوجة ذلك
السر كله، متعاونة مع أخرى، ثم كانت التوبة منهن، ومال الطبري وابن حجر
إلى إمكان أن يكون كلا الأمرين حدث، ولعلّ في كلام القاسمي ـ وهو محدث
ومفسر ـ الذي نقلناه في صلب البحث ما يرجح هذا التوجه.
9-
لم يثبت لدى الباحث أي رواية صحيحة أن السِّرَّ الذي أخبر به النبي بعض
أزواجه؛ هو كون الخلافة مِنْ بعده لأبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
10-
حاول بعض المفسرين وشرّاحُ الحديث الجمعَ بين الروايات، فذكروا أنه من
الممكن أن تكون قصة العسل قد تَعَدَّدت، وتعددت مَنْ شَرِبَ عندها، كما أنه
من الممكن في الوقت ذاته أن تكون حصلت قصة مارية، فنزلت الآيات جواباً عن
ذلك كله، ويرى الباحث أن ذلك بعيد جداً، إذ يوضح سياق الآيات انتصار الله
العظيم لرسوله ، فكيف يسمح بتكرر ذلك، ومثل هذا الادعاء يحتاج إلى دليل نقلي صحيح، ولا يوجد.
وأخيراً:
نسأل الله أن يجعلنا ممن يُقَدِّرُ مقامَ النبي
حقَّ قدرِه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وكما قال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6].
ومِنْ ثمّ نسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا تجاه أزواجه
آل بيته الطاهر المطهر المزكى من الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33].
قائمة المصادر والمراجع
-
الآلوسي، شهاب الدين محمود، ت 1270هـ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث، بيروت، بلا تاريخ.
-
ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات بن المبارك بن محمد بن الجزري، ت606هـ، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: محمود محمد الطناحي، المكتبة الإسلامية، القاهرة، ودار الفكر، ط2، 1979م.
-
أحمد بن حنبل، ت241هـ، المسند، دار صادر، بيروت، لبنان، بلا تاريخ.
-
إسماعيل حقي، البروسوي، ت 1137هـ، تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، اختصار: محمد علي الصابوني، دمشق، دار القلم، ط2، 989م.
-
الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب، ت 502هـ، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار المعرفة، ط4، 2005م.
-
البخاري، محمد بن إسماعيل، ت 256 هـ، الجامع المسند الصحيح، بيت الأفكار الدولية، الرياض، ط1، 1998م.
-
بشار عواد معروف وآخرون، المسند الجامع، دار الجيل، بيروت، ط1، 1993م.
-
البغوي، الحسين بن مسعود ت 516هـ، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ.
-
البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ت 516هـ، معالم التنزيل، تحقيق: محمد عبد الله النمر، دار طيبة للنشر، ط4، 1997م.
-
البقاعي، برهان الدين أبو الحسين إبراهيم بن عمر، ت 885هـ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، ت 279هـ، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، تحقيق: د. بشار عواد معروف، دار الجيل، بيروت، ط2، 1998م.
-
ابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي، ت792هـ، التسهيل لعلوم التنزيل، بيروت، دارالفكر، دون تاريخ.
-
ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي، ت 597هـ، زاد المسير في علم التفسير، بيروت، دار الفكر، ط1، 1987م.
-
الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه النيسابوري، ت 405هـ، المستدرك على الصحيحين، مكتبة الجندي، مصور بلا تاريخ.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت354هـ، صحيح ابن حبان، بترتيب ابن بلبان، علاء الدين علي، ت 739هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1993م.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت 354هـ، الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند، ط1، 1979م.
-
ابن حجر العسقلاني، ت852هـ، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار السلام، مصر، ودار الفيحاء، دمشق، ط 1، 1997م.
-
ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، ط 4، 1992م.
-
ابن خزيمة، أبو بكر محمد ابن إسحاق، ت311هـ، صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1، 1975.
-
حسنين محمد مخلوف، صفوة البيان لمعاني لقرآن، نشر دولة الإمارات ووزارة الأوقاف، 1981م.
-
الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم، ت 725هـ، لباب التأويل، تحقيق: عبد السلام شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن البغدادي، سنن الدارقطني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ– 1966م.
-
الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، ت 255هـ، السنن، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة، 1966م.
-
أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ت275هـ، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، بدون تاريخ.
-
الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمدبن عثمان (ت748)، ميزان الإعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت ط1، 1963.
-
الرازي، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، ت 327هـ، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1953م.
-
الرازي، محمد فخر الدين، ت 604هـ، التفسير الكبير، بيروت، دار الفكر، 1978م.
-
الزمخشري، أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر، ت 538هـ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ.
-
أبو السعود، محمد بن محمد أبو السعود، ت 982هـ، تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث، بيروت.
-
سعيد حوى، ت 1989م، الأساس في التفسير، القاهرة، دار السلام، ط5، 1999م.
-
سعيد بن منصور، ت 227هـ، سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار العصيمي، الرياض، ط1، 1414هـ.
-
سيد قطب، ت 1966م، في ظلال القرآن، بيروت، دار الشروق، ط34، 2004م.
-
السيوطي، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م.
-
ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، ت 643هـ، علوم الحديث، أو مقدمة ابن الصلاح، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1984م.
-
الطاهر، ابن عاشور، معاصر، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية، 1984م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف العراقية، ط1، 1979م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ.
-
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310هـ، جامع البيان في تفسير القرآن، القاهرة، دار الحديث، 1987م.
-
القاسمي، جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: هشام البخاري، مؤسسة التاريخ العربي.
-
القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1988.
-
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي، ت774هـ، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1987م.
-
ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، 273هـ، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، إحياء التراث العربي، بيروت، 1975م.
-
مالك بن أنس، أبو عبد الله، ت 179هـ، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
-
محمد علي الصابوني، معاصر، صفوة التفاسير، بيروت، دار القرآن الكريم، ط4، 1981م.
-
محمد علي الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ط2، 2001م.
-
مسلم بن الحجاج، أبو الحجاج القشيري، ت261هـ، صحيح مسلم، دار ابن حزم، بيروت، ودار المغني، الرياض، ط 1، 1998م.
-
ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، ت711هـ، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968م.
-
النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت303هـ، السنن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1930م.
-
النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد، ت 710 هـ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، بيروت، دار الفكر، دون تاريخ.
-
أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت 430هـ، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، مصور عن مكتبة الخانجي والسعادة، مصر، 1938م.
-
نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر، دمشق، ط 3، 1981م.
-
النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، ت 676 هـ، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1984م.
-
وهبة الزحيلي، معاصر، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دار الفكر، بيروت ودمشق، ط1، 1991م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
الانتصار لرسول الله
على ضوء سورة التحريم
إعداد : د. محمد سعيد حوى
جامعة مؤتة ـ كلية الشريعة
قسم أصول الدين
ملخص
يستغل
بعضٌ أثراً عن جهل أو مرض قلب أو عداء - كما حدث لمخرج الفلم المسيء - بعض
الروايات الواردة في بعض كتب التفسير أو الحديث - دون تمحيص - لانتقاص
مقام النبوة، والاعتداء على أهل بيته - كما يفعل الرافضة - ومن هذه
الروايات التي يساء التعامل معها ما ورد في أسباب نزول صدر سورة التحريم،
مستغلين ما وقع في بعضها من ضعف أو اختلاف بين الرواة في أسباب النزول؛ هل
كان بسبب أن النبي كان يشرب العسل عند إحدى زوجاته، فأرادت بعضهن صرفه عن ذلك؟
ومن هي هذه الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ ومن هن اللواتي أردن صرفه عن ذلك؟
أم كان سبب نزولها أن بعض زوجاته أردن صرفه عن معاشرة جاريته وأمَتِه مَارِيَة؟ وما حقيقة ذلك؟
فكان
لا بد من اكتشاف منهج القرآن الخاص في عرض هذه القضايا، وكيف انتصر الله
لنبيه، وكيف ننزه بيت النبوة عما لا يجوز أن ينسب إليه، من خلال دراسة
دقيقة للروايات الواردة في ذلك حديثياً.
ولعلّ أرجح ما رأيت في ذلك أنه وبسبب الغَيْرة الطبيعية البشرية عند النساء أردن صرف النبي
عن شرب العسل عند زينب، وأن المتظاهرتين هما عائشة وحفصة، ولا يمنع أن
يكون اجتمع إلى ذلك صرفه عن معاشرة أمَتِه، حيث أنها أمَةٌ ليس لها حقوق
الزوجية الكاملة.
لكن في الوقت نفسه لا يصح ما قيل: إن ذلك كان بسبب أنه واقع مارية في حُجْرة حفصة ويومها، وأنها غضبت لذلك.
ونلاحظ
هنا أن المنهج القرآني يسمو بنا عن الخوض في التفاصيل التي لا يترتب عليها
حكم خاص أو فائدة تربوية أو تشريعية، وقد جاءت الآيات بأعظم مظاهر
الانتصار لرسولنا .
Abstract
Many
disagreements occurred between relaters and interpreters Resulting from
the Occasions of the revelation of verses of Surat At-Tahrim; Is the
reason that the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at one
of his wives, for that Mother of believers Aisha and Hafsa wanted to
averted him from that ?
And the disagreements happened of whom is the wife that was the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at ?
Or was the reason that some of his wives wonted to averted him form intercourse his bondwoman Maria ?
we
had to approach the prevailing character of the Quran in the dealing of
these issues, and how we can upright the house of prophecy from what
may not be allowable to them, with an attempt to criticize the
narrations that had been reported Haddithia .
Perhaps
What I have most likely that, because of the natural jealousy in women
they wanted to averted the Prophet (Peace be upon him) form intercourse
his bondwoman, Where known that bondwoman do not have the conjugal
rights.
But
at the same time not true what was mention that this was because of the
Prophet (Peace be upon him) (go to bed) or (intercourse) with Maria, in
a chamber of Hafsa, and she got angry for that.
المقدمة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن معرفة مقام النبي
عند الله و من ثمّ حفظه والقيام بحقه بما يرضي الله سبحانه؛ من أعظم
الواجبات في حق الخلق جميعاً، وطالما نوّه القرآن بذلك؛ كقوله تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وقوله تعالى:﴿النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾
[الأحزاب: 6]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً،لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً،وَيَنصُرَكَ اللَّهُ
نَصْراً عَزِيزاً﴾ [الفتح:1- 3].
وقد
أوجب سبحانه كمال الاقتداء به ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21]، وبيّن سبحانه في آيات عديدة
انتصاره لنبيه في مواجهة من يسيء له؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، وكان تبعاً لذلك حفظ مقام أهل بيته،
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]، ولئن كان كل
ذلك من البدهيات عند كل مسلم؛ فإن بعضاً و أثراً عن جهل أو مرض قلب أو
عداء_كما حدث لمخرج الفلم المسيء_ يستغل بعض الروايات الواردة في بعض كتب
التفسير أو الحديث_دون تمحيص- لانتقاص مقام النبوة، والاعتداء على أهل
بيته_كما يفعل الرافضة_.
ولعلّ
من الآيات التي أسيء التعامل معها من بعض ممن ذكرت؛ آيات صدر سورة
التحريم، إذ أورد بعضهم في تفسيرها روايات ضعيفة تتضمن بعض ما لا ينبغي أن
يقال في حق النبي
وبيت النبوة، وما يخرج عن المنهج القرآني في الستر والصيانة وحفظ مقام بيت
النبوة؛ كما وقع في بعض آخر اختلافات؛ مما دفعني للبحث في هذه الروايات،
لعلي أحقق جملة من الأهداف، ومنها:
1- لفت النظر إلى بعض أسرار القرآن وحِكَمه في طريقة عرضه لآيات سورة التحريم، وهو يعلي مقامه، ويثني على أهل بيته، بعد أن كان من بعضهن-بصفتهن البشرية- خطأ ما، وقد سارعن إلى التوبة منه .
2- محاولة الترجيح بين الأقوال المتضاربة في شأن هذه الحادثة.
3- محاولة الإجابة عن الإشكالات المطروحة فيها، ومنها:
- اختلاف الروايات هل كان التحريم بسبب قصة عرفت بقصة العسل، أم بسبب قصة مارية.
- إن كانت قصة العسل هي الأرجح؛ فمَن التي كان يشرب عندها العسل ؟ ومَن اللواتي تظاهرن عليه ، إذ وقع اختلاف في ذلك.
- وإن كانت قصة مارية هي الأرجح؛ فما حقيقة هذه الحادثة؛ وسيقف القارئ على كل هذه الروايات.
4- رد الشبهات التي قد تثار حول بيت النبوة؛ بسبب بعض الروايات التي ربما لم تصح أوتحرر أو تدقق.
5_ وفي سياق ذلك كله لفت نظر إلى منهج حسن الفهم ودقة التدبر لكتاب الله، والحياة في ظلاله، والتحقق بأنواره.
فجاءت الدراسة في ثلاثة مباحث وخاتمة:
- المبحث الأول: تعريف عام بسورة التحريم، وبيانها لمقام النبي.
- المبحث الثاني: عرض لبعض آراء المفسرين والمحدثين في أسباب نزول صدر آيات سورة التحريم.
- المبحث الثالث: دراسة الروايات دراسة حديثيه ناقدة.
- الحاتمة، وفيها التأكيد على مقام النبي وأهل بيته؛ في ضوء حسن الفهم لكتاب الله وتحرير الروايات.
فإن
وفِّقت فمِن الله؛ فضلاً ومنة وكرماً، وإن كانت الأخرى؛ فأستغفر الله،
راجياً من أهل العلم والفضل التسديد والتصويب، سائلاً المولى أن يجعله
خالصاً لوجهه وهو ولي كل نعمة وفضل وتوفيق.
عمان 11 محرم الحرام 1434هـ الموافق25/11/2012م
وكتبت النسخة الأولى بتاريخ:
عمان 1 صفر الخير 1433هـ الموافق25/12/2011م
د. محمد سعيد حوى
المبحث الأول
التعريف بالسورة الكريمة
أولاً: تسمية السورة:
قال الآلوسي: سورة التحريم، ويقال لها سورة المتحرم، وسورة لِمَ تُحرِّم، وسورة النبي ، ...و سورة النساء().
ويلاحظ أنها سميت بذلك لمّا حرم النبي على نفسه ما حرّم؛ ابتغاء مرضات أزواجه، فكان ذلك سبب افتتاحها بهذا الخطاب الذي يحمل معاني التكريم للنبي ،
والحدب عليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]().
أمّا ما هو الذي حرمه رسول الله ؟ وما المراد بالتحريم ؟ فيأتي بيانه إن شاء الله.
ثانياً: تاريخ نزولها:
اتفق
أهل العلم أنها سورة مَدَنِيَّة، وأن آياتها اثنتا عشرة آية، إلا أن
السيوطي ذكر في الإتقان عن قتادة أن أولها إلى تمام عشر آيات مدنية، وما
بعدها مكي().
أقول: ولا دليل على هذا، بل هي سورة واحدة متحدة في سياقها وموضوعها كما سنرى.
وتعد هذه السورة الخامسة بعد المائة بحسب النزول، نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة().
ثالثاً: مناسبة السورة لما قبلها في ترتيب المصحف:
قال الآلوسي: هي متواخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي ، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الدماء، وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.
ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى ، إعظاماً لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة.
ويمكننا
أن نقول: إن سورة الطلاق تحدثت عما يكون من مشكلات في بيوت عامة الناس،
مما قد يفضي إلى طلاق، ومن ثم بينت ما يترتب على ذلك من أحكام، لكننا إذا
تأملنا في سورة الطلاق فإنها دعتنا إلى تقوى الله، وأن من تقوى الله أن
نسعى لمعالجة تلك المشكلات ما أمكن،كما أن تقوى الله طريق لمنع المشكلة
أوحسن حلها ، فإن كان لابد من طلاق فليكن وفق الهدي الرباني.
فجاءت
سورة التحريم لتقدم الأنموذج الأرقى، وهو بيت النبوة، وأنه مع ذلك فقد وقع
مشكلة كان يمكن أن تؤدي إلى طلاق، لكن انظروا عظمة خُلق النبي ،
وكيف كان صبره واحتماله وحلمه سبباً في حلّ المشكلة، ومِن ثمّ مثّل لنا
بذلك قمة التحقق بالتقوى، مما ترتب عليه الحفاظ على بيت النبوة، وإنهاء هذه
المشكلة.
كما تبين لنا السورة أثر اتقاء زوجاته ،
إذ سارعن إلى التوبة ؛ فإذن سورة التحريم سورة النموذج الأرقى للبيت
المؤمن، الذي سبق الحديث عن بعض قضاياه ومشكلاته في سورة الطلاق.
وإذا
كان الأمر كذلك في سورة الطلاق؛ فإن سورة التحريم تقدم النموذج الأرقى من
حيث إمكان وقوع المشكلة، والنموذج الأرقى في كيفية الحل وسرعة هذا الحل،
وكيف جعل الله لنبيه
مخرجاً من يمينه، إذ هو إمام المتقين، وقد سبق وأن بينت سورة الطلاق ﴿ومن
يتق الله يجعل له مخرجاً﴾، فكما أن سورة الطلاق تحدثت عن المشكلة ووجوب
علاجها بتقوى الله؛ فإن سورة التحريم رسمت المنهج لبيان كيف نتحقق بذلك،
سواء من خلال تلكم الحادثة التي وقعت للنبي ، أو من خلال النداءات التي في السورة، أو النماذج الأخرى التي قدمتها لنا سورة التحريم.
رابعاً: مناسبتها لما قبلها وما بعدها بحسب النزول:
رأينا
أن العلماء قد نصوا أنها نزلت بعد سورة الحجرات، ومن ينظر في سورة الحجرات
يراها سورة الأخلاق، كما أن فيها بيان مقام رسول الله ووجوب حفظ اللسان، وكله ذو صلة بموضوع سورة التحريم؛ إذ بينت سورة التحريم جوانب مما يجب له من حق، وضرورة حفظ ألسنتنا بين يديه، ونزلت بعد التحريم سورة الجمعة، وفي سورة الجمعة تأكيد على مقام رسول الله
وأنه سبب تزكية وهداية الأمة، كما فيها بيان الانتفاع بالهدي الرباني، فلا
نكون كأهل الكتاب الذين لم ينتفعوا بهذا الهدي الرباني، وكأن السورة تشير
أن أزواج النبي بعد أن كان ما كان منهن قد عُدْن إلى الهداية والرشد والتحقق بالتزكية والانتفاع بالهداية الربانية.
خامساً: الوحدة الموضوعية في سورة التحريم:
من
ينظر إلى سورة التحريم للوهلة الأولى قد يجد تنوعاً في الموضوعات فيتساءل:
لماذا كان الحديث عن قضية تخص بيت النبوة، ثم حديث موجه لعموم الأمة،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ
لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
[التحريم: 6]، ثم حديث عن الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ
تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[التحريم: 7]، ثم حديث عن التوبة، ثم كان الحديث عن زوجتي نوح ولوط وعن
امرأة فرعون ومريم عليهما السلام.
أقول:
من يتأمل في هذه السورة يجد مظهراً من مظاهر إعجاز القرآن في وحدته وتناسق
آياته وترابط موضوعاته وقضاياه، فلما كان الحديث عن مشكلة خطيرة حدثت في
بيت النبوة وترتب عليها أحكام ذات أهمية خاصة؛ كان لابد أن تُستثمر هذه
القضية إلى أبعد مدى، فكان قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ
أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ
قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
[التحريم: 5] وفي هذا بيان لجملة أمور:
1-
بيان أن تخلف بعض هذه الصفات قد يؤدي إلى طلاق أو يحدث مشكلات خطيرة، فهي
متضمنة التحذير من أسباب الطلاق، ولما كان الواجب علينا أن نحصّن الأسرة،
وأن نقوم بمسؤولياتنا جميعاً لنحمي أنفسنا وأُسَرَنا في الدنيا، ولتتم
النجاة في الآخرة، فإن ذلك لا يكون ذلك إلا من خلال تقوى الله واتباع الشرع
الحنيف.
2- ومن ثم فيها بيان صفات الزوجة الأرقى التي إن وجدت فيها؛ ساعد ذلك على اتقاء المشكلات أو حلها.
3- وبيان أن أزواج النبي قد تحققنَ بهذه الصفات الأرقى، ومن ثم ثبتن على عصمته ولم يطلقهن.
فجاء
النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ
شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وكان هذا النداء تنبيهاً إلى تربية الأهل
لتكون البيوت بعيدة عن الفساد والاختلاف والتجاوز.
4-
ولما كان من شأن الإنسان الضعف والقصور والوقوع في الخطأ أو الذنب، وفي
سياق ذلك قد تحْدُث اتهامات وافتراءات واعتداءات وتجاوزات، وكلها ذنوب
خطيرة، وقد يترتب عليها مشكلات ومآس في الدنيا والآخرة، فكان لابد من بيان
منهج معالجة ذلك كله، من خلال فتح باب التوبة والحض عليه، وبيان أثره
النوراني في الدنيا والآخرة، فكان النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن
يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8].
وفي هذا كله رَسْم لمنهج معالجة المشكلات الفردية والأسرية والاجتماعية، ومن ثم فالسورة كالاستمرار لما جاء في سورة الطلاق.
5-
ولما كان وجود النموذج مما يساعد على التحقق الأرقى؛ فقد أعطانا الله أخطر
نموذجين سلبيين، كانا في تاريخ الأنبياء السابقين: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ
يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ
الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10],
وأعطانا
أعظم أنموذجين إيجابيين لامرأتين وجدتا في التاريخ السابق، وكيف أن
الإيمان الحق والالتزام الأكمل رفعهما إلى أعلى مقام عند الله من جهة،
وحفظهما في الدنيا أعظم حفظ، مع تنوع في هذين الأنموذجين، فقدم أنموذج
المرأة المؤمنة في بيت زوج كافر بل هو أعتى الكفرة، ومن خلال صبر وإيمان
امرأة فرعون تتعلم المرأة المسلمة كيف يمكن أن تصبر وتتعامل مع كل مشكلة
تواجها داخل أسرتها، والأنموذج الآخر أنموذج المرأة الطاهرة العفيفة التي
تعرضت لموقف هو الأشد على النفس (أن تحمل بلا زوج)، مع كونها في أسرة طاهرة
عفيفة مؤمنة.
وكأنه يقال من مجموع السورة: لا تخرج أحوال الأسر والزوجات عَمّا ذكر سواء مما كان مع رسول الله
أو مع آخربن ممن ضرب مثلاً، ولئن كان هذا الأمر واضحاً فيبقى السؤال: أنه
قد ذكر في سياق السورة آيتان نحن بحاجة إلى تبيين علاقتهما بالسياق:
الأولى:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7].
الثانية:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ﴾ [التحريم: 9].
ولعل
السرّ في ذلك أنه لابد أن نتذكر أن أخطر ما نواجه في سياق البناء الأسري
والأخلاقي والحياة الزوجية؛ ما قد يلقيه الكافرون من شبهات، وما يقومون به
من مخططات وأعمال لهدم الأسر وانحلال الأخلاق، فضلاً عن اتخاذ مثل هذه
الأحداث ذريعة للإساءة إلى رسول الله وإلى الإسلام نفسه، ومن ثم للمسلمين.
وإن
علاج ذلك كله كما يكون بالتربية والوقاية من النار والتوبة؛ فكذلك يكون
بالإعداد القوي الذي تردع به الكافرين، وتحول دون اجترائهم على الإسلام
والمسلمين، وأننا طالما كنا في حالة من القوة الإيمانية والمادية؛ فلا يصل
لنا الكافرون بشيء، وطالما ضعفنا في أي جانب فلاشك أن الاختراق حاصل، و
لعل واقع المسلمين المأساوي اليوم معبر عن ذلك().
ومن ثمّ جاءت الآية الثانية: ﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ﴾.
النظام الزوجي في السورة:
وإنه لمما يلفت النظر في السورة الكريمة أنه إذ تتحدث عن الحياة الزوجية؛
فقد قامت على نظام زوجي عجيب، ومن ذلك: يتكرر الخطاب للنبي
مرتين، وكذا للمؤمنين، والنساء اللواتي تظاهرن اثنتان، والنساء الكافرات
اللواتي ضرب بهن المثل اثنتان، وكذا المؤمنات، والصفات المثلى للمرأة
المسلمة ثمانية، وكل صفتين متواخيتان مترابطتان، وعدد آياتها 12، ورقم
السورة 66، وفي الجزء 28، وهناك المزيد لمن تأمل.
سادساً: الآيات ومعناها العام:
قد يكون من المناسب أن نورد بين يدي البحث الآيات المقصودة بالدراسة، مع بيان إجمالي لمعانيها:
قال
تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [1] قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [2] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ
أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا
بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ [3] إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [4]
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ
سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [5] ﴾.
التفسير:
{
يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } يخاطب الله نبيه
خطاب تعظيم وتكريم: لِمَ تَشُقُّ على نفسك، فتمتنع عما هو حلال لك، تفعل
ذلك { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك }، وهذا بقطع النظر عما كان قد منع رسول
الله منه نفسه؛ هل امتنع عن شرب العسل عند بعض أزواجه، أو امتنع عن قربان
جاريته، على ما سيأتي بيانه، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وإن كنت قد حلفت
أن تمتنع عن هذا الشيء؛ فلك مخرج بالكفارة: { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ
تَحِلَّةَ أيمانكم } قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو
قد شرع لكم تحليلها بالكفارة، { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم،
وقيل: مولاكم: أولى بكم من أنفسكم ،فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم
أنفسكم،أو هو ناصرك في كل موطن ومن ذلك هذا الموطن ، { وَهُوَ العليم } بما
يصلحكم فيشرعه لكم، { الحكيم } فيما أحل وحرم وفي كل ما يكون ، ومنه أحداث
هذه السورة .
{
وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حفصة على الأرجح {
حَدِيثاً } حديث مارية وأنه لا يقربها أو غيره { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }
أفشته إلى عائشة رضي الله عنها، { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وأطلع
النبي
على إفشائها الحديث، على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ }
أعلم ببعض الحديث، وعاتبها على بعضه { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } فلم يعاتبها
على كل فعلها، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} نبأ النبيُّ حفصةَ بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي :
{ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم } بالسرائر {الخبير }
بالضمائر، { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة
الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن تتوبا
إلى الله فهو الواجب إذ وقع منكما ما يستوجب ذلك ، ودل على المحذوف: {
فَقَدْ صَغَتْ } مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله
من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه،أو فإن تبتما فقد خضعت قلوبكما للحق ، {
وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } وإن تتعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في
الغَيْرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } وليه وناصره، ومجئ : {
هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته سبحانه، { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه،
{وصالح الْمُؤْمِنِينَ } ومَنْ صَلَح من المؤمنين أي كلُّ من آمن وعمل
صالحاً، { والملائكة } على تكاثر عددهم {بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله
وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٍ } فوج مظاهر له، فماذا يبلغ تظاهر
امرأتين على مَنْ هؤلاء ظهراؤه ، ثم من مظاهر هذه النصرة أنه سبحانه لوشاء
أن يبدله أزواجاً خيراً منكن لفعل ، فقال سبحانه : { عسى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } فإن قلت: كيف تكون
المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟
قلت: إذا طلقهن رسول الله
لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه
الأوصاف خيراً منهن {مسلمات مؤمنات } مُقِرّات مُخْلِصات، { قانتات }
مطيعات، فالقنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، { تائبات
} من الذنوب، أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ،
{عابدات } لله، { سائحات } مهاجرات أو صائمات، وقيل: للصائم سائح لأن
السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم
في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، { ثيبات وَأَبْكَاراً } ووسط حرف العطف
بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متقابلات بخلاف سائر
الصفات.
وحيث لم يطلِّقْهن دلّ ذلك أنهن قد استقمن على أمر الله بعد تلك الزلة منهن().
سابعاً: بيان السورة لمقام النبي ومكانة أزواجه:
إنه على ضوء ما سبق يمكننا أن نستخلص وجوهاً من بيان السورة لمقامه، وتبعاً لذلك مكانة أزواجه، فمن ذلك:
1-النداء الرباني بصيغة (يا أيها النبي)، ولم يناد باسمه في القرآن.
2-كون العتاب من باب الحدب عليه؛ أن كلف نفسه أمراً ما رعاية لمصلحة أزواجه.
3-بيان أخلاق النبي العظيمة في حرصه على تعامله مع أزواجه بـأرقى مظاهر التعامل، والحرص على إرضائهن، ولو بتنازله عن حقه.
4-تشريع الله إكراماً لنبيه - ومن ثمّ للخلق - كفارة اليمين؛ ما يكون سبباً للمخرج مما هو فيه.
5-انتصار الله لنبيه في سرعة إعلامه بما كان من إسرار بعض زوجاته.
6-أخلاقه العظيمة في كيفية مفاتحة زوجه؛ إذ كاشفها ببعض ما كان وسكت عن بعض آخر، كما قال تعالى : (عرّف بعضه وأعرض عن بعض).
7-مطالبة أزواجه بسرعة التوبة، والتأكيد عليها وبيان خطورة عدم التحقق بها؛ إشارة إلى عظم ما وقع منهن في حقه ، مهما كان يسيراً في نظر الناس.
8-بيان
أن الله مولاه، ثم لم يقتصر على ذلك بل ضم إلى ذلك ذكر جبريل وصالح
المؤمنين، وسائر الملائكة؛ وفي ذلك إشارة عظيمة إلى ما أوجب الله على جميع
الخلق من الانتصار لرسولنا .
9-بيان المواصفات العظيمة التي يجب أن تتوافر فيمن تصلح زوجة له .
10-بيان تحقق أزواجه بكل تلك الصفات، وتحققهن بالتوبة الكاملة؛ ومن ثمّ بقين على عصمته، وبقين أمهات للمؤمنين إلى الأبد .
11-
الستر على أزواجه إكراماً له في حقيقة ما حدث، وتستمر الحكمة إذ إلى الآن
_وبرغم الروايات الواردة في الباب سواء عند المفسرين أو المحدثين_ لا يجزم
أحد بما حدث.
12- التأكيد في هذا السياق على المغفرة والرحمة الإلهية، وكونه هو المولى سبحانه.
المبحث الثاني
سبب نزول صدر سورة التحريم عند بعض المفسرين والمحدثين
من
المفيد أن نقف على نماذج من آراء المفسرين والمحدثين في هذه القضية ؛
لتكون بمثابة إلقاء الضوء على ما نحن بصدده ، ولنرى توجهاتهم ، ولقد تعددت
الروايات في بيان سبب نزول صدر سورة التحريم، فوجدت بعضها يتحدث عن قصة
مفادها أن النبي كان يشرب عسلاً عند إحدى زوجاته مما أثار الغَيْرة عند بعض
نسائه الأخريات، فعمدن إلى أن يتفقن على أمر يحول بينه وبين شرب العسل، ثم
اختلفت الروايات من هي تلك الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ومن هن
اللواتي تظاهرن عليه في هذا الأمر؟
ثم جاءت روايات أخرى تتحدث أن سبب النزول حادثةٌ أخرى، لا صلة لها بالعسل، وإنما بسبب أن النبي
كانت له أَمَة (جارية) هي مَارِيَة، فأَرادت بعضُ نسائه أن يصرِفْنه عن
معاشرتها، وزادت بعض الروايات تفاصيل سنراها، وفي كلا القصتين حرَّم النبي على نفسه ما كان سبباً في ذلك.
فمن
هنا كان لا بد من دراسة مستفيضة لمحاولة الوصول إلى الأرجح والأصح، وبيان
ما يترتب على ذلك من حِكَم وأحكام، إذ قد وجدنا اختلافاً بين المفسرين
والمحدثين في بيان سبب النزول، وأي الروايات أرجح وأدق، كما أن بعض
الروايات تضمنت مالايجوز أن يكون في حق النبي أو لا يليق ببيت النبوة، مما
كان سبباً لاستغلالها من بعض مرضى القلوب؛ فكان لا بد من دراسة ممحصة،
وفيما يلي بيان لأهم آراء المفسرين والمحدثين في هذه المسألة:
أولاً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة العسل:
1-2-إماما أهل الحديث؛ البخاري ومسلم:
خرّج
البخاري ومسلم حديث قصة العسل، كما سنبين، وأعرضا عن قصة مارية، فلعلّ في
ذلك إشارة منهما إلى أن هذا هو الأصح. مع كون قصة مارية لم ترو بسند على
شرط الصجيج.
3- الإمام النووي (ت 676 هـ):
ورجح النووي أن الصحيح قصة العسل، وأن اللتين تظاهرتا هما عائشة وحفصة، وأن التي شرب عندها العسل هي زينب().
4-الإمام ابن كثير (ت 774 هـ):
قال: اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل: نزلت في شأن مارية، وكان رسول الله قد حرمها، ثم ذكر حديث أنس عند النسائي، ونقل ما رواه الطبري في الموضوع ومذاهب الفقهاء فيمن حرّم على نفسه شيئاً، ثم قال:
قال
ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الطبراني بسنده ... عن ابن عباس نزلت
هذه الآية: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ في المرأة التي وهبت
نفسها للنبي ().
قال
ابن كثير: وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل، كما قال
البخاري، وذكر حديث عبيد بن عمير عن عائشة في شرب النبي العسل عند زينب().
ثم
خرج حديث عروة عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، ثم قال: وقد يقال
إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية
فيه نظر، ورجح أن يكون اللتان تظاهرتا هما حفصة وعائشة، بحديث عمر لابن
عباس لما اعتزل نساءه شهراً().
فخلص كلام ابن كثير إلى ترجيح قصة العسل.
ثانياً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة مارية:
1- الإمام الخطابي (ت 388 هـ):
وقال الإمام الخطابي: الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية حين حرمها على نفسه().
2- الإمام البغوي (ت 516 هـ):
وإلى ذلك أشار الإمام البغوي، فبعد أن ذكر الروايات الواردة في ذلك، قال:
((وقال المفسرون: وكان رسول الله يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله في زيارة أبيها، فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله إلى جاريته مارية القبطية))، ...وساق قصة مارية.
ثم قال البغوي: ((وقوله: { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } وهو تحريم فَتاتِه على نفسه، وقولُه لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً)).
ثم
نقل رأياً آخر فقال: ((وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أَسَرَّ أمر
الخلافة بعده، فحدثت به حفصة، قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة
يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر
خليفتي من بعدي)).
وقال :(( قال مقاتل بن حيان: لم يُطَلِّق رسول الله حفصة، وإنما هَمَّ بطلاقها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة فلم يطلقها )().().
فيظهر
من كلام البغوي ترجيح قصة مارية، مع أنه أشار في سياق التفسير إلى قصة
العسل ، وسيأتي بيان أن شيئاً مما ذكره لايصح باستثناء قصة الغيرة .
3- الزمخشري (ت 538 هـ):
ونجد الإمام الزمخشري يذكر السببين، مع تبشير حفصة بأمر الخلافة، لكنه قدم ذكر قصة مارية، فقال:
روى أن رسول الله
خَلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: «اكتمي علي، وقد
حَرَّمْت ماريةَ على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي»،
فأخبرت به عائشة، وكانتا متصادقتين، وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها
بذلك واستكتمها، فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه، ومكث تسعاً وعشرين ليلة في
بيت مارية، وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طَلَّقَك،
فنزل جبريل عليه السلام، وقال: راجعها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك
في الجنة، وروي أنه ما طلقها، وإنما نَوَّهَ بطلاقها، وروي أنه عليه الصلاة
والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة، فقالتا له:
إنا نشم منك ريح المغافير()، وكان رسول الله يكره التفل()، فحرم العسل، فمعناه : ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من ملك اليمين، أو من العسل().
4- الإمام الآلوسي (ت: 1270 هـ):
وبعد أن استعرض الإمام الآلوسي الروايات الواردة في ذلك بإيجاز قال:
والمشهور
أنها مارية، وأنه عليه الصلاة والسلام وطأها في بيت حفصة في يومها، فوجدت
وعاتبته، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرِّمها فلا
أقربها، قالت : بلى، فحرَّمها، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم
عائشة، ثم قال:
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعتَ ما قيل فيها، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل، لا
في قصة مارية ... ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح، ثم قال الخفاجي نقلاً
عنه أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال
الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف،... والله تعالى أعلم().
5- جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ):
قال القاسمي :اختلف السلف قديماً وحديثاً فيما نزلت هذه الآيات؛ أفي
تحريم الجارية (مارية القبطية)، أم في تحريم شرب العسل، ليس هذا موضوع
بحثنا.
وطريق الجمع بين هذا الاختلاف؛ الحمل على التعدد، فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد.
وعند الترجيح ـ الذي يَظْهَرُ ـ أن سبب نزولها هو روايات تحريم الجارية، وذلك لوجوه:
منها: أن مِثله يبتغي به مرضات الضرّات، ويهتم به لهن.
ومنها:
أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف
لا يشربه أَنَفَةً من ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة
عليها.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة؛ لتقريع أزواجه وتأديبهن
في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك ... وإعلامهن برفعة
مقامه، وأن ظُهراءَهُ مولاه وجبريلُ والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على
أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغَيْرة مِن مِثل ما
روي في شأن الجارية.
وأما
تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن
الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا().
بعض الأعلام الذين رجحوا إمكان القصتين وتعدد الوقائع:
1- الإمام الطبري (ت 310 هـ):
قال الطبري: واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه...
فقال بعضهم: كان ذلك مارية ...
ثم ذكر الروايات الواردة في ذلك [وسيأتي تخريجها]، ثم قال:
« والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ
على نفسه شيئًا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز
أن يكون كان شرابًا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ
ذلك كان، فإنه كان تحريم شيئ كان له حلالاً فعاتبه الله على تحريمه على
نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه
ما حرّم على نفسه »().
2- الإمام ابن حجر (ت 852 هـ):
وقال ابن حجر: واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب؛ أن ذلك بسبب شربه
العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره «ولن أعود له، وقد حلفت» ثم قال :
ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: «حلف رسول الله
لحفصة لا يقرب أَمَتَه، وقال: هي علي حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِرَ
أن لا يحرم ما أحل الله». ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحق في حديث
ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه، وأخرج الضياء في
(المختارة) من مسند الهيثمبن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال رسول الله
لحفصة: لا تخبري أحداً أن أم إبراهيم عليَّ حرام، قال فلم يقربها حتى
أخبرت عائشة، فأنزل الله: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)، وأخرج الطبراني
في عِشْرة النساء وابن مردوية من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة
عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله
بمارية ببيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: «يا رسول الله في بيتي تفعل
هذا معي دون نسائك» فذكر نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس
قال: «دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته»، فذكر نحوه، وهذه طرق
يقوي بعضها بعضاً،[كذا قال ابن حجر] فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين
معاً، وقد روى النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن
النبي كانت له أَمَة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ الآية().
فيبدو أن ابن حجر يرجح صحة الأمرين معاً.
وهكذا
نلاحظ من خلال استعراض بعض أقوال المفسرين والمحدثين اختلافهم الشديد في
هذا الأمر، فمنهم من مال إلى ترجيح قصة مارية، (الخطابي والبغوي والزمخشري
والآلوسي والقاسمي)، ومنهم من مال إلى احتمال الأمرين، (الطبري وابن حجر)،
ومنهم من يرى أنها بسبب قصة العسل (النووي وابن كثير وصنيع البخاري ومسلم
في الاقتصار على تخريج قصة العسل يدل على ذلك)، مع كون جميع المفسرين
أشاروا إلى القصتين، مع اختلاف الروايات فيمن كان يشرب عندها، ومن التي
تظاهرت عليه ،ورجح
النووي أن التي شرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة
وحفصة، ورجحها على الرواية التي تقول إن التي شرب عندها العسل حفصة، وأن
اللواتي تظاهرن هم: عائشة وسودة وصفية، مع أن الروايتين في الصحيحين، لأن
القرآن نص أن التظاهر كان من اثنتين، واحتمل ابن كثير تكرر الحادثة()، فلعلنا نستطيع أن نصل إلى الراجح في هذا الأمر والله المستعان.
المبحث الثالث
الدراسة النقدية للروايات الواردة في سبب نزول صدر سورة التحريم
المطلب الأول
الروايات الواردة في شرب العسل
وفيه فروع:
أولاً: ما ورد أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب بنت جحش:
عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ أنه سمع عَائِشَةَ تخبر؛ أَنَّ النَّبِىَّ
كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا
عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ
عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ()،
أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: « لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ
جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ »، فَنَزَلَتْ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ إِلَى ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى
اللَّهِ ﴾ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ﴾ لِقَوْلِهِ « بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً »().
ثانياً: الروايات التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة:
عن عُروَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ
عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ
ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً
مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ
مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ
سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ
مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لاَ، فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ
الرِّيحُ؟ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ)، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ
لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ
نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا
صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ:
وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ
بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ،
فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: « لاَ »،
قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: « سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ
عَسَلٍ »، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَىَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ
فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: « لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ »،
قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ
حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي().
وبحسب هذه الرواية فإن الزوجة التي شرب النبي عندها العسل هي حفصة، وأن الذين تظاهروا عليه هم ثلاثة نساء: عائشة وهي التي بدأت الأمر، ثم سودة وصفية.
ثالثاً: ما ورد أن التي شرب عندها العسل هي أم سلمة:
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله
قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من أهله، فيضع يده، ويقبل كل
امرأة من نسائه، حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها، وإلا قام،
فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها، فقلت أنا وحفصة، وكانتا جميعاً يداً
واحدة: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها، تعنيان الجماع،
قالت: واشتد ذلك علينا، حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا
صار إليها أخرجت له عُكَّة من عسل، فتحت له فمها فيلعق منه لعقاً، وكان
العسل يعجبه، فقالتا: ما من شيءٍ نُكَرِّهُه إليه، حتى لا يلبثَ في بيت أم
سلمة؟ فقالتا: ليس شيء أكره إليه من أن يقال له: نجد منك ريح شيء، فإذا
جاءك فدنا منك؛ فقولي: إني أجد منك ريح شيء، فإنه يقول: من عسل أصبته عند
أم سلمة، فقولي له: أرى نحله جرس عرفطاً، فلما دخل على عائشة فدنا منها
قالت: إني لأجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا
رسول الله أرى نحله جرس عرفطاً، ثم خرج من عندها فدخل على حفصة، فدنا منها،
فقالت مثل الذي قالت عائشة، فلما قالتاه جميعاً اشتد عليه، فدخل على أم
سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل، فقال: أخريه عني، لا حاجة لي فيه، فقالت:
فكنت والله أرى أن قد أتينا أمراً عظيماً، منعنا رسول الله شيئاً كان
يشتهيه().
قلت: ولا تصح هذه الرواية، فيها: محمد بن عمر، هو الواقدي؛ متروك()، وفيها: عبد الرحمن بن أبي الزناد؛ متكلم فيه، ضعفه ابن معين وأحمد وغيرهم().
رابعاً: من قال إن التي شرب عندها العسل هي سودة:
قال السيوطي(): « عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْرَبُ عِنْدَ سَوْدَةَ مِنَ الْعَسَلِ، فَيَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ: إِنِّي أُرَاهُ مِنْ
شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَاللَّهِ لا أَشْرَبُهُ »().
إلا
أن هذه الرواية شَذَّت بذكر أن التي شرب عندها العسل هي سودة، وإن وافقت
ببيان أن حفصة هي المتواطئة مع عائشة، وفي سندها راو ضعيف كما هو مبين في
الهامش.
خامساً: روايات مَنْ لم تُسَمَّ:
عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِهِ كُلَّ غَدَاةٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ،
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عِنْدَهَا عَسَلٌ، فَكُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا أَحَضَرَتْ لَهُ مِنْهُ، فَيَمْكُثُ عِنْدَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّ
عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَدَتَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتَا حِينَ دَخَلَ
عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّا نَجْدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَسَلَ. رواه أبو يعلى()، وقال الهيثمي: فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات()، قلت: قال علي في يعقوب: ضعيف منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي().
فهذه الرواية ضعيفة، كما رأيت، ولم يبين من المرأة التي كان يشرب عندها العسل، وإن كانت تبين أن حفصة هي التي تواطأت مع عائشة.
وأخرج نحوه الحاكم بسنده عن القاسم بن محمد؛ قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يدخل على بعض أزواجه، وعندها عكة من عسل، فيلعق منها لعقاً، فيجلس عندها، فأرابهم ذلك، فقالت عائشة لحفصة ولبعض أزواج النبي ، فقلنا له: إنما نجد منك ريح المغافير، فقال: « إنها عسل ألعقه عند فلانة، ولست بعائد فيه »().
وأخرجه البيهقي بسنده: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
يَشْرَبُ مِنْ شَرَابٍ، يَعْنِي عِنْدَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، يَعْنِي
مِنَ الْعَسَلِ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ : إِنِّي أُرَاهُ مِنْ شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ
فُلانَةَ، وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿
يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾().
وغاية ما تفيد هذه الروايات أن اللتين تواطأتا هما حفصة وعائشة، ولا جديد فيها، ثم إنها لا تصح-كما هو مبين في التخريج -.
وهناك روايات مرسلة ذكرها الطبري، تذكر أنها نزلت في شأن الشراب دون تفصيل، قال الطبري():
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن
عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: نزلت هذه الآية في شراب ﴿ يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ ﴾.
وقال
الطبري :حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم،
قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الله بن شدّاد مثله، قال: ثنا أبو
قطن قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة، قال: نزلت في شراب.
خلاصة الروايات وإشكالاتها:
فالخلاصة أن بين الروايات اختلافاً وتضارباً:
1- فمن الروايات من يذكر أن التي شرب عندها العسل هي حفصة، كما في رواية هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، عند البخاري ومسلم.
2- ومنها ما يذكر أن التي شرب العسل عندها هي زينب، كما في رواية عبيد بن عمير، عند البخاري ومسلم أيضاً.
3- ومن الروايات ما يذكر أن المتظاهرين عليه هم عائشة وسودة وصفية، وهي عند البخاري ومسلم، من رواية هشام بن عروة بن أبيه عن عائشة.
4-
ومنها ما يذكر أن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة، كما هي رواية عبيد بن
عمير، عند البخاري ومسلم، ورواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند
أبي يعلى مع ضعفها.
5-
ومن الروايات ما يذكر أن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة، وأخرى
تذكر أنها سودة، وروايات لم تُسَمِّ أحداً ، ولم يصح منها شيء.
نقد الروايات:
إن كل ما سبق يقتضي منّا أن نقف وقفة نقدية متأنية مع هذه الروايات:
1-
إنه من حيث المبدأ يمكن ترجيح رواية ابن جريج عن عبيد بن عمير؛ التي تضمنت
أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة وحفصة،
لأدلة عدة منها:
- أن ذلك موافق للنص القرآني من حيث أنه ذكر أن المتظاهرتين اثنتان لا ثلاثة.
-
وموافق لحديث سأل فيه ابنُ عباسٍ عمرَ: من المرأتان اللتان تظاهرا على
رسول الله؟ فبين أنهما حفصة وعائشة، وإن كان لم يذكر قصة العسل().
- وموافق لرواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند أبي يعلى مع ضعفها.
- أن الذي خالف فروى حديث شرب العسل عند حفصة هو هشام بن عروة، من رواية العراقيين عنه، وقد أعلّ العلماء هذه الروايات، كما سنرى.
-
أما الرواية التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة، وأن التي تواطأت عائشة
وسودة وصفية، وفيها زيادات مستغربة؛ فهي مما تفرد به هشام بن عروة، وقد
رواه عنه ثلاثة كوفيون هم:
1- أبو أسامة حماد بن أسامة.
2- علي بن مسهر.
3- حفص بن غياث.
قال
أهل العلم: إنه لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في
غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، وكان مالك لا يرضاه، نقم عليه حديثه لأهل
العراق().
وقال يعقوب بن شيبة: ثبت ثقة، لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده().
وإذن فهذا الطريق أيضاً لم تسلم من العلة؛ إذ هي من رواية العراقيين عن هشام.
ج-
أما الروايات التي تحدثت أن المتظاهرتين هما حفصة وعائشة، دون بيان مضمون
هذا التظاهر؛ فهي صحيحة في الصحيحين، وهو موافق بالجملة للنص القرآني، الذي
بيّن أن ثمت شيء حدث من اثنتين، دون تفصيل.
د- أما الرواية التي قالت: إن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة؛ فهي من رواية الواقدي المتروك.
هـ- وأما من قال: إنها سودة، أو لم يسم أحداً، فوجدنا أن جميع الروايات في ذلك لم تصح.
-ومن ثمّ؛فإذ كان الأصح رواية عبيد بن عمير؛ فإن بعض الروايات التي ذكرت
زيادات عليها؛ لا تسلم، كزيادة:(فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ
لَهُ)، وزيادة: (تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ،
لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى
الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ)، وزيادة: (وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ،
قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي).
المطلب الثاني
الروايات الواردة في أن سبب النزول قصة مارية
وردت هذه القصة من طرق؛ مختصرة ومطولة، وفي بعضها ما لا يجوز نسبته لرسول الله .
وفيما يلي عرض هذه الروايات ونقدها:
أولاً- حديث أنس:
عن أنس « أن رسول الله
كانت له أَمَةٌ يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً،
فأنزل الله هذه الآية ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات
أزواجك﴾ إلى آخر الآية().
قلت: في إسناده محمد بن بكير الحضرمي، صدوق يخطئ()، وقد توبع فأخرجه النسائي() قال: أخبرني إبراهيم بن يونس بن محمد ؛حرمي (كذا لقبه)، ثنا أبي ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله
كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل
الله عز وجل ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ﴾
إلى آخر الآية.
قال: ابن حجر(): إسناده صحيح، وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري بسند صح عن زيد بن أسلم، قلت: سيأتي ذكر أثر زيد .
ثانياً- حديث أبي هريرة:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: « دخل رسول الله
بمارية القبطية سَرِيَّتِه ببيت حفصة بنت عمر، فوجدتها معه، فقالت يا رسول
الله؛ في بيتي من بين بيوت نسائك، قال: فإنها علي حرام أن أمسها يا حفصة،
واكتمي هذا عليّ، فخرجت حتى أتت عائشة، فقالت: يا بنت أبي بكر: ألا أبشرك؟
فقالت: بماذا؟ قالت: وجدت مارية مع رسول الله
في بيتي، فقلت: يا رسول الله في بيتي من بين بيوت نسائك، وبي تفعل هذا من
بين نسائك، فكان أول السرور أن حرَّمها على نفسه، ثم قال لي: يا حفصة ألا
أبشرك، فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلمني أن أباك يلي الأمر من
بعده، وأن أبي يليه بعد أبيك، وقد استكتمني ذلك فاكتميه، فأنزل الله عز وجل
في ذلك: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، أي مِنْ مارية، ﴿
تبتغي مرضاة أزواجك ﴾، أي حفصة، ﴿ والله غفور رحيم﴾، أي لما كان منك، ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ، وإذ أسر
النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾، يعني حفصة، ﴿ فلما نبأت به ﴾، يعني عائشة، ﴿
وأظهره الله عليه ﴾، أي بالقرآن، ﴿ عرّف بعضه ﴾، عرف حفصة ما أظهرت من أمر
مارية، ﴿ وأعرض عن بعض ﴾، عما أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر، فلم يثربه
عليها، ﴿ فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ﴾، ثم
أقبل عليها يعاتبها؛ فقال: ﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا
عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ﴾، يعني أبا بكر وعمر، ﴿
والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن
مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا﴾، فوعده من
الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وأخت نوح().
ثالثاًً- حديث ابن عباس، وقد روي الحديث عنه من طرق:
1- عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾ قال: دخلت حفصة على النبي في بيتها، وهو يطأ مارية، فقال لها رسول الله :
« لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، إن أباك يلي من بعد أبي بكر، إذا أنا مت »، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة أنها رأت رسول الله وهو يطأ مارية، وأخبرتها أن النبي أخبرها أن أبا بكر يلي بعد رسول الله ، ويلي عمر بعده، فقالت عائشة للنبي :
من أنبأك هذا؟ قال: ﴿ نبأني العليم الخبير ﴾، فقالت عائشة: لا أنظرُ إليكَ
حتى تُحرِّم مارية، فحرمها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك ﴾().
رواه الطبراني، وقال الهيثمي(): وفيه إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله ثقات.
أقول:
رواية ضعيفة جداً لا يحتج بها، فإن إسماعيل بن عمرو البجلي؛ قال فيه ابن
عدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف، وقال
الذهبي: ولقد أتى بحديث باطل، وساق جزءً منه()، والضحاك بن مزاحم: صدوق كثير الإرسال()، وقال يحيى بن سعيد: الضحاك ضعيف عندنا، وقال الذهبي: وثقه أحمد()، واتفقوا على أنه لم ير ابن عباس فالرواية منقطعة.
2- رواية ثانية تجمع بين عدد من الروايات، من حديث ابن عباس:
من
حديث الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن
رومان عن ابن عباس قال: « كنت أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن قول الله عز
وجل: ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم
أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه وهو ببطن مرو، قد
تخلف لبعض حاجته، فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله، ما حاجتك؟ قلت: شيء كنت
أريد أن أسألك عنه يا أمير المؤمنين، فكنت أهابك، فقال: سلني عما شئت،
فإنّا لم نكن نعلم شيئاً حتى تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿
وإن تظاهرا عليه ﴾ من هما؟...»(). في رواية مطولة تضمنت حديث ابن عباس عن عمر الذي أخرجه البخاري، وقد سأل ابن عباس عمر: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟()، لكن زاد في هذه الرواية قصة العسل وقصة مواقعة مارية في بيت حفصة، مع ألفاظ وزيادات مستغربة.
قلت:
وهذه الرواية لا تثبت، فإن حديث ابن عباس عن عمر كما في الصحيحين؛ ليس فيه
هذه الزيادات، ثم إن الرواية هذه من طريق: سعيد بن أبي هلال الليثي
مولاهم، أبو العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي:
صدوق، كان أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث().
أقول: ومن نظر في روايته هذه، وقارنها برواية البخاري؛ رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
3- أخرج الدارقطني بسنده عن هشام الدستوائي قال: كتب إليّ يحيى بن أبي كثير يحدث عن عكرمة عن عمر قال: الحرام يمين يكفرها، (كذا الرواية ولم يكمل النص) ثم قال الدارقطني: قال هشام وكتب إليّ يحيى
عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول: في الحرام
يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ إن
النبي
كان حرم جاريته؛ فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً().
وأصل هذا الحديث في البخاري دون ذكر الجارية، قال البخاري:
حَدَّثَنَا
مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ
حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما
قَالَ: فِى الْحَرَامِ يُكَفّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾().
4- طريق أخر عند البيهقي، قال :
أخبرنا
أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن كامل القاضي، أنا محمد بن سعد بن محمد
بن الحسن بن عطية بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية،
حدثني أبي عن جدي عطية بن سعد عن بن عباس رضي الله عنهما: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، إلى قوله: ﴿ وهو العليم الحكيم ﴾، قال: كانت
حفصة وعائشة رضي الله عنهما متحابتين، وكانتا زوجتي النبي ، فذهبت حفصة إلى أبيها تتحدث عنده، فأرسل النبي
إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة رضي
الله عنها، فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرة
شديدة، فأخرج رسول الله جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيتُ من كان عندك، والله لقد سُؤْتَني، فقال رسول الله : والله لأرضينك، وإني مُسِرٌّ إليك سراً، فاحفظيه، فقال: إني أُشهِدُك أن سَرِيَّتي هذه عليَّ حرام، رضاً لك، وكانت حفصة وعائشة تظاهرتا على نساء النبي ، فانطلقت حفصة فأَسَرَّتْ إليها سراً، وهو أن أبشري أن محمداً قد حرم عليه فَتاتَه، فلما أخبرت بسِرِّ النبي أظهر اللهُ النبيَّ عليه، فأنزل الله على رسوله : ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى آخر الآية().
قلت : وهذا حديث لا يصح؛ فيه محمد بن سعد بن محمد، قال الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به()، وفيه: الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به()، وأبوه: الحسن ضعيف()، وعطية: صدوق يخطئ، وكان يدلس().
رابعاً- حديث عمر:
1- أخرج الدارقطني بسنده () عن عبدالله بن عمر العمري عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله
بأمِّ ولدِه مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال: لا تذكري هذا
لعائشة، فهي عليَّ حرامٌ إن قربتها، قالت حفصة: وكيف تحرم عليك، وهي
جاريتك؟ فحلف لها لا يقربها، فقال النبي :
لا تذكريه لأحد، فذكرته لعائشة، فآلى [أي حلف] لا يدخل على نسائه شهراً،
فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلة، فأنزل الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾
الآية، قال :والحديث طويل().
وهذه الرواية لا تصح، ففيها عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عَنْعَن.
2-
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد
الرقاشي، حدثنا مسلمبن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن
ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي
لحفصة: « لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام »، فقالت: أتحرم ما
أحل الله لك؟ قال: «فَوَالله لا أقربها »، قال: فلم يقربها حتى أخبرت
عائشة، قال: فأنزل الله: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ ﴾.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج().
قلت: فيه عبد الملك بن محمد الرقاشي، صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، وكان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام في روايته()، وقد تفرد بهذا الإسناد.
خامساً- أحاديث مرسلة:
1- عن الضحاك: أن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها زارت أباها ذات يوم، وكان يومها، فلما جاء النبي
فلم يرها في المنزل، فأرسل إلى أَمَتِه ماريةَ القبطيةَ، فأصاب منها في
بيت حفصة، فجاءت حفصة على تلك الحالة، فقالت: يا رسول الله، أتفعل هذا في
بيتي، وفي يومي، قال: فإنها عليَّ حرام، لا تخبري بذلك أحداً، فانطلقت حفصة
إلى عائشة، فأخبرتها بذلك، فأنزل الله عز وجل في كتابه: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ وصالح المؤمنين ﴾، فأُمِرَ أن
يُكَفِّر عن يمينه، ويراجع أَمَتَه، وبمعناه ذكره الحسن البصري مرسلاً().
2- قال الطبري:
حُدثت
عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾
كانت لرسول الله فتاةٌ، فغشيها، فبَصُرت به حفصة، وكان اليومُ يومَ عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله : « اكْتُمي عَلَيَّ وَلا تَذْكُرِي لِعَائِشَةَ مَا رَأَيْتِ »، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله حتى حَلَفَ أن لا يقربها أبداً، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفِّر يمينه، ويأتي جاريته().
3- وعن مسروق أنه قال: إن رسول الله حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: هي عليَّ حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِر أن لا يحرم ما أحل الله().
4- وعن قتادة قال: كان رسول الله في بيت حفصة، فدخلت فرأت فتاتَه معه، فقالت: في بيتى ويومي؟ فقال: اسكتي، فوَالله لا أقربها، وهى على حرام().
5- وعن زيد بن أسلم أن رسول الله
أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أيْ رسول الله؛ في بيتي
وعلى فراشي، فجعلها عليه حراماً، فقالت: يا رسول الله؛ كيف تحرم عليك
الحلال، فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ﴾().
وقال
الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن مالك، عن
زيد بن أسلم، قال لها: « أنت عليّ حرام، وَوَالله لا أطؤك »().
نقد الروايات:
ـ روي حديث مارية من طريق: أنس وأبي هريرة وابن عباس وعمر، كما روي مرسلاً عن الضحاك وقتادة ومسروق وزيد بن أسلم.
ـ فأما حديث أنس؛ فجاء عنه من طريقين جيدين: عن ثابت عنه، وكانت روايته مقتصرة على ذكر أن عائشة وحفصة ما زالتا بالنبي حتى حرم جاريته، وصححه ابن حجر.
ـ وأما حديث أبي هريرة؛ ففيه موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه، قال الذهبي: مجهول وخبره ساقط، فلا يصح.
ـ وأما حديث ابن عباس فروي عنه من طرق:
فأما الطريق الأول ففيه: إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وهو ضعيف.
وأما
الرواية الثانية فلا تثبت، فيها سعيد بن أبي هلال الليثي مولاهم، أبو
العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي: صدوق، كان
أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث، ومن نظر في روايته هذه،
وقارنها برواية البخاري رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
وأما
الرواية الثالثة فهي عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان
يقول: في الحرام يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة ﴾ إن النبي
كان حرم جاريته، فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً.
وأصل هذه الرواية في البخاري دون ذكر الجارية.
وأما
الطريق الرابعة عن ابن عباس فلا تصح؛ فيها محمد بن سعد بن محمد، قال
الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به، وفيه
الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا
يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به، وأبوه الحسن ضعيف، وعطية صدوق يخطئ،
وكان يدلس.
ـ وأما حديث عمر، فمن طريقين:
فأما الأول: فلا يصح؛ فيه عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عنعن.
وأما
الثانية: أخرجها الهيثم بن كُلَيب في مسنده، وهي موافقة لرواية أنس
الصحيحة، وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، قلت: لكن فيها عبد الملك بن محمد
الرقاشي؛ صدوق، وقد اختلط في آخره.
ـ وأما الروايات المرسلة: فلم يصح منها إلى الراوي المرسل إلا روايتان عن مسروق وزيد موافقتين لرواية أنس المختصرة الصحيحة .
فيلاحظ مما مضى صحة الرواية سنداً؛ التي تقتصر على أن السيدة عائشة وحفصة مازالتا بالنبي
حتى حرَّم على نفسه مارية، وهي رواية أنس من طريقين عن ثابت عن أنس،
ووافقتها رواية ابن عمر عن عمر، عند الهيثم بن كليب، كما وافقتها رواية
مسروق وإحدى روايتي زيد بن أسلم المرسلتين بإسناد صحيح إلى مسروق وزيد، دون
ذكر تفاصيل في هذا الشأن، ودون ذكر أنه وطئ مارية في حجرة حفصة، وغيرِ ذلك
من الأمور التي لا يليق نسبتها إليه ، و التي يُشعِر الحديث عنها بسوء أدب مع رسول الله .
ويلاحظ
أن المفسرين قد اختلفوا كثيراً في هذا الأمر، ولولا أن الشيخين قد خرجا
قصة العسل؛ لرأينا أن أكثر المفسرين يميلون إلى قصة مارية.
لكننا لسنا معهم في ما ذُكِر من تفاصيل بسبب تحريم مارية.
الخاتمة
يخلص الباحث بعد هذه الدراسة إلى جملة من الحقائق والقضايا والنتائج، أهمها:
-
يوجهنا
القرآن إلى منهج عظيم في التربية ؛ وهو أن الأصل وجوب الستر على من وقع
منه خطأ، إذ الفضح لايأتي بخير ولانتيجة ، ولذا نجد أن الله قد ستر ههنا
نوع المخالفة ومن اللواتي وقع منهن ذلك ، وهذا المنهج عام في كتاب الله ؛
كما نلاحظ في قصة الثلاثة الذين خلفوا ، وقصة الإفك، وقصة بدر (إذ همّ
طائفتان أن تفشلا)، وقصة الأنفال، ومن رغب بالدنيا في قضية الغنائم،
وغيرها.
-
للقرآن العظيم منهجه الخاص في النظم والبيان، ومن ذلك أنه يعرض للقصة أو
سبب النزول ـ في أكثر الأحيان ـ مجرداً عن الشخوص والأزمنة والأمكنة، إلا
لحكمة وفائدة خاصة؛ كقصة زيد: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: 37]، ولهذا المنهج القرآني في النظم
والبيان حِكَم كثيرة وفوائدة عظيمة؛ من ذلك:
- أن ينشغل فكر القارئ المتدبر بالعبر والدروس والتوجيهات المرادة من الآيات، لا أن ينشغل بالحدث نفسه، وبمن كان له صلة به.
- أن القرآن ليس كتاب قصة ابتداءً، ولا تاريخ، بل هو كتاب هداية وإعجاز.
- أن هذا المنهج أدْعَى إلى مزيد من التدبر والتفكر والبحث، حيث يتميز في البحث فيه الراسخون في العلم.
- كما أن في هذا المنهج ـ في بعض الأحايين ـ ستراً على بعض الناس، رفقاً بحالهم أو تكريماً لهم ـ كما أشرت.
ونحن إذا تأملنا في سورة التحريم ولِمَ أُخفي تفصيل السبب؟ نجد أن
هذه الحِكَم بادية، ولكننا مع ذلك نجد أن المفسرين اشتغلوا كثيراً ببيان
هذه الشخوص، وتفاصيل السبب والقصة، وخاصة في سورة التحريم، ولعلّ من أسباب
ذلك:
- وروود روايات في مصادر التاريخ أو السنة تفصل في هذه القصة.
- قد يرون أن ذلك مما يلقي الضوء على الآيات فهماً وتفقيهاً.
-
إشباع فضول الناس في التعرف على التفاصيل، لكن هذا الانشغال ترتب عليه في
كثير من الحالات اختلافات، وأَخْذ ورد، وربما كان فيه ما لا ينبغي أن يقال،
كما حدث في تفسير سورة التحريم.
ولعلّ
من خلال هذا البحث تأكَّد لدينا عملياً ضرورة التزام المنهج القرآني في
عرض القصة والأحداث، من غير الخوض في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، إلا لحكمة
وفائدة واضحة.
3_ تعلمنا القصة أهمية النظرة الواقعية إلى الحياة، فبالرغم من كون أزواج النبيهنّ
من هنّ في المقام؛ فلم يمنع ذلك أن يقع منهن خطأ ما، كما أنه إذا كان من
الممكن أن تقع مشكلة ما في بيت النبوة؛ فمن باب أولى غيرها، وأن المهمّ في
ذلك سرعة الحلّ وإيجابياته، وسرعة الاستجابة لأمر الله، والتقوى في ذلك
كله.
4- إن القصة وفق العرض القرآني لها تبين عظمَ مكانة الرسول
عند ربه، وخطورةَ الإساءة إليه، مهما كان نوع الإساءة صغيراً في نظر
الآخرين، وأنه قد وقع ما لا ينبغي من بعض أزواجه تجاهه، بصفتهنّ البشرية،
ولكن لعظم خلقه أراد إرضاءهن، ولو على حسابه، وبتنازله عن حقوقه، لكن الله ينتصر له من جهة، ويبين المَخْرَج مِن حَلْف يمين وقعت منه ،
وفي هذا توجيه لجميع الخلق من بعده، كما تبين الآيات سرعة استجابة زوجاته
للتوجيه الرباني، وسرعة التوبة، وفي هذا بيان لمقامهن أيضاً، لذا لم يطلقهن
لتحققهن بما ذكر من صفات: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ
تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ... ﴾، ومع كل هذه المعاني ستر الله هذه
الزوجات اللواتي قصرّن في حقه ، وحفظ سر ذلك حفاظاً على مقام النبوة ومقام زوجاته.
ولكن
كان لا بد من استثمار الحدث في بيان منهج المعالجة، وأهمية التوبة النصوح
والمسارعة إليها، ليبين لنا أن من شأن الإنسان الخطأ والتقصير، لكن التوبة
تطهره من كل ذلك، فكان قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ
عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]، ومن خلال ذلك تُعَرِّفُنا الآيات كيف يمكن
أن نواجه المشكلات الأسرية التي لا بد أن تقع، ومن وسائل ذلك: حُسن خلق
الزوج والزوجة، وسرعة مراجعة كل طرف لنفسه، وتنازل كل طرف عن بعض حقه
تكريماً ورعاية، وعدم الإصرار على الخطأ، بل المسارعة إلى التوبة، والستر
ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
5-تبين للباحث عدم صحة الروايات التي تدّعي أن النبي عاشر مارية في حجرة حفصة، أو في يومها، وأنها غضبت لذلك، فأسَرَّ إليها أنه يحرمها على نفسه.
6- بعض
روايات قصة العسلِ من طريق ابن جريج المدلس، ولم يصرح بسماع صحيح،
والثانية كانت من رواية الكوفيين عن هشام بن عروة، وحديث هشام في العراق
متكلم فيه، وباقي الروايات لم تصح.
ولكن
وعلى ضوء أن صاحبي الصحيحين ـ وهما من هما ـ قد اختارا رواية العسل في
تفسير سبب النزول؛ فهي الأرجح على ضوء النقد الحديثي، عند جمهور المجدثين،
وأن ذلك إنما كان من بعض أزواجه بدافع الغيرة البشرية الطبيعية، بل وبدافع الحب له .
7-أن الأرجح أن التي كان يشرب النبي
العسل هي زينب، وأن اللتين تظاهرتا هما السيدة عائشة وحفصة، كما هي
رواية عبيد بن عمير، وأن رواية هشام بن عروة وقع فيها مخالفة لما أنها من
رواية العراقيين عنه.
8- لكن ومع ذلك يمكن القول: إنه وبسبب الغَيرة الطبيعية في المرأة؛ أرادت بعض أزواجه أن يَحمِلنَ النبي
على الامتناع من معاشرة مارية، دون تفاصيل أخرى، وأن النبي أسَرَّ إلى
إحداهن بذلك إرضاءً لها، ولكن لم يُرِدْ أن يفشي ذلك، فأفشت هذه الزوجة ذلك
السر كله، متعاونة مع أخرى، ثم كانت التوبة منهن، ومال الطبري وابن حجر
إلى إمكان أن يكون كلا الأمرين حدث، ولعلّ في كلام القاسمي ـ وهو محدث
ومفسر ـ الذي نقلناه في صلب البحث ما يرجح هذا التوجه.
9-
لم يثبت لدى الباحث أي رواية صحيحة أن السِّرَّ الذي أخبر به النبي بعض
أزواجه؛ هو كون الخلافة مِنْ بعده لأبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
10-
حاول بعض المفسرين وشرّاحُ الحديث الجمعَ بين الروايات، فذكروا أنه من
الممكن أن تكون قصة العسل قد تَعَدَّدت، وتعددت مَنْ شَرِبَ عندها، كما أنه
من الممكن في الوقت ذاته أن تكون حصلت قصة مارية، فنزلت الآيات جواباً عن
ذلك كله، ويرى الباحث أن ذلك بعيد جداً، إذ يوضح سياق الآيات انتصار الله
العظيم لرسوله ، فكيف يسمح بتكرر ذلك، ومثل هذا الادعاء يحتاج إلى دليل نقلي صحيح، ولا يوجد.
وأخيراً:
نسأل الله أن يجعلنا ممن يُقَدِّرُ مقامَ النبي
حقَّ قدرِه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وكما قال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6].
ومِنْ ثمّ نسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا تجاه أزواجه
آل بيته الطاهر المطهر المزكى من الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33].
قائمة المصادر والمراجع
-
الآلوسي، شهاب الدين محمود، ت 1270هـ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث، بيروت، بلا تاريخ.
-
ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات بن المبارك بن محمد بن الجزري، ت606هـ، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: محمود محمد الطناحي، المكتبة الإسلامية، القاهرة، ودار الفكر، ط2، 1979م.
-
أحمد بن حنبل، ت241هـ، المسند، دار صادر، بيروت، لبنان، بلا تاريخ.
-
إسماعيل حقي، البروسوي، ت 1137هـ، تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، اختصار: محمد علي الصابوني، دمشق، دار القلم، ط2، 989م.
-
الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب، ت 502هـ، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار المعرفة، ط4، 2005م.
-
البخاري، محمد بن إسماعيل، ت 256 هـ، الجامع المسند الصحيح، بيت الأفكار الدولية، الرياض، ط1، 1998م.
-
بشار عواد معروف وآخرون، المسند الجامع، دار الجيل، بيروت، ط1، 1993م.
-
البغوي، الحسين بن مسعود ت 516هـ، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ.
-
البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ت 516هـ، معالم التنزيل، تحقيق: محمد عبد الله النمر، دار طيبة للنشر، ط4، 1997م.
-
البقاعي، برهان الدين أبو الحسين إبراهيم بن عمر، ت 885هـ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، ت 279هـ، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، تحقيق: د. بشار عواد معروف، دار الجيل، بيروت، ط2، 1998م.
-
ابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي، ت792هـ، التسهيل لعلوم التنزيل، بيروت، دارالفكر، دون تاريخ.
-
ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي، ت 597هـ، زاد المسير في علم التفسير، بيروت، دار الفكر، ط1، 1987م.
-
الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه النيسابوري، ت 405هـ، المستدرك على الصحيحين، مكتبة الجندي، مصور بلا تاريخ.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت354هـ، صحيح ابن حبان، بترتيب ابن بلبان، علاء الدين علي، ت 739هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1993م.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت 354هـ، الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند، ط1، 1979م.
-
ابن حجر العسقلاني، ت852هـ، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار السلام، مصر، ودار الفيحاء، دمشق، ط 1، 1997م.
-
ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، ط 4، 1992م.
-
ابن خزيمة، أبو بكر محمد ابن إسحاق، ت311هـ، صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1، 1975.
-
حسنين محمد مخلوف، صفوة البيان لمعاني لقرآن، نشر دولة الإمارات ووزارة الأوقاف، 1981م.
-
الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم، ت 725هـ، لباب التأويل، تحقيق: عبد السلام شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن البغدادي، سنن الدارقطني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ– 1966م.
-
الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، ت 255هـ، السنن، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة، 1966م.
-
أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ت275هـ، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، بدون تاريخ.
-
الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمدبن عثمان (ت748)، ميزان الإعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت ط1، 1963.
-
الرازي، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، ت 327هـ، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1953م.
-
الرازي، محمد فخر الدين، ت 604هـ، التفسير الكبير، بيروت، دار الفكر، 1978م.
-
الزمخشري، أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر، ت 538هـ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ.
-
أبو السعود، محمد بن محمد أبو السعود، ت 982هـ، تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث، بيروت.
-
سعيد حوى، ت 1989م، الأساس في التفسير، القاهرة، دار السلام، ط5، 1999م.
-
سعيد بن منصور، ت 227هـ، سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار العصيمي، الرياض، ط1، 1414هـ.
-
سيد قطب، ت 1966م، في ظلال القرآن، بيروت، دار الشروق، ط34، 2004م.
-
السيوطي، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م.
-
ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، ت 643هـ، علوم الحديث، أو مقدمة ابن الصلاح، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1984م.
-
الطاهر، ابن عاشور، معاصر، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية، 1984م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف العراقية، ط1، 1979م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ.
-
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310هـ، جامع البيان في تفسير القرآن، القاهرة، دار الحديث، 1987م.
-
القاسمي، جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: هشام البخاري، مؤسسة التاريخ العربي.
-
القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1988.
-
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي، ت774هـ، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1987م.
-
ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، 273هـ، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، إحياء التراث العربي، بيروت، 1975م.
-
مالك بن أنس، أبو عبد الله، ت 179هـ، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
-
محمد علي الصابوني، معاصر، صفوة التفاسير، بيروت، دار القرآن الكريم، ط4، 1981م.
-
محمد علي الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ط2، 2001م.
-
مسلم بن الحجاج، أبو الحجاج القشيري، ت261هـ، صحيح مسلم، دار ابن حزم، بيروت، ودار المغني، الرياض، ط 1، 1998م.
-
ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، ت711هـ، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968م.
-
النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت303هـ، السنن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1930م.
-
النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد، ت 710 هـ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، بيروت، دار الفكر، دون تاريخ.
-
أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت 430هـ، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، مصور عن مكتبة الخانجي والسعادة، مصر، 1938م.
-
نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر، دمشق، ط 3، 1981م.
-
النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، ت 676 هـ، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1984م.
-
وهبة الزحيلي، معاصر، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دار الفكر، بيروت ودمشق، ط1، 1991م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
الانتصار لرسول الله
على ضوء سورة التحريم
إعداد : د. محمد سعيد حوى
جامعة مؤتة ـ كلية الشريعة
قسم أصول الدين
ملخص
يستغل
بعضٌ أثراً عن جهل أو مرض قلب أو عداء - كما حدث لمخرج الفلم المسيء - بعض
الروايات الواردة في بعض كتب التفسير أو الحديث - دون تمحيص - لانتقاص
مقام النبوة، والاعتداء على أهل بيته - كما يفعل الرافضة - ومن هذه
الروايات التي يساء التعامل معها ما ورد في أسباب نزول صدر سورة التحريم،
مستغلين ما وقع في بعضها من ضعف أو اختلاف بين الرواة في أسباب النزول؛ هل
كان بسبب أن النبي كان يشرب العسل عند إحدى زوجاته، فأرادت بعضهن صرفه عن ذلك؟
ومن هي هذه الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ ومن هن اللواتي أردن صرفه عن ذلك؟
أم كان سبب نزولها أن بعض زوجاته أردن صرفه عن معاشرة جاريته وأمَتِه مَارِيَة؟ وما حقيقة ذلك؟
فكان
لا بد من اكتشاف منهج القرآن الخاص في عرض هذه القضايا، وكيف انتصر الله
لنبيه، وكيف ننزه بيت النبوة عما لا يجوز أن ينسب إليه، من خلال دراسة
دقيقة للروايات الواردة في ذلك حديثياً.
ولعلّ أرجح ما رأيت في ذلك أنه وبسبب الغَيْرة الطبيعية البشرية عند النساء أردن صرف النبي
عن شرب العسل عند زينب، وأن المتظاهرتين هما عائشة وحفصة، ولا يمنع أن
يكون اجتمع إلى ذلك صرفه عن معاشرة أمَتِه، حيث أنها أمَةٌ ليس لها حقوق
الزوجية الكاملة.
لكن في الوقت نفسه لا يصح ما قيل: إن ذلك كان بسبب أنه واقع مارية في حُجْرة حفصة ويومها، وأنها غضبت لذلك.
ونلاحظ
هنا أن المنهج القرآني يسمو بنا عن الخوض في التفاصيل التي لا يترتب عليها
حكم خاص أو فائدة تربوية أو تشريعية، وقد جاءت الآيات بأعظم مظاهر
الانتصار لرسولنا .
Abstract
Many
disagreements occurred between relaters and interpreters Resulting from
the Occasions of the revelation of verses of Surat At-Tahrim; Is the
reason that the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at one
of his wives, for that Mother of believers Aisha and Hafsa wanted to
averted him from that ?
And the disagreements happened of whom is the wife that was the Prophet (Peace be upon him) used to drink honey at ?
Or was the reason that some of his wives wonted to averted him form intercourse his bondwoman Maria ?
we
had to approach the prevailing character of the Quran in the dealing of
these issues, and how we can upright the house of prophecy from what
may not be allowable to them, with an attempt to criticize the
narrations that had been reported Haddithia .
Perhaps
What I have most likely that, because of the natural jealousy in women
they wanted to averted the Prophet (Peace be upon him) form intercourse
his bondwoman, Where known that bondwoman do not have the conjugal
rights.
But
at the same time not true what was mention that this was because of the
Prophet (Peace be upon him) (go to bed) or (intercourse) with Maria, in
a chamber of Hafsa, and she got angry for that.
المقدمة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن معرفة مقام النبي
عند الله و من ثمّ حفظه والقيام بحقه بما يرضي الله سبحانه؛ من أعظم
الواجبات في حق الخلق جميعاً، وطالما نوّه القرآن بذلك؛ كقوله تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وقوله تعالى:﴿النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾
[الأحزاب: 6]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً،لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً،وَيَنصُرَكَ اللَّهُ
نَصْراً عَزِيزاً﴾ [الفتح:1- 3].
وقد
أوجب سبحانه كمال الاقتداء به ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21]، وبيّن سبحانه في آيات عديدة
انتصاره لنبيه في مواجهة من يسيء له؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، وكان تبعاً لذلك حفظ مقام أهل بيته،
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]، ولئن كان كل
ذلك من البدهيات عند كل مسلم؛ فإن بعضاً و أثراً عن جهل أو مرض قلب أو
عداء_كما حدث لمخرج الفلم المسيء_ يستغل بعض الروايات الواردة في بعض كتب
التفسير أو الحديث_دون تمحيص- لانتقاص مقام النبوة، والاعتداء على أهل
بيته_كما يفعل الرافضة_.
ولعلّ
من الآيات التي أسيء التعامل معها من بعض ممن ذكرت؛ آيات صدر سورة
التحريم، إذ أورد بعضهم في تفسيرها روايات ضعيفة تتضمن بعض ما لا ينبغي أن
يقال في حق النبي
وبيت النبوة، وما يخرج عن المنهج القرآني في الستر والصيانة وحفظ مقام بيت
النبوة؛ كما وقع في بعض آخر اختلافات؛ مما دفعني للبحث في هذه الروايات،
لعلي أحقق جملة من الأهداف، ومنها:
1- لفت النظر إلى بعض أسرار القرآن وحِكَمه في طريقة عرضه لآيات سورة التحريم، وهو يعلي مقامه، ويثني على أهل بيته، بعد أن كان من بعضهن-بصفتهن البشرية- خطأ ما، وقد سارعن إلى التوبة منه .
2- محاولة الترجيح بين الأقوال المتضاربة في شأن هذه الحادثة.
3- محاولة الإجابة عن الإشكالات المطروحة فيها، ومنها:
- اختلاف الروايات هل كان التحريم بسبب قصة عرفت بقصة العسل، أم بسبب قصة مارية.
- إن كانت قصة العسل هي الأرجح؛ فمَن التي كان يشرب عندها العسل ؟ ومَن اللواتي تظاهرن عليه ، إذ وقع اختلاف في ذلك.
- وإن كانت قصة مارية هي الأرجح؛ فما حقيقة هذه الحادثة؛ وسيقف القارئ على كل هذه الروايات.
4- رد الشبهات التي قد تثار حول بيت النبوة؛ بسبب بعض الروايات التي ربما لم تصح أوتحرر أو تدقق.
5_ وفي سياق ذلك كله لفت نظر إلى منهج حسن الفهم ودقة التدبر لكتاب الله، والحياة في ظلاله، والتحقق بأنواره.
فجاءت الدراسة في ثلاثة مباحث وخاتمة:
- المبحث الأول: تعريف عام بسورة التحريم، وبيانها لمقام النبي.
- المبحث الثاني: عرض لبعض آراء المفسرين والمحدثين في أسباب نزول صدر آيات سورة التحريم.
- المبحث الثالث: دراسة الروايات دراسة حديثيه ناقدة.
- الحاتمة، وفيها التأكيد على مقام النبي وأهل بيته؛ في ضوء حسن الفهم لكتاب الله وتحرير الروايات.
فإن
وفِّقت فمِن الله؛ فضلاً ومنة وكرماً، وإن كانت الأخرى؛ فأستغفر الله،
راجياً من أهل العلم والفضل التسديد والتصويب، سائلاً المولى أن يجعله
خالصاً لوجهه وهو ولي كل نعمة وفضل وتوفيق.
عمان 11 محرم الحرام 1434هـ الموافق25/11/2012م
وكتبت النسخة الأولى بتاريخ:
عمان 1 صفر الخير 1433هـ الموافق25/12/2011م
د. محمد سعيد حوى
المبحث الأول
التعريف بالسورة الكريمة
أولاً: تسمية السورة:
قال الآلوسي: سورة التحريم، ويقال لها سورة المتحرم، وسورة لِمَ تُحرِّم، وسورة النبي ، ...و سورة النساء().
ويلاحظ أنها سميت بذلك لمّا حرم النبي على نفسه ما حرّم؛ ابتغاء مرضات أزواجه، فكان ذلك سبب افتتاحها بهذا الخطاب الذي يحمل معاني التكريم للنبي ،
والحدب عليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]().
أمّا ما هو الذي حرمه رسول الله ؟ وما المراد بالتحريم ؟ فيأتي بيانه إن شاء الله.
ثانياً: تاريخ نزولها:
اتفق
أهل العلم أنها سورة مَدَنِيَّة، وأن آياتها اثنتا عشرة آية، إلا أن
السيوطي ذكر في الإتقان عن قتادة أن أولها إلى تمام عشر آيات مدنية، وما
بعدها مكي().
أقول: ولا دليل على هذا، بل هي سورة واحدة متحدة في سياقها وموضوعها كما سنرى.
وتعد هذه السورة الخامسة بعد المائة بحسب النزول، نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة().
ثالثاً: مناسبة السورة لما قبلها في ترتيب المصحف:
قال الآلوسي: هي متواخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي ، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الدماء، وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.
ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى ، إعظاماً لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة.
ويمكننا
أن نقول: إن سورة الطلاق تحدثت عما يكون من مشكلات في بيوت عامة الناس،
مما قد يفضي إلى طلاق، ومن ثم بينت ما يترتب على ذلك من أحكام، لكننا إذا
تأملنا في سورة الطلاق فإنها دعتنا إلى تقوى الله، وأن من تقوى الله أن
نسعى لمعالجة تلك المشكلات ما أمكن،كما أن تقوى الله طريق لمنع المشكلة
أوحسن حلها ، فإن كان لابد من طلاق فليكن وفق الهدي الرباني.
فجاءت
سورة التحريم لتقدم الأنموذج الأرقى، وهو بيت النبوة، وأنه مع ذلك فقد وقع
مشكلة كان يمكن أن تؤدي إلى طلاق، لكن انظروا عظمة خُلق النبي ،
وكيف كان صبره واحتماله وحلمه سبباً في حلّ المشكلة، ومِن ثمّ مثّل لنا
بذلك قمة التحقق بالتقوى، مما ترتب عليه الحفاظ على بيت النبوة، وإنهاء هذه
المشكلة.
كما تبين لنا السورة أثر اتقاء زوجاته ،
إذ سارعن إلى التوبة ؛ فإذن سورة التحريم سورة النموذج الأرقى للبيت
المؤمن، الذي سبق الحديث عن بعض قضاياه ومشكلاته في سورة الطلاق.
وإذا
كان الأمر كذلك في سورة الطلاق؛ فإن سورة التحريم تقدم النموذج الأرقى من
حيث إمكان وقوع المشكلة، والنموذج الأرقى في كيفية الحل وسرعة هذا الحل،
وكيف جعل الله لنبيه
مخرجاً من يمينه، إذ هو إمام المتقين، وقد سبق وأن بينت سورة الطلاق ﴿ومن
يتق الله يجعل له مخرجاً﴾، فكما أن سورة الطلاق تحدثت عن المشكلة ووجوب
علاجها بتقوى الله؛ فإن سورة التحريم رسمت المنهج لبيان كيف نتحقق بذلك،
سواء من خلال تلكم الحادثة التي وقعت للنبي ، أو من خلال النداءات التي في السورة، أو النماذج الأخرى التي قدمتها لنا سورة التحريم.
رابعاً: مناسبتها لما قبلها وما بعدها بحسب النزول:
رأينا
أن العلماء قد نصوا أنها نزلت بعد سورة الحجرات، ومن ينظر في سورة الحجرات
يراها سورة الأخلاق، كما أن فيها بيان مقام رسول الله ووجوب حفظ اللسان، وكله ذو صلة بموضوع سورة التحريم؛ إذ بينت سورة التحريم جوانب مما يجب له من حق، وضرورة حفظ ألسنتنا بين يديه، ونزلت بعد التحريم سورة الجمعة، وفي سورة الجمعة تأكيد على مقام رسول الله
وأنه سبب تزكية وهداية الأمة، كما فيها بيان الانتفاع بالهدي الرباني، فلا
نكون كأهل الكتاب الذين لم ينتفعوا بهذا الهدي الرباني، وكأن السورة تشير
أن أزواج النبي بعد أن كان ما كان منهن قد عُدْن إلى الهداية والرشد والتحقق بالتزكية والانتفاع بالهداية الربانية.
خامساً: الوحدة الموضوعية في سورة التحريم:
من
ينظر إلى سورة التحريم للوهلة الأولى قد يجد تنوعاً في الموضوعات فيتساءل:
لماذا كان الحديث عن قضية تخص بيت النبوة، ثم حديث موجه لعموم الأمة،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ
لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
[التحريم: 6]، ثم حديث عن الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ
تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[التحريم: 7]، ثم حديث عن التوبة، ثم كان الحديث عن زوجتي نوح ولوط وعن
امرأة فرعون ومريم عليهما السلام.
أقول:
من يتأمل في هذه السورة يجد مظهراً من مظاهر إعجاز القرآن في وحدته وتناسق
آياته وترابط موضوعاته وقضاياه، فلما كان الحديث عن مشكلة خطيرة حدثت في
بيت النبوة وترتب عليها أحكام ذات أهمية خاصة؛ كان لابد أن تُستثمر هذه
القضية إلى أبعد مدى، فكان قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ
أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ
قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
[التحريم: 5] وفي هذا بيان لجملة أمور:
1-
بيان أن تخلف بعض هذه الصفات قد يؤدي إلى طلاق أو يحدث مشكلات خطيرة، فهي
متضمنة التحذير من أسباب الطلاق، ولما كان الواجب علينا أن نحصّن الأسرة،
وأن نقوم بمسؤولياتنا جميعاً لنحمي أنفسنا وأُسَرَنا في الدنيا، ولتتم
النجاة في الآخرة، فإن ذلك لا يكون ذلك إلا من خلال تقوى الله واتباع الشرع
الحنيف.
2- ومن ثم فيها بيان صفات الزوجة الأرقى التي إن وجدت فيها؛ ساعد ذلك على اتقاء المشكلات أو حلها.
3- وبيان أن أزواج النبي قد تحققنَ بهذه الصفات الأرقى، ومن ثم ثبتن على عصمته ولم يطلقهن.
فجاء
النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ
شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وكان هذا النداء تنبيهاً إلى تربية الأهل
لتكون البيوت بعيدة عن الفساد والاختلاف والتجاوز.
4-
ولما كان من شأن الإنسان الضعف والقصور والوقوع في الخطأ أو الذنب، وفي
سياق ذلك قد تحْدُث اتهامات وافتراءات واعتداءات وتجاوزات، وكلها ذنوب
خطيرة، وقد يترتب عليها مشكلات ومآس في الدنيا والآخرة، فكان لابد من بيان
منهج معالجة ذلك كله، من خلال فتح باب التوبة والحض عليه، وبيان أثره
النوراني في الدنيا والآخرة، فكان النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن
يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8].
وفي هذا كله رَسْم لمنهج معالجة المشكلات الفردية والأسرية والاجتماعية، ومن ثم فالسورة كالاستمرار لما جاء في سورة الطلاق.
5-
ولما كان وجود النموذج مما يساعد على التحقق الأرقى؛ فقد أعطانا الله أخطر
نموذجين سلبيين، كانا في تاريخ الأنبياء السابقين: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ
يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ
الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10],
وأعطانا
أعظم أنموذجين إيجابيين لامرأتين وجدتا في التاريخ السابق، وكيف أن
الإيمان الحق والالتزام الأكمل رفعهما إلى أعلى مقام عند الله من جهة،
وحفظهما في الدنيا أعظم حفظ، مع تنوع في هذين الأنموذجين، فقدم أنموذج
المرأة المؤمنة في بيت زوج كافر بل هو أعتى الكفرة، ومن خلال صبر وإيمان
امرأة فرعون تتعلم المرأة المسلمة كيف يمكن أن تصبر وتتعامل مع كل مشكلة
تواجها داخل أسرتها، والأنموذج الآخر أنموذج المرأة الطاهرة العفيفة التي
تعرضت لموقف هو الأشد على النفس (أن تحمل بلا زوج)، مع كونها في أسرة طاهرة
عفيفة مؤمنة.
وكأنه يقال من مجموع السورة: لا تخرج أحوال الأسر والزوجات عَمّا ذكر سواء مما كان مع رسول الله
أو مع آخربن ممن ضرب مثلاً، ولئن كان هذا الأمر واضحاً فيبقى السؤال: أنه
قد ذكر في سياق السورة آيتان نحن بحاجة إلى تبيين علاقتهما بالسياق:
الأولى:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التحريم: 7].
الثانية:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
المَصِيرُ﴾ [التحريم: 9].
ولعل
السرّ في ذلك أنه لابد أن نتذكر أن أخطر ما نواجه في سياق البناء الأسري
والأخلاقي والحياة الزوجية؛ ما قد يلقيه الكافرون من شبهات، وما يقومون به
من مخططات وأعمال لهدم الأسر وانحلال الأخلاق، فضلاً عن اتخاذ مثل هذه
الأحداث ذريعة للإساءة إلى رسول الله وإلى الإسلام نفسه، ومن ثم للمسلمين.
وإن
علاج ذلك كله كما يكون بالتربية والوقاية من النار والتوبة؛ فكذلك يكون
بالإعداد القوي الذي تردع به الكافرين، وتحول دون اجترائهم على الإسلام
والمسلمين، وأننا طالما كنا في حالة من القوة الإيمانية والمادية؛ فلا يصل
لنا الكافرون بشيء، وطالما ضعفنا في أي جانب فلاشك أن الاختراق حاصل، و
لعل واقع المسلمين المأساوي اليوم معبر عن ذلك().
ومن ثمّ جاءت الآية الثانية: ﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ﴾.
النظام الزوجي في السورة:
وإنه لمما يلفت النظر في السورة الكريمة أنه إذ تتحدث عن الحياة الزوجية؛
فقد قامت على نظام زوجي عجيب، ومن ذلك: يتكرر الخطاب للنبي
مرتين، وكذا للمؤمنين، والنساء اللواتي تظاهرن اثنتان، والنساء الكافرات
اللواتي ضرب بهن المثل اثنتان، وكذا المؤمنات، والصفات المثلى للمرأة
المسلمة ثمانية، وكل صفتين متواخيتان مترابطتان، وعدد آياتها 12، ورقم
السورة 66، وفي الجزء 28، وهناك المزيد لمن تأمل.
سادساً: الآيات ومعناها العام:
قد يكون من المناسب أن نورد بين يدي البحث الآيات المقصودة بالدراسة، مع بيان إجمالي لمعانيها:
قال
تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [1] قَدْ
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [2] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ
أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا
بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ [3] إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [4]
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ
سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [5] ﴾.
التفسير:
{
يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } يخاطب الله نبيه
خطاب تعظيم وتكريم: لِمَ تَشُقُّ على نفسك، فتمتنع عما هو حلال لك، تفعل
ذلك { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك }، وهذا بقطع النظر عما كان قد منع رسول
الله منه نفسه؛ هل امتنع عن شرب العسل عند بعض أزواجه، أو امتنع عن قربان
جاريته، على ما سيأتي بيانه، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وإن كنت قد حلفت
أن تمتنع عن هذا الشيء؛ فلك مخرج بالكفارة: { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ
تَحِلَّةَ أيمانكم } قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو
قد شرع لكم تحليلها بالكفارة، { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم،
وقيل: مولاكم: أولى بكم من أنفسكم ،فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم
أنفسكم،أو هو ناصرك في كل موطن ومن ذلك هذا الموطن ، { وَهُوَ العليم } بما
يصلحكم فيشرعه لكم، { الحكيم } فيما أحل وحرم وفي كل ما يكون ، ومنه أحداث
هذه السورة .
{
وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حفصة على الأرجح {
حَدِيثاً } حديث مارية وأنه لا يقربها أو غيره { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }
أفشته إلى عائشة رضي الله عنها، { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وأطلع
النبي
على إفشائها الحديث، على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ }
أعلم ببعض الحديث، وعاتبها على بعضه { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } فلم يعاتبها
على كل فعلها، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} نبأ النبيُّ حفصةَ بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي :
{ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم } بالسرائر {الخبير }
بالضمائر، { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة
الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن تتوبا
إلى الله فهو الواجب إذ وقع منكما ما يستوجب ذلك ، ودل على المحذوف: {
فَقَدْ صَغَتْ } مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله
من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه،أو فإن تبتما فقد خضعت قلوبكما للحق ، {
وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } وإن تتعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في
الغَيْرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } وليه وناصره، ومجئ : {
هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته سبحانه، { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه،
{وصالح الْمُؤْمِنِينَ } ومَنْ صَلَح من المؤمنين أي كلُّ من آمن وعمل
صالحاً، { والملائكة } على تكاثر عددهم {بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله
وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٍ } فوج مظاهر له، فماذا يبلغ تظاهر
امرأتين على مَنْ هؤلاء ظهراؤه ، ثم من مظاهر هذه النصرة أنه سبحانه لوشاء
أن يبدله أزواجاً خيراً منكن لفعل ، فقال سبحانه : { عسى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } فإن قلت: كيف تكون
المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟
قلت: إذا طلقهن رسول الله
لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه
الأوصاف خيراً منهن {مسلمات مؤمنات } مُقِرّات مُخْلِصات، { قانتات }
مطيعات، فالقنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، { تائبات
} من الذنوب، أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ،
{عابدات } لله، { سائحات } مهاجرات أو صائمات، وقيل: للصائم سائح لأن
السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم
في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، { ثيبات وَأَبْكَاراً } ووسط حرف العطف
بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متقابلات بخلاف سائر
الصفات.
وحيث لم يطلِّقْهن دلّ ذلك أنهن قد استقمن على أمر الله بعد تلك الزلة منهن().
سابعاً: بيان السورة لمقام النبي ومكانة أزواجه:
إنه على ضوء ما سبق يمكننا أن نستخلص وجوهاً من بيان السورة لمقامه، وتبعاً لذلك مكانة أزواجه، فمن ذلك:
1-النداء الرباني بصيغة (يا أيها النبي)، ولم يناد باسمه في القرآن.
2-كون العتاب من باب الحدب عليه؛ أن كلف نفسه أمراً ما رعاية لمصلحة أزواجه.
3-بيان أخلاق النبي العظيمة في حرصه على تعامله مع أزواجه بـأرقى مظاهر التعامل، والحرص على إرضائهن، ولو بتنازله عن حقه.
4-تشريع الله إكراماً لنبيه - ومن ثمّ للخلق - كفارة اليمين؛ ما يكون سبباً للمخرج مما هو فيه.
5-انتصار الله لنبيه في سرعة إعلامه بما كان من إسرار بعض زوجاته.
6-أخلاقه العظيمة في كيفية مفاتحة زوجه؛ إذ كاشفها ببعض ما كان وسكت عن بعض آخر، كما قال تعالى : (عرّف بعضه وأعرض عن بعض).
7-مطالبة أزواجه بسرعة التوبة، والتأكيد عليها وبيان خطورة عدم التحقق بها؛ إشارة إلى عظم ما وقع منهن في حقه ، مهما كان يسيراً في نظر الناس.
8-بيان
أن الله مولاه، ثم لم يقتصر على ذلك بل ضم إلى ذلك ذكر جبريل وصالح
المؤمنين، وسائر الملائكة؛ وفي ذلك إشارة عظيمة إلى ما أوجب الله على جميع
الخلق من الانتصار لرسولنا .
9-بيان المواصفات العظيمة التي يجب أن تتوافر فيمن تصلح زوجة له .
10-بيان تحقق أزواجه بكل تلك الصفات، وتحققهن بالتوبة الكاملة؛ ومن ثمّ بقين على عصمته، وبقين أمهات للمؤمنين إلى الأبد .
11-
الستر على أزواجه إكراماً له في حقيقة ما حدث، وتستمر الحكمة إذ إلى الآن
_وبرغم الروايات الواردة في الباب سواء عند المفسرين أو المحدثين_ لا يجزم
أحد بما حدث.
12- التأكيد في هذا السياق على المغفرة والرحمة الإلهية، وكونه هو المولى سبحانه.
المبحث الثاني
سبب نزول صدر سورة التحريم عند بعض المفسرين والمحدثين
من
المفيد أن نقف على نماذج من آراء المفسرين والمحدثين في هذه القضية ؛
لتكون بمثابة إلقاء الضوء على ما نحن بصدده ، ولنرى توجهاتهم ، ولقد تعددت
الروايات في بيان سبب نزول صدر سورة التحريم، فوجدت بعضها يتحدث عن قصة
مفادها أن النبي كان يشرب عسلاً عند إحدى زوجاته مما أثار الغَيْرة عند بعض
نسائه الأخريات، فعمدن إلى أن يتفقن على أمر يحول بينه وبين شرب العسل، ثم
اختلفت الروايات من هي تلك الزوجة التي كان يشرب عندها العسل؟ومن هن
اللواتي تظاهرن عليه في هذا الأمر؟
ثم جاءت روايات أخرى تتحدث أن سبب النزول حادثةٌ أخرى، لا صلة لها بالعسل، وإنما بسبب أن النبي
كانت له أَمَة (جارية) هي مَارِيَة، فأَرادت بعضُ نسائه أن يصرِفْنه عن
معاشرتها، وزادت بعض الروايات تفاصيل سنراها، وفي كلا القصتين حرَّم النبي على نفسه ما كان سبباً في ذلك.
فمن
هنا كان لا بد من دراسة مستفيضة لمحاولة الوصول إلى الأرجح والأصح، وبيان
ما يترتب على ذلك من حِكَم وأحكام، إذ قد وجدنا اختلافاً بين المفسرين
والمحدثين في بيان سبب النزول، وأي الروايات أرجح وأدق، كما أن بعض
الروايات تضمنت مالايجوز أن يكون في حق النبي أو لا يليق ببيت النبوة، مما
كان سبباً لاستغلالها من بعض مرضى القلوب؛ فكان لا بد من دراسة ممحصة،
وفيما يلي بيان لأهم آراء المفسرين والمحدثين في هذه المسألة:
أولاً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة العسل:
1-2-إماما أهل الحديث؛ البخاري ومسلم:
خرّج
البخاري ومسلم حديث قصة العسل، كما سنبين، وأعرضا عن قصة مارية، فلعلّ في
ذلك إشارة منهما إلى أن هذا هو الأصح. مع كون قصة مارية لم ترو بسند على
شرط الصجيج.
3- الإمام النووي (ت 676 هـ):
ورجح النووي أن الصحيح قصة العسل، وأن اللتين تظاهرتا هما عائشة وحفصة، وأن التي شرب عندها العسل هي زينب().
4-الإمام ابن كثير (ت 774 هـ):
قال: اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل: نزلت في شأن مارية، وكان رسول الله قد حرمها، ثم ذكر حديث أنس عند النسائي، ونقل ما رواه الطبري في الموضوع ومذاهب الفقهاء فيمن حرّم على نفسه شيئاً، ثم قال:
قال
ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الطبراني بسنده ... عن ابن عباس نزلت
هذه الآية: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ في المرأة التي وهبت
نفسها للنبي ().
قال
ابن كثير: وهذا قول غريب، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل، كما قال
البخاري، وذكر حديث عبيد بن عمير عن عائشة في شرب النبي العسل عند زينب().
ثم
خرج حديث عروة عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، ثم قال: وقد يقال
إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية
فيه نظر، ورجح أن يكون اللتان تظاهرتا هما حفصة وعائشة، بحديث عمر لابن
عباس لما اعتزل نساءه شهراً().
فخلص كلام ابن كثير إلى ترجيح قصة العسل.
ثانياً: بعض الأعلام الذين رجحوا قصة مارية:
1- الإمام الخطابي (ت 388 هـ):
وقال الإمام الخطابي: الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية حين حرمها على نفسه().
2- الإمام البغوي (ت 516 هـ):
وإلى ذلك أشار الإمام البغوي، فبعد أن ذكر الروايات الواردة في ذلك، قال:
((وقال المفسرون: وكان رسول الله يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله في زيارة أبيها، فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله إلى جاريته مارية القبطية))، ...وساق قصة مارية.
ثم قال البغوي: ((وقوله: { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } وهو تحريم فَتاتِه على نفسه، وقولُه لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً)).
ثم
نقل رأياً آخر فقال: ((وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أَسَرَّ أمر
الخلافة بعده، فحدثت به حفصة، قال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة
يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر
خليفتي من بعدي)).
وقال :(( قال مقاتل بن حيان: لم يُطَلِّق رسول الله حفصة، وإنما هَمَّ بطلاقها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة فلم يطلقها )().().
فيظهر
من كلام البغوي ترجيح قصة مارية، مع أنه أشار في سياق التفسير إلى قصة
العسل ، وسيأتي بيان أن شيئاً مما ذكره لايصح باستثناء قصة الغيرة .
3- الزمخشري (ت 538 هـ):
ونجد الإمام الزمخشري يذكر السببين، مع تبشير حفصة بأمر الخلافة، لكنه قدم ذكر قصة مارية، فقال:
روى أن رسول الله
خَلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: «اكتمي علي، وقد
حَرَّمْت ماريةَ على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي»،
فأخبرت به عائشة، وكانتا متصادقتين، وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها
بذلك واستكتمها، فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه، ومكث تسعاً وعشرين ليلة في
بيت مارية، وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طَلَّقَك،
فنزل جبريل عليه السلام، وقال: راجعها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك
في الجنة، وروي أنه ما طلقها، وإنما نَوَّهَ بطلاقها، وروي أنه عليه الصلاة
والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة، فقالتا له:
إنا نشم منك ريح المغافير()، وكان رسول الله يكره التفل()، فحرم العسل، فمعناه : ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ من ملك اليمين، أو من العسل().
4- الإمام الآلوسي (ت: 1270 هـ):
وبعد أن استعرض الإمام الآلوسي الروايات الواردة في ذلك بإيجاز قال:
والمشهور
أنها مارية، وأنه عليه الصلاة والسلام وطأها في بيت حفصة في يومها، فوجدت
وعاتبته، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرِّمها فلا
أقربها، قالت : بلى، فحرَّمها، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم
عائشة، ثم قال:
وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعتَ ما قيل فيها، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل، لا
في قصة مارية ... ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح، ثم قال الخفاجي نقلاً
عنه أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال
الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف،... والله تعالى أعلم().
5- جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ):
قال القاسمي :اختلف السلف قديماً وحديثاً فيما نزلت هذه الآيات؛ أفي
تحريم الجارية (مارية القبطية)، أم في تحريم شرب العسل، ليس هذا موضوع
بحثنا.
وطريق الجمع بين هذا الاختلاف؛ الحمل على التعدد، فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد.
وعند الترجيح ـ الذي يَظْهَرُ ـ أن سبب نزولها هو روايات تحريم الجارية، وذلك لوجوه:
منها: أن مِثله يبتغي به مرضات الضرّات، ويهتم به لهن.
ومنها:
أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف
لا يشربه أَنَفَةً من ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة
عليها.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة؛ لتقريع أزواجه وتأديبهن
في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك ... وإعلامهن برفعة
مقامه، وأن ظُهراءَهُ مولاه وجبريلُ والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على
أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغَيْرة مِن مِثل ما
روي في شأن الجارية.
وأما
تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن
الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا().
بعض الأعلام الذين رجحوا إمكان القصتين وتعدد الوقائع:
1- الإمام الطبري (ت 310 هـ):
قال الطبري: واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه...
فقال بعضهم: كان ذلك مارية ...
ثم ذكر الروايات الواردة في ذلك [وسيأتي تخريجها]، ثم قال:
« والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ
على نفسه شيئًا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز
أن يكون كان شرابًا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ
ذلك كان، فإنه كان تحريم شيئ كان له حلالاً فعاتبه الله على تحريمه على
نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه
ما حرّم على نفسه »().
2- الإمام ابن حجر (ت 852 هـ):
وقال ابن حجر: واختلف في المراد بتحريمه، ففي حديث عائشة ثاني حديثي الباب؛ أن ذلك بسبب شربه
العسل عند زينب بنت جحش، فإن في آخره «ولن أعود له، وقد حلفت» ثم قال :
ووقع عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى مسروق قال: «حلف رسول الله
لحفصة لا يقرب أَمَتَه، وقال: هي علي حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِرَ
أن لا يحرم ما أحل الله». ووقعت هذه القصة مدرجة عند ابن إسحق في حديث
ابن عباس عن عمر الآتي في الباب الذي يليه كما سأبينه، وأخرج الضياء في
(المختارة) من مسند الهيثمبن كليب، ثم من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال رسول الله
لحفصة: لا تخبري أحداً أن أم إبراهيم عليَّ حرام، قال فلم يقربها حتى
أخبرت عائشة، فأنزل الله: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)، وأخرج الطبراني
في عِشْرة النساء وابن مردوية من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي سلمة
عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله
بمارية ببيت حفصة، فجاءت فوجدتها معه، فقالت: «يا رسول الله في بيتي تفعل
هذا معي دون نسائك» فذكر نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس
قال: «دخلت حفصة بيتها فوجدته يطأ مارية، فعاتبته»، فذكر نحوه، وهذه طرق
يقوي بعضها بعضاً،[كذا قال ابن حجر] فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين
معاً، وقد روى النسائي من طريق حماد عن ثابت عن أنس هذه القصة مختصرة أن
النبي كانت له أَمَة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ الآية().
فيبدو أن ابن حجر يرجح صحة الأمرين معاً.
وهكذا
نلاحظ من خلال استعراض بعض أقوال المفسرين والمحدثين اختلافهم الشديد في
هذا الأمر، فمنهم من مال إلى ترجيح قصة مارية، (الخطابي والبغوي والزمخشري
والآلوسي والقاسمي)، ومنهم من مال إلى احتمال الأمرين، (الطبري وابن حجر)،
ومنهم من يرى أنها بسبب قصة العسل (النووي وابن كثير وصنيع البخاري ومسلم
في الاقتصار على تخريج قصة العسل يدل على ذلك)، مع كون جميع المفسرين
أشاروا إلى القصتين، مع اختلاف الروايات فيمن كان يشرب عندها، ومن التي
تظاهرت عليه ،ورجح
النووي أن التي شرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة
وحفصة، ورجحها على الرواية التي تقول إن التي شرب عندها العسل حفصة، وأن
اللواتي تظاهرن هم: عائشة وسودة وصفية، مع أن الروايتين في الصحيحين، لأن
القرآن نص أن التظاهر كان من اثنتين، واحتمل ابن كثير تكرر الحادثة()، فلعلنا نستطيع أن نصل إلى الراجح في هذا الأمر والله المستعان.
المبحث الثالث
الدراسة النقدية للروايات الواردة في سبب نزول صدر سورة التحريم
المطلب الأول
الروايات الواردة في شرب العسل
وفيه فروع:
أولاً: ما ورد أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب بنت جحش:
عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ أنه سمع عَائِشَةَ تخبر؛ أَنَّ النَّبِىَّ
كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا
عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ
عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ()،
أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: « لاَ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ
جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ »، فَنَزَلَتْ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ إِلَى ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى
اللَّهِ ﴾ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ﴾ لِقَوْلِهِ « بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً »().
ثانياً: الروايات التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة:
عن عُروَةَ، عَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ
عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ
ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً
مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ
مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ
سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ
مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لاَ، فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ
الرِّيحُ؟ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ)، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ
لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ
نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ لَهُ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا
صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ:
وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ
بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ،
فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: « لاَ »،
قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: « سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ
عَسَلٍ »، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَىَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ
فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: « لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ »،
قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ
حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي().
وبحسب هذه الرواية فإن الزوجة التي شرب النبي عندها العسل هي حفصة، وأن الذين تظاهروا عليه هم ثلاثة نساء: عائشة وهي التي بدأت الأمر، ثم سودة وصفية.
ثالثاً: ما ورد أن التي شرب عندها العسل هي أم سلمة:
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله
قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من أهله، فيضع يده، ويقبل كل
امرأة من نسائه، حتى يأتي على آخرهن، فإن كان يومها قعد عندها، وإلا قام،
فكان إذا دخل بيت أم سلمة يحتبس عندها، فقلت أنا وحفصة، وكانتا جميعاً يداً
واحدة: ما نرى رسول الله يمكث عندها إلا أنه يخلو معها، تعنيان الجماع،
قالت: واشتد ذلك علينا، حتى بعثنا من يطلع لنا ما يحبسه عندها، فإذا هو إذا
صار إليها أخرجت له عُكَّة من عسل، فتحت له فمها فيلعق منه لعقاً، وكان
العسل يعجبه، فقالتا: ما من شيءٍ نُكَرِّهُه إليه، حتى لا يلبثَ في بيت أم
سلمة؟ فقالتا: ليس شيء أكره إليه من أن يقال له: نجد منك ريح شيء، فإذا
جاءك فدنا منك؛ فقولي: إني أجد منك ريح شيء، فإنه يقول: من عسل أصبته عند
أم سلمة، فقولي له: أرى نحله جرس عرفطاً، فلما دخل على عائشة فدنا منها
قالت: إني لأجد منك شيئاً، ما أصبت؟ فقال: عسل من بيت أم سلمة، فقالت: يا
رسول الله أرى نحله جرس عرفطاً، ثم خرج من عندها فدخل على حفصة، فدنا منها،
فقالت مثل الذي قالت عائشة، فلما قالتاه جميعاً اشتد عليه، فدخل على أم
سلمة بعد ذلك، فأخرجت له العسل، فقال: أخريه عني، لا حاجة لي فيه، فقالت:
فكنت والله أرى أن قد أتينا أمراً عظيماً، منعنا رسول الله شيئاً كان
يشتهيه().
قلت: ولا تصح هذه الرواية، فيها: محمد بن عمر، هو الواقدي؛ متروك()، وفيها: عبد الرحمن بن أبي الزناد؛ متكلم فيه، ضعفه ابن معين وأحمد وغيرهم().
رابعاً: من قال إن التي شرب عندها العسل هي سودة:
قال السيوطي(): « عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يَشْرَبُ عِنْدَ سَوْدَةَ مِنَ الْعَسَلِ، فَيَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ: إِنِّي أُرَاهُ مِنْ
شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ سَوْدَةَ، وَاللَّهِ لا أَشْرَبُهُ »().
إلا
أن هذه الرواية شَذَّت بذكر أن التي شرب عندها العسل هي سودة، وإن وافقت
ببيان أن حفصة هي المتواطئة مع عائشة، وفي سندها راو ضعيف كما هو مبين في
الهامش.
خامساً: روايات مَنْ لم تُسَمَّ:
عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِهِ كُلَّ غَدَاةٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ،
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عِنْدَهَا عَسَلٌ، فَكُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا أَحَضَرَتْ لَهُ مِنْهُ، فَيَمْكُثُ عِنْدَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّ
عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَدَتَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتَا حِينَ دَخَلَ
عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّا نَجْدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ الْعَسَلَ. رواه أبو يعلى()، وقال الهيثمي: فيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات()، قلت: قال علي في يعقوب: ضعيف منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي().
فهذه الرواية ضعيفة، كما رأيت، ولم يبين من المرأة التي كان يشرب عندها العسل، وإن كانت تبين أن حفصة هي التي تواطأت مع عائشة.
وأخرج نحوه الحاكم بسنده عن القاسم بن محمد؛ قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يدخل على بعض أزواجه، وعندها عكة من عسل، فيلعق منها لعقاً، فيجلس عندها، فأرابهم ذلك، فقالت عائشة لحفصة ولبعض أزواج النبي ، فقلنا له: إنما نجد منك ريح المغافير، فقال: « إنها عسل ألعقه عند فلانة، ولست بعائد فيه »().
وأخرجه البيهقي بسنده: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
يَشْرَبُ مِنْ شَرَابٍ، يَعْنِي عِنْدَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، يَعْنِي
مِنَ الْعَسَلِ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَجِدُ
مِنْكَ رِيحًا، فَقَالَ : إِنِّي أُرَاهُ مِنْ شَرَابٍ شَرِبْتُهُ عِنْدَ
فُلانَةَ، وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿
يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾().
وغاية ما تفيد هذه الروايات أن اللتين تواطأتا هما حفصة وعائشة، ولا جديد فيها، ثم إنها لا تصح-كما هو مبين في التخريج -.
وهناك روايات مرسلة ذكرها الطبري، تذكر أنها نزلت في شأن الشراب دون تفصيل، قال الطبري():
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن
عبد الله بن شدّاد بن الهاد، قال: نزلت هذه الآية في شراب ﴿ يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ
أَزْوَاجِكَ ﴾.
وقال
الطبري :حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أَبو قَطن البغدادي عمرو بن الهيثم،
قال: ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن عبد الله بن شدّاد مثله، قال: ثنا أبو
قطن قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة، قال: نزلت في شراب.
خلاصة الروايات وإشكالاتها:
فالخلاصة أن بين الروايات اختلافاً وتضارباً:
1- فمن الروايات من يذكر أن التي شرب عندها العسل هي حفصة، كما في رواية هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، عند البخاري ومسلم.
2- ومنها ما يذكر أن التي شرب العسل عندها هي زينب، كما في رواية عبيد بن عمير، عند البخاري ومسلم أيضاً.
3- ومن الروايات ما يذكر أن المتظاهرين عليه هم عائشة وسودة وصفية، وهي عند البخاري ومسلم، من رواية هشام بن عروة بن أبيه عن عائشة.
4-
ومنها ما يذكر أن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة، كما هي رواية عبيد بن
عمير، عند البخاري ومسلم، ورواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند
أبي يعلى مع ضعفها.
5-
ومن الروايات ما يذكر أن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة، وأخرى
تذكر أنها سودة، وروايات لم تُسَمِّ أحداً ، ولم يصح منها شيء.
نقد الروايات:
إن كل ما سبق يقتضي منّا أن نقف وقفة نقدية متأنية مع هذه الروايات:
1-
إنه من حيث المبدأ يمكن ترجيح رواية ابن جريج عن عبيد بن عمير؛ التي تضمنت
أن التي كان يشرب عندها العسل هي زينب، وأن التي تظاهرتا هما عائشة وحفصة،
لأدلة عدة منها:
- أن ذلك موافق للنص القرآني من حيث أنه ذكر أن المتظاهرتين اثنتان لا ثلاثة.
-
وموافق لحديث سأل فيه ابنُ عباسٍ عمرَ: من المرأتان اللتان تظاهرا على
رسول الله؟ فبين أنهما حفصة وعائشة، وإن كان لم يذكر قصة العسل().
- وموافق لرواية ابن عباس عند الطبري، ورواية أم سلمة عند أبي يعلى مع ضعفها.
- أن الذي خالف فروى حديث شرب العسل عند حفصة هو هشام بن عروة، من رواية العراقيين عنه، وقد أعلّ العلماء هذه الروايات، كما سنرى.
-
أما الرواية التي تذكر أن شرب العسل كان عند حفصة، وأن التي تواطأت عائشة
وسودة وصفية، وفيها زيادات مستغربة؛ فهي مما تفرد به هشام بن عروة، وقد
رواه عنه ثلاثة كوفيون هم:
1- أبو أسامة حماد بن أسامة.
2- علي بن مسهر.
3- حفص بن غياث.
قال
أهل العلم: إنه لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في
غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، وكان مالك لا يرضاه، نقم عليه حديثه لأهل
العراق().
وقال يعقوب بن شيبة: ثبت ثقة، لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده().
وإذن فهذا الطريق أيضاً لم تسلم من العلة؛ إذ هي من رواية العراقيين عن هشام.
ج-
أما الروايات التي تحدثت أن المتظاهرتين هما حفصة وعائشة، دون بيان مضمون
هذا التظاهر؛ فهي صحيحة في الصحيحين، وهو موافق بالجملة للنص القرآني، الذي
بيّن أن ثمت شيء حدث من اثنتين، دون تفصيل.
د- أما الرواية التي قالت: إن التي كان يشرب عندها العسل هي أم سلمة؛ فهي من رواية الواقدي المتروك.
هـ- وأما من قال: إنها سودة، أو لم يسم أحداً، فوجدنا أن جميع الروايات في ذلك لم تصح.
-ومن ثمّ؛فإذ كان الأصح رواية عبيد بن عمير؛ فإن بعض الروايات التي ذكرت
زيادات عليها؛ لا تسلم، كزيادة:(فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ
لَهُ)، وزيادة: (تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ،
لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِي، وَإِنَّهُ لَعَلَى
الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ)، وزيادة: (وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ،
قَالَتْ قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي).
المطلب الثاني
الروايات الواردة في أن سبب النزول قصة مارية
وردت هذه القصة من طرق؛ مختصرة ومطولة، وفي بعضها ما لا يجوز نسبته لرسول الله .
وفيما يلي عرض هذه الروايات ونقدها:
أولاً- حديث أنس:
عن أنس « أن رسول الله
كانت له أَمَةٌ يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً،
فأنزل الله هذه الآية ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات
أزواجك﴾ إلى آخر الآية().
قلت: في إسناده محمد بن بكير الحضرمي، صدوق يخطئ()، وقد توبع فأخرجه النسائي() قال: أخبرني إبراهيم بن يونس بن محمد ؛حرمي (كذا لقبه)، ثنا أبي ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله
كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل
الله عز وجل ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك ﴾
إلى آخر الآية.
قال: ابن حجر(): إسناده صحيح، وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري بسند صح عن زيد بن أسلم، قلت: سيأتي ذكر أثر زيد .
ثانياً- حديث أبي هريرة:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: « دخل رسول الله
بمارية القبطية سَرِيَّتِه ببيت حفصة بنت عمر، فوجدتها معه، فقالت يا رسول
الله؛ في بيتي من بين بيوت نسائك، قال: فإنها علي حرام أن أمسها يا حفصة،
واكتمي هذا عليّ، فخرجت حتى أتت عائشة، فقالت: يا بنت أبي بكر: ألا أبشرك؟
فقالت: بماذا؟ قالت: وجدت مارية مع رسول الله
في بيتي، فقلت: يا رسول الله في بيتي من بين بيوت نسائك، وبي تفعل هذا من
بين نسائك، فكان أول السرور أن حرَّمها على نفسه، ثم قال لي: يا حفصة ألا
أبشرك، فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلمني أن أباك يلي الأمر من
بعده، وأن أبي يليه بعد أبيك، وقد استكتمني ذلك فاكتميه، فأنزل الله عز وجل
في ذلك: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، أي مِنْ مارية، ﴿
تبتغي مرضاة أزواجك ﴾، أي حفصة، ﴿ والله غفور رحيم﴾، أي لما كان منك، ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم ، وإذ أسر
النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾، يعني حفصة، ﴿ فلما نبأت به ﴾، يعني عائشة، ﴿
وأظهره الله عليه ﴾، أي بالقرآن، ﴿ عرّف بعضه ﴾، عرف حفصة ما أظهرت من أمر
مارية، ﴿ وأعرض عن بعض ﴾، عما أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر، فلم يثربه
عليها، ﴿ فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ﴾، ثم
أقبل عليها يعاتبها؛ فقال: ﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا
عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ﴾، يعني أبا بكر وعمر، ﴿
والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن
مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا﴾، فوعده من
الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وأخت نوح().
ثالثاًً- حديث ابن عباس، وقد روي الحديث عنه من طرق:
1- عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ﴿ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ﴾ قال: دخلت حفصة على النبي في بيتها، وهو يطأ مارية، فقال لها رسول الله :
« لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، إن أباك يلي من بعد أبي بكر، إذا أنا مت »، فذهبت حفصة فأخبرت عائشة أنها رأت رسول الله وهو يطأ مارية، وأخبرتها أن النبي أخبرها أن أبا بكر يلي بعد رسول الله ، ويلي عمر بعده، فقالت عائشة للنبي :
من أنبأك هذا؟ قال: ﴿ نبأني العليم الخبير ﴾، فقالت عائشة: لا أنظرُ إليكَ
حتى تُحرِّم مارية، فحرمها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك ﴾().
رواه الطبراني، وقال الهيثمي(): وفيه إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله ثقات.
أقول:
رواية ضعيفة جداً لا يحتج بها، فإن إسماعيل بن عمرو البجلي؛ قال فيه ابن
عدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف، وقال
الذهبي: ولقد أتى بحديث باطل، وساق جزءً منه()، والضحاك بن مزاحم: صدوق كثير الإرسال()، وقال يحيى بن سعيد: الضحاك ضعيف عندنا، وقال الذهبي: وثقه أحمد()، واتفقوا على أنه لم ير ابن عباس فالرواية منقطعة.
2- رواية ثانية تجمع بين عدد من الروايات، من حديث ابن عباس:
من
حديث الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن
رومان عن ابن عباس قال: « كنت أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن قول الله عز
وجل: ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾، فكنت أهابه حتى حججنا معه حجة، فقلت: لئن لم
أسأله في هذه الحجة لا أسأله، فلما قضينا حجنا أدركناه وهو ببطن مرو، قد
تخلف لبعض حاجته، فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله، ما حاجتك؟ قلت: شيء كنت
أريد أن أسألك عنه يا أمير المؤمنين، فكنت أهابك، فقال: سلني عما شئت،
فإنّا لم نكن نعلم شيئاً حتى تعلمنا، فقلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿
وإن تظاهرا عليه ﴾ من هما؟...»(). في رواية مطولة تضمنت حديث ابن عباس عن عمر الذي أخرجه البخاري، وقد سأل ابن عباس عمر: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟()، لكن زاد في هذه الرواية قصة العسل وقصة مواقعة مارية في بيت حفصة، مع ألفاظ وزيادات مستغربة.
قلت:
وهذه الرواية لا تثبت، فإن حديث ابن عباس عن عمر كما في الصحيحين؛ ليس فيه
هذه الزيادات، ثم إن الرواية هذه من طريق: سعيد بن أبي هلال الليثي
مولاهم، أبو العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي:
صدوق، كان أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث().
أقول: ومن نظر في روايته هذه، وقارنها برواية البخاري؛ رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
3- أخرج الدارقطني بسنده عن هشام الدستوائي قال: كتب إليّ يحيى بن أبي كثير يحدث عن عكرمة عن عمر قال: الحرام يمين يكفرها، (كذا الرواية ولم يكمل النص) ثم قال الدارقطني: قال هشام وكتب إليّ يحيى
عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول: في الحرام
يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ إن
النبي
كان حرم جاريته؛ فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً().
وأصل هذا الحديث في البخاري دون ذكر الجارية، قال البخاري:
حَدَّثَنَا
مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ
حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما
قَالَ: فِى الْحَرَامِ يُكَفّرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿ لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾().
4- طريق أخر عند البيهقي، قال :
أخبرنا
أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن كامل القاضي، أنا محمد بن سعد بن محمد
بن الحسن بن عطية بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية،
حدثني أبي عن جدي عطية بن سعد عن بن عباس رضي الله عنهما: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾، إلى قوله: ﴿ وهو العليم الحكيم ﴾، قال: كانت
حفصة وعائشة رضي الله عنهما متحابتين، وكانتا زوجتي النبي ، فذهبت حفصة إلى أبيها تتحدث عنده، فأرسل النبي
إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة رضي
الله عنها، فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غَيْرة
شديدة، فأخرج رسول الله جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيتُ من كان عندك، والله لقد سُؤْتَني، فقال رسول الله : والله لأرضينك، وإني مُسِرٌّ إليك سراً، فاحفظيه، فقال: إني أُشهِدُك أن سَرِيَّتي هذه عليَّ حرام، رضاً لك، وكانت حفصة وعائشة تظاهرتا على نساء النبي ، فانطلقت حفصة فأَسَرَّتْ إليها سراً، وهو أن أبشري أن محمداً قد حرم عليه فَتاتَه، فلما أخبرت بسِرِّ النبي أظهر اللهُ النبيَّ عليه، فأنزل الله على رسوله : ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى آخر الآية().
قلت : وهذا حديث لا يصح؛ فيه محمد بن سعد بن محمد، قال الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به()، وفيه: الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به()، وأبوه: الحسن ضعيف()، وعطية: صدوق يخطئ، وكان يدلس().
رابعاً- حديث عمر:
1- أخرج الدارقطني بسنده () عن عبدالله بن عمر العمري عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله
بأمِّ ولدِه مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال: لا تذكري هذا
لعائشة، فهي عليَّ حرامٌ إن قربتها، قالت حفصة: وكيف تحرم عليك، وهي
جاريتك؟ فحلف لها لا يقربها، فقال النبي :
لا تذكريه لأحد، فذكرته لعائشة، فآلى [أي حلف] لا يدخل على نسائه شهراً،
فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلة، فأنزل الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾
الآية، قال :والحديث طويل().
وهذه الرواية لا تصح، ففيها عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عَنْعَن.
2-
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد
الرقاشي، حدثنا مسلمبن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن
ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي
لحفصة: « لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام »، فقالت: أتحرم ما
أحل الله لك؟ قال: «فَوَالله لا أقربها »، قال: فلم يقربها حتى أخبرت
عائشة، قال: فأنزل الله: ﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
أَيْمَانِكُمْ ﴾.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج().
قلت: فيه عبد الملك بن محمد الرقاشي، صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، وكان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام في روايته()، وقد تفرد بهذا الإسناد.
خامساً- أحاديث مرسلة:
1- عن الضحاك: أن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها زارت أباها ذات يوم، وكان يومها، فلما جاء النبي
فلم يرها في المنزل، فأرسل إلى أَمَتِه ماريةَ القبطيةَ، فأصاب منها في
بيت حفصة، فجاءت حفصة على تلك الحالة، فقالت: يا رسول الله، أتفعل هذا في
بيتي، وفي يومي، قال: فإنها عليَّ حرام، لا تخبري بذلك أحداً، فانطلقت حفصة
إلى عائشة، فأخبرتها بذلك، فأنزل الله عز وجل في كتابه: ﴿ يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ وصالح المؤمنين ﴾، فأُمِرَ أن
يُكَفِّر عن يمينه، ويراجع أَمَتَه، وبمعناه ذكره الحسن البصري مرسلاً().
2- قال الطبري:
حُدثت
عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾
كانت لرسول الله فتاةٌ، فغشيها، فبَصُرت به حفصة، وكان اليومُ يومَ عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله : « اكْتُمي عَلَيَّ وَلا تَذْكُرِي لِعَائِشَةَ مَا رَأَيْتِ »، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله حتى حَلَفَ أن لا يقربها أبداً، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفِّر يمينه، ويأتي جاريته().
3- وعن مسروق أنه قال: إن رسول الله حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: هي عليَّ حرام، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمِر أن لا يحرم ما أحل الله().
4- وعن قتادة قال: كان رسول الله في بيت حفصة، فدخلت فرأت فتاتَه معه، فقالت: في بيتى ويومي؟ فقال: اسكتي، فوَالله لا أقربها، وهى على حرام().
5- وعن زيد بن أسلم أن رسول الله
أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أيْ رسول الله؛ في بيتي
وعلى فراشي، فجعلها عليه حراماً، فقالت: يا رسول الله؛ كيف تحرم عليك
الحلال، فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يا أيها النبي لم
تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ﴾().
وقال
الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، عن مالك، عن
زيد بن أسلم، قال لها: « أنت عليّ حرام، وَوَالله لا أطؤك »().
نقد الروايات:
ـ روي حديث مارية من طريق: أنس وأبي هريرة وابن عباس وعمر، كما روي مرسلاً عن الضحاك وقتادة ومسروق وزيد بن أسلم.
ـ فأما حديث أنس؛ فجاء عنه من طريقين جيدين: عن ثابت عنه، وكانت روايته مقتصرة على ذكر أن عائشة وحفصة ما زالتا بالنبي حتى حرم جاريته، وصححه ابن حجر.
ـ وأما حديث أبي هريرة؛ ففيه موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه، قال الذهبي: مجهول وخبره ساقط، فلا يصح.
ـ وأما حديث ابن عباس فروي عنه من طرق:
فأما الطريق الأول ففيه: إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف، وقد وثقه ابن حبان، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وهو ضعيف.
وأما
الرواية الثانية فلا تثبت، فيها سعيد بن أبي هلال الليثي مولاهم، أبو
العلاء المصري، مخلط، فإنه وإن وثقه العجلي، فقد قال الساجي: صدوق، كان
أحمد يقول: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث، ومن نظر في روايته هذه،
وقارنها برواية البخاري رأى نموذجاً للتخليط بين الروايات.
وأما
الرواية الثالثة فهي عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان
يقول: في الحرام يمين يكفرها، وقال ابن عباس: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة ﴾ إن النبي
كان حرم جاريته، فقال الله: ﴿ لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ إلى قوله: ﴿ قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾، فكفر عن يمينه، وصير الحرام يميناً.
وأصل هذه الرواية في البخاري دون ذكر الجارية.
وأما
الطريق الرابعة عن ابن عباس فلا تصح؛ فيها محمد بن سعد بن محمد، قال
الذهبي: قال الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به، وفيه
الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يروي أشياء لا
يتابع عليها، لا يجوز الاحتجاج به، وأبوه الحسن ضعيف، وعطية صدوق يخطئ،
وكان يدلس.
ـ وأما حديث عمر، فمن طريقين:
فأما الأول: فلا يصح؛ فيه عبد الله بن عمر العمري، ضعيف، وأبو النضر يرسل كثيراً، وقد عنعن.
وأما
الثانية: أخرجها الهيثم بن كُلَيب في مسنده، وهي موافقة لرواية أنس
الصحيحة، وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، قلت: لكن فيها عبد الملك بن محمد
الرقاشي؛ صدوق، وقد اختلط في آخره.
ـ وأما الروايات المرسلة: فلم يصح منها إلى الراوي المرسل إلا روايتان عن مسروق وزيد موافقتين لرواية أنس المختصرة الصحيحة .
فيلاحظ مما مضى صحة الرواية سنداً؛ التي تقتصر على أن السيدة عائشة وحفصة مازالتا بالنبي
حتى حرَّم على نفسه مارية، وهي رواية أنس من طريقين عن ثابت عن أنس،
ووافقتها رواية ابن عمر عن عمر، عند الهيثم بن كليب، كما وافقتها رواية
مسروق وإحدى روايتي زيد بن أسلم المرسلتين بإسناد صحيح إلى مسروق وزيد، دون
ذكر تفاصيل في هذا الشأن، ودون ذكر أنه وطئ مارية في حجرة حفصة، وغيرِ ذلك
من الأمور التي لا يليق نسبتها إليه ، و التي يُشعِر الحديث عنها بسوء أدب مع رسول الله .
ويلاحظ
أن المفسرين قد اختلفوا كثيراً في هذا الأمر، ولولا أن الشيخين قد خرجا
قصة العسل؛ لرأينا أن أكثر المفسرين يميلون إلى قصة مارية.
لكننا لسنا معهم في ما ذُكِر من تفاصيل بسبب تحريم مارية.
الخاتمة
يخلص الباحث بعد هذه الدراسة إلى جملة من الحقائق والقضايا والنتائج، أهمها:
-
يوجهنا
القرآن إلى منهج عظيم في التربية ؛ وهو أن الأصل وجوب الستر على من وقع
منه خطأ، إذ الفضح لايأتي بخير ولانتيجة ، ولذا نجد أن الله قد ستر ههنا
نوع المخالفة ومن اللواتي وقع منهن ذلك ، وهذا المنهج عام في كتاب الله ؛
كما نلاحظ في قصة الثلاثة الذين خلفوا ، وقصة الإفك، وقصة بدر (إذ همّ
طائفتان أن تفشلا)، وقصة الأنفال، ومن رغب بالدنيا في قضية الغنائم،
وغيرها.
-
للقرآن العظيم منهجه الخاص في النظم والبيان، ومن ذلك أنه يعرض للقصة أو
سبب النزول ـ في أكثر الأحيان ـ مجرداً عن الشخوص والأزمنة والأمكنة، إلا
لحكمة وفائدة خاصة؛ كقصة زيد: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ [الأحزاب: 37]، ولهذا المنهج القرآني في النظم
والبيان حِكَم كثيرة وفوائدة عظيمة؛ من ذلك:
- أن ينشغل فكر القارئ المتدبر بالعبر والدروس والتوجيهات المرادة من الآيات، لا أن ينشغل بالحدث نفسه، وبمن كان له صلة به.
- أن القرآن ليس كتاب قصة ابتداءً، ولا تاريخ، بل هو كتاب هداية وإعجاز.
- أن هذا المنهج أدْعَى إلى مزيد من التدبر والتفكر والبحث، حيث يتميز في البحث فيه الراسخون في العلم.
- كما أن في هذا المنهج ـ في بعض الأحايين ـ ستراً على بعض الناس، رفقاً بحالهم أو تكريماً لهم ـ كما أشرت.
ونحن إذا تأملنا في سورة التحريم ولِمَ أُخفي تفصيل السبب؟ نجد أن
هذه الحِكَم بادية، ولكننا مع ذلك نجد أن المفسرين اشتغلوا كثيراً ببيان
هذه الشخوص، وتفاصيل السبب والقصة، وخاصة في سورة التحريم، ولعلّ من أسباب
ذلك:
- وروود روايات في مصادر التاريخ أو السنة تفصل في هذه القصة.
- قد يرون أن ذلك مما يلقي الضوء على الآيات فهماً وتفقيهاً.
-
إشباع فضول الناس في التعرف على التفاصيل، لكن هذا الانشغال ترتب عليه في
كثير من الحالات اختلافات، وأَخْذ ورد، وربما كان فيه ما لا ينبغي أن يقال،
كما حدث في تفسير سورة التحريم.
ولعلّ
من خلال هذا البحث تأكَّد لدينا عملياً ضرورة التزام المنهج القرآني في
عرض القصة والأحداث، من غير الخوض في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، إلا لحكمة
وفائدة واضحة.
3_ تعلمنا القصة أهمية النظرة الواقعية إلى الحياة، فبالرغم من كون أزواج النبيهنّ
من هنّ في المقام؛ فلم يمنع ذلك أن يقع منهن خطأ ما، كما أنه إذا كان من
الممكن أن تقع مشكلة ما في بيت النبوة؛ فمن باب أولى غيرها، وأن المهمّ في
ذلك سرعة الحلّ وإيجابياته، وسرعة الاستجابة لأمر الله، والتقوى في ذلك
كله.
4- إن القصة وفق العرض القرآني لها تبين عظمَ مكانة الرسول
عند ربه، وخطورةَ الإساءة إليه، مهما كان نوع الإساءة صغيراً في نظر
الآخرين، وأنه قد وقع ما لا ينبغي من بعض أزواجه تجاهه، بصفتهنّ البشرية،
ولكن لعظم خلقه أراد إرضاءهن، ولو على حسابه، وبتنازله عن حقوقه، لكن الله ينتصر له من جهة، ويبين المَخْرَج مِن حَلْف يمين وقعت منه ،
وفي هذا توجيه لجميع الخلق من بعده، كما تبين الآيات سرعة استجابة زوجاته
للتوجيه الرباني، وسرعة التوبة، وفي هذا بيان لمقامهن أيضاً، لذا لم يطلقهن
لتحققهن بما ذكر من صفات: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ
تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ... ﴾، ومع كل هذه المعاني ستر الله هذه
الزوجات اللواتي قصرّن في حقه ، وحفظ سر ذلك حفاظاً على مقام النبوة ومقام زوجاته.
ولكن
كان لا بد من استثمار الحدث في بيان منهج المعالجة، وأهمية التوبة النصوح
والمسارعة إليها، ليبين لنا أن من شأن الإنسان الخطأ والتقصير، لكن التوبة
تطهره من كل ذلك، فكان قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ
عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]، ومن خلال ذلك تُعَرِّفُنا الآيات كيف يمكن
أن نواجه المشكلات الأسرية التي لا بد أن تقع، ومن وسائل ذلك: حُسن خلق
الزوج والزوجة، وسرعة مراجعة كل طرف لنفسه، وتنازل كل طرف عن بعض حقه
تكريماً ورعاية، وعدم الإصرار على الخطأ، بل المسارعة إلى التوبة، والستر
ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
5-تبين للباحث عدم صحة الروايات التي تدّعي أن النبي عاشر مارية في حجرة حفصة، أو في يومها، وأنها غضبت لذلك، فأسَرَّ إليها أنه يحرمها على نفسه.
6- بعض
روايات قصة العسلِ من طريق ابن جريج المدلس، ولم يصرح بسماع صحيح،
والثانية كانت من رواية الكوفيين عن هشام بن عروة، وحديث هشام في العراق
متكلم فيه، وباقي الروايات لم تصح.
ولكن
وعلى ضوء أن صاحبي الصحيحين ـ وهما من هما ـ قد اختارا رواية العسل في
تفسير سبب النزول؛ فهي الأرجح على ضوء النقد الحديثي، عند جمهور المجدثين،
وأن ذلك إنما كان من بعض أزواجه بدافع الغيرة البشرية الطبيعية، بل وبدافع الحب له .
7-أن الأرجح أن التي كان يشرب النبي
العسل هي زينب، وأن اللتين تظاهرتا هما السيدة عائشة وحفصة، كما هي
رواية عبيد بن عمير، وأن رواية هشام بن عروة وقع فيها مخالفة لما أنها من
رواية العراقيين عنه.
8- لكن ومع ذلك يمكن القول: إنه وبسبب الغَيرة الطبيعية في المرأة؛ أرادت بعض أزواجه أن يَحمِلنَ النبي
على الامتناع من معاشرة مارية، دون تفاصيل أخرى، وأن النبي أسَرَّ إلى
إحداهن بذلك إرضاءً لها، ولكن لم يُرِدْ أن يفشي ذلك، فأفشت هذه الزوجة ذلك
السر كله، متعاونة مع أخرى، ثم كانت التوبة منهن، ومال الطبري وابن حجر
إلى إمكان أن يكون كلا الأمرين حدث، ولعلّ في كلام القاسمي ـ وهو محدث
ومفسر ـ الذي نقلناه في صلب البحث ما يرجح هذا التوجه.
9-
لم يثبت لدى الباحث أي رواية صحيحة أن السِّرَّ الذي أخبر به النبي بعض
أزواجه؛ هو كون الخلافة مِنْ بعده لأبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
10-
حاول بعض المفسرين وشرّاحُ الحديث الجمعَ بين الروايات، فذكروا أنه من
الممكن أن تكون قصة العسل قد تَعَدَّدت، وتعددت مَنْ شَرِبَ عندها، كما أنه
من الممكن في الوقت ذاته أن تكون حصلت قصة مارية، فنزلت الآيات جواباً عن
ذلك كله، ويرى الباحث أن ذلك بعيد جداً، إذ يوضح سياق الآيات انتصار الله
العظيم لرسوله ، فكيف يسمح بتكرر ذلك، ومثل هذا الادعاء يحتاج إلى دليل نقلي صحيح، ولا يوجد.
وأخيراً:
نسأل الله أن يجعلنا ممن يُقَدِّرُ مقامَ النبي
حقَّ قدرِه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:
4]، وكما قال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6].
ومِنْ ثمّ نسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا تجاه أزواجه
آل بيته الطاهر المطهر المزكى من الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33].
قائمة المصادر والمراجع
-
الآلوسي، شهاب الدين محمود، ت 1270هـ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث، بيروت، بلا تاريخ.
-
ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات بن المبارك بن محمد بن الجزري، ت606هـ، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: محمود محمد الطناحي، المكتبة الإسلامية، القاهرة، ودار الفكر، ط2، 1979م.
-
أحمد بن حنبل، ت241هـ، المسند، دار صادر، بيروت، لبنان، بلا تاريخ.
-
إسماعيل حقي، البروسوي، ت 1137هـ، تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، اختصار: محمد علي الصابوني، دمشق، دار القلم، ط2، 989م.
-
الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب، ت 502هـ، المفردات في غريب القرآن، بيروت، دار المعرفة، ط4، 2005م.
-
البخاري، محمد بن إسماعيل، ت 256 هـ، الجامع المسند الصحيح، بيت الأفكار الدولية، الرياض، ط1، 1998م.
-
بشار عواد معروف وآخرون، المسند الجامع، دار الجيل، بيروت، ط1، 1993م.
-
البغوي، الحسين بن مسعود ت 516هـ، شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1400هـ.
-
البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، ت 516هـ، معالم التنزيل، تحقيق: محمد عبد الله النمر، دار طيبة للنشر، ط4، 1997م.
-
البقاعي، برهان الدين أبو الحسين إبراهيم بن عمر، ت 885هـ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، ت 279هـ، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، تحقيق: د. بشار عواد معروف، دار الجيل، بيروت، ط2، 1998م.
-
ابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي، ت792هـ، التسهيل لعلوم التنزيل، بيروت، دارالفكر، دون تاريخ.
-
ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي، ت 597هـ، زاد المسير في علم التفسير، بيروت، دار الفكر، ط1، 1987م.
-
الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه النيسابوري، ت 405هـ، المستدرك على الصحيحين، مكتبة الجندي، مصور بلا تاريخ.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت354هـ، صحيح ابن حبان، بترتيب ابن بلبان، علاء الدين علي، ت 739هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1993م.
-
ابن حبان، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت 354هـ، الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند، ط1، 1979م.
-
ابن حجر العسقلاني، ت852هـ، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محب الدين الخطيب، دار السلام، مصر، ودار الفيحاء، دمشق، ط 1، 1997م.
-
ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، ط 4، 1992م.
-
ابن خزيمة، أبو بكر محمد ابن إسحاق، ت311هـ، صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1، 1975.
-
حسنين محمد مخلوف، صفوة البيان لمعاني لقرآن، نشر دولة الإمارات ووزارة الأوقاف، 1981م.
-
الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم، ت 725هـ، لباب التأويل، تحقيق: عبد السلام شاهين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1995م.
-
الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن البغدادي، سنن الدارقطني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ– 1966م.
-
الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، ت 255هـ، السنن، تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، المدينة المنورة، 1966م.
-
أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ت275هـ، السنن، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، بدون تاريخ.
-
الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمدبن عثمان (ت748)، ميزان الإعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت ط1، 1963.
-
الرازي، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، ت 327هـ، الجرح والتعديل، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1953م.
-
الرازي، محمد فخر الدين، ت 604هـ، التفسير الكبير، بيروت، دار الفكر، 1978م.
-
الزمخشري، أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر، ت 538هـ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ.
-
أبو السعود، محمد بن محمد أبو السعود، ت 982هـ، تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث، بيروت.
-
سعيد حوى، ت 1989م، الأساس في التفسير، القاهرة، دار السلام، ط5، 1999م.
-
سعيد بن منصور، ت 227هـ، سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار العصيمي، الرياض، ط1، 1414هـ.
-
سيد قطب، ت 1966م، في ظلال القرآن، بيروت، دار الشروق، ط34، 2004م.
-
السيوطي، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين، الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م.
-
ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، ت 643هـ، علوم الحديث، أو مقدمة ابن الصلاح، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1984م.
-
الطاهر، ابن عاشور، معاصر، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية، 1984م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف العراقية، ط1، 1979م.
-
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، ت 360هـ، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ.
-
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310هـ، جامع البيان في تفسير القرآن، القاهرة، دار الحديث، 1987م.
-
القاسمي، جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل، تحقيق: هشام البخاري، مؤسسة التاريخ العربي.
-
القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1988.
-
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي، ت774هـ، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1987م.
-
ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، 273هـ، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، إحياء التراث العربي، بيروت، 1975م.
-
مالك بن أنس، أبو عبد الله، ت 179هـ، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
-
محمد علي الصابوني، معاصر، صفوة التفاسير، بيروت، دار القرآن الكريم، ط4، 1981م.
-
محمد علي الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ط2، 2001م.
-
مسلم بن الحجاج، أبو الحجاج القشيري، ت261هـ، صحيح مسلم، دار ابن حزم، بيروت، ودار المغني، الرياض، ط 1، 1998م.
-
ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، ت711هـ، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968م.
-
النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت303هـ، السنن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1930م.
-
النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد، ت 710 هـ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، بيروت، دار الفكر، دون تاريخ.
-
أبو نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت 430هـ، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، مصور عن مكتبة الخانجي والسعادة، مصر، 1938م.
-
نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر، دمشق، ط 3، 1981م.
-
النووي، محيي الدين يحيى بن شرف، ت 676 هـ، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1984م.
-
وهبة الزحيلي، معاصر، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دار الفكر، بيروت ودمشق، ط1، 1991م.