شذرات من حياة العلامة الشيخ سعيد حوّى
بقلم الدكتور احمد جواد
اللهم لك الحمد ، وبك المستعان , عليك التكلان
, ولا حول ولا قوّة غلا بالله العلي العظيم ، واصلى وأسلم على سيد الأولين
والآخرين ، سيدنا رسول رب العالمين وعلى آله ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين وبعد .
كنت السواد لمقلتي فبكى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت فعليك كنت احاذر
ما تلقاه إلا والبشر يتهلل من وجهه المضيء ،
تعلوه مهابة ووقار يفتر ثغره دوما عن ابتسامة آسرة ، خفيف اللحية واسع العينين يشع
منهما نور يتغلغل في حنايا محدثة حتى لكأنك تتلمسه في الفؤاد فيبث فيه الروح
والإيمان جسيما وسيما جهوري الصوت وافر العقل واسع العلم (وزاده بسطة في العلم والجسم) ما أروعه محدثا وما
أبلغه خطيبا وما أكرمه مستمعا لقد كان يجيد الاستماع كما كان يجيد التحدث .
إذا تكلم تدفق سلسال من عذب الحديث كأنه الشهد
ينظم أفكاره وينقلها بالأرقام ويجمع بين أولها وأخرها حتى كأنه ينسج أمامك لوحة
موشاة دقيقة التكوين رقيقة الحواشي . أو كالدر أنتظم في عقدٍ يتلألأ من الحسن
والترتيب . أبا محمد..طبت حياً وطبت ميتاً الأرامل والأيتام ، اتخذت من نفسك كهفاً
تؤويهم وتواسيهم وتلتهب أحشاؤك حرقة عليهم .. كان همك أن تصل الرحم وتلبي تلبي
حاجة ذوى الحاجات وتمسح على رؤوس الأيتام وأن ترى البسمة علت وجوه الضعفاء ، فلا
يقر لك قرار ولا يهدأ لك بال حتى تنفق ما .لديك في سبيل الله أو يتفتت ذلك الكبد
وينهد ذلك الجسد ويقف الدم في العروق متلهفاً متطلعاً كيف تأسو الجراح وتسد السغب
وتزيح الهم عن القلوب كأنهم أخذوا عليك العهود والمواثيق بل أخذتها من نفسك على أن
تشقى ليسعدوا وأن تتعب ليرتاحوا حتى أنهك المرض وصرت طريح الفراش وذهبت نفسك حسرات
.
أبا
محمد عرفتك منذ أكثر من ثلث قرن عندما كنا في ريعان الشباب وبداية الطريق فاستقر
حبك في الفؤاد ونما مع الأيام وأني لاحتسبه عند رب العزة أن يبقى كما كان خالصاً
لوجه الكريم فتشملنا العناية الإلهية ويظلنا عرش ربنا كما اخبر بذلك نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم .
ترني
ما لذي سأتحدث به عنك .....؟
1 ــ
فناؤك في الدعوة :
مذ عرفتها في جامع النورى والتحقت بركبها
فأخذت عليك مجامع نفسك ونذرت لها كل أحوالك وأوقاتك صادقاً محتسباً لا تبالي بما
أصابك من أجل نصرتها وعلو كلمتها من ضرٍ وأذى أو سجنٍ أو اضطهاد أو اغتراب . أم
أتحدث عن شمائلك التي حباك الله بها وصقلتها بتمثلك أخلاق النبي صلىّ الله عليه
وسلم ..حتى احبك كل التقى بك وتعرف عليك ..وكذلك إذا احب الله عبدا .. كتب له
القبول في الارض .
2ـ أتحدث عن زهدك ؟
فكل من خالطك يعرف باليقين أن الدنيا أصابها
الصغار والاحتقار بترفعك عليها واذ بارك عنها فاستوى دينارها وقنطارها , قليلها
وكثيرها ,حلوها مرها ,لم تغير من أسلوب حياتك لا عند إقبالها ولا يوم إدبارها تأخذ
منها الكفاف وما يستر الحال والباقي تنفقه في سبيل الله وإكرام الضيفان وأخذت بهذه
العزيمة نفسك ومنزلك وأهل بيتك .
3 ــ أم عن عملك .........
فاستميحك عذرا سأدع ذلك لاقرانك من العلماء
... كي يقوموا مسيرتك العلمية ويقدرونك قدرك . يكفيك فجراً إن سخرت علمك لخدمة
دعوة الله تعريفاً وتوضيحاً وتفصيلاً وتخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً فكنت الفذ الذي
لا يجاري في مضماره والفارس الذي لا يشق
له غبار. ترسمت في ذلك خطأ الإمام الشهيد البنأ رحمه الله ورضي عنه في منهجه وتفكيره
وهديه . شرحت ما اجل فصلت ما عمم وأكدت ما أراد تأكيده وناهش ما كان عليه منه نهج
قويم وطريق مستقيم. وأحطته ذلك بسياج الشريعة الغراء الملتزمة بكاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم .. وضعت الأساس في التفسير والسنة وشيدت البناء بالأصول
الأربعة .. الله جل جلاله والرسول صلى
الله عليه وسلم و الإسلام و جند الله . وزينت البناء بالمدخل والافاق .ثم نبضت
الحياة واسابت اللطائف والارواح بتربيتا الروحية والمستخلص .
ابا محمد ليوف حقك العلماء من التعريف بغزارة
علمك وواسع اطلاعك وحدة ذكائك ورجاحة عقلك .فقد اخذت من ذلك بحظ وافر ..تحفظ كتاب
الله في ثلاثة اشهر . الم يكن نهمك للعلم لا ينتهي ؟ . . الم تطلع على تراثا الخالد تتفهمه وتهضمه . وعلى ثقاة عصرك بمختلف اشكالها فاستوعبتها
وسبرت اغوارها أكثر من اهلها . فلم تغلق نفسك في ردهات الماضي ولا جرفك تيار العصر
فكنت الجسر القوي الذي يصل الحاضر بالماضي تمسكك بالشريعة والعلوم الحديثة بكتا
يديك بفكر مستنير وعقل مستوعب سليم واساس من الشرع متين فأثبت للجميع كيف يكون
العالم متمسكا بدينه مطبقا شريعة ربه مثمثلا سنة نبيه عالما بزمانه فاهما لعلوم
عصره وفلسفته مسخرا كل ما هو نافع لدفع عجلة التقدم البشري والازدهار الانساني ،
كي تعود الدنيا على الحضارة الصحيحة التي تقوم على أساس من الحرية الحقيقية
والتكريم لبني البشر . تطبيقا لتعاليم الإسلام العظيم الذي جاء به رسولنا الكريم
صلى الله عليه وسلم من رب العالمين .
4- ذكاؤه وقوة حجته:
كثير من العلماء على سعة علمهم وكثرة اطلاعهم
لا يجيدون نقل المعلومة للسامع أو المتعلم . لكن ابا محمد رحمه الله وادخله فسيح
جناته كان عبقريا في نقل ما يريد من علم إلى تلامذته ومريديه أو سامعيه بل بشهادة
الجميع .. الموافق منهم له بالرأي أو المخالف انه إذا أراد أن يبرهن على أمر
يعتقده لم يدع لذي حجة حجة ولا لذي راي كلاما . وكانت القناعة بما أراد وإذا أراد
خلاف ذلك مما هو أفضل وأسلم لم يعجزه بيان ولا أجهده برهان . ولا غرابة في ذلك
(يزرق من يشاء بغير حساب) .. قيل أن الإمام ابو حنيفة لو أراد أن يبرهن على أن هذه
السارية ذهبا لفعل ذلك .
5- مرحلة التصوف :
ابا محمد الأخ الحبيب ... نشأت في هذه الدعوة
وترعرعت فيها واشتد عودك ورحت تنهل من مناهل المعرفة مما تراه ضروريا لشق الطريق
الحز في دعوة الناس إلى الإسلام .. فوجدت انه لا مناص من التحليق فوق المادة بكل
اصنافها وأشكالها فقررت الانسحاب مؤقتا للتخلية من كدر الحياة وشوائبها والتحلي
بالأخلاق النبوية الرفيعة لتقوي الروح وتصقل صفحة القلب بذكر الله فيطمئن ثم تزكو
النفس وتشحذ الهمة وتخرج الى الناس اشد مضاء واقوى عزيمة واكثر تأثيرا واصبر على
تبعات الطريق . وذلك شان السابقين من المصلحين والعلماء العاملين كالإمام الغزالي
والشيخ العالم الرباني عبد القادر الجيلاني عليهم رحمة الله ورضوانه وكنت بذلك
موضع نضر شيخنا العلامة شيخ حماة ومربيها وسيدها ابو المحامد سيدي الشيخ محمد
الحامد رحمه الله وطيب ثراه .. فلما آن الأوان واقتضت المصلحة العودة الى المصاولة
والنزال وكانت البلاد على ابواب الانتخابات العامة وقف الشيخ منك موقف الحزم يوجهك
الى الميدان الطبيعي لوجودك فقال لك : (يا سعيد فرض عين عليك أن تعمل مع اخوانك )
وكان الامتثال للأمر طائعا دون تردد .
6- طريقته في التربية :
والشيخ سعيد رحمه الله وأكرم مثواه كما ترى
وارث محمدي وعالم رباني يرى أن منطلق التربية هو المسجد.. فهناك المصنع الذي تصنع
فيه اللبنات التي يشيد منها بنيان المجتمع ، وهناك المعهد الذي يتخرج منه الدعاة الى الله , وهو المدرسة التي
يتربى ويتعلم فيها المسلم احكام دينه ومبادئ دعوته وينطلق الى الناس بعزيمة الرجال
وإقدام الأبطال ونفسية المصلحين الكبار .. لترميم ما هدمته المبادئ الفاسدة وإقامة
مجتمع الخير والفضيلة . لهذا كله كانت فكرة مدارس الربانية منطلقا للدعوة ورافدا
عظيما لها اقتداء بسنة رسولا الله صلى الله عليه وسلم الذي بدأ دعوته من المسجد
واول عمل قام به في المدينة بعد الهجرة بناء المسجد (لمسجد اسس على التقوى من أول
يوم أحق أن تقوم فيه) .
وإن كان البعض قد أساء فهممها فها هو الإمام
الشهيد يبدأ عمله في الإسماعيلية بتشييد المسجد ومدارس حراء .
وكأني بك يا أبا محمد تنظر إلى غراسك الذين
تعهدتهم بالرعاية والسقاية والتربية قد اشتد عودها وأتت أكلها وحملت الأمانة بصدق
وإخلاص تدك عروش الطغاة وتنشر الحب والسلام في أرجاء الأرض جميعها .
فلازالت كلماتك ترن بمسامعي بكل ما في المسلم من اعتزاز بدينه واستعلاء
بدعوته واطمئنان لسلامة سيره (نحن ولا فخر ورثة البنا منهجا وتفكيرا) .
7- تواضعه ورأيه في الشورى :
كان الشيخ رحمه الله ونور ضريحه متواضعا لين
العريكة دمث الأخلاق يعيش مع اخوانه كواحد منهم يقوم على خدمتهم وقضاء حوائجهم .
كثير الاستشارة لهم ، يسأل صغيرهم وكبيرهم عن جلائل ما يشغله عساه يجد صوابا يجريه
الله على ألسنتهم فيصب به الحق . وكان
رأيه أن الشورى ملزمة لتعيس الأمة حياة جماعية لا ينفرد فيها انسان برايه ولا
يهيمن عليها بسلطانه مهما كانتقيمته العلمية والاجتماعية فان يد الله مع الجماعة .
اذكر انه قام بزيارة بعض اخوانه بعد خروجه من السجن في بعض البلاد القى خلالها
العديد من المحاضرات العلمية والدعوية . ثم أراد القفول عائدا الى ارض الوطن
واستقر الرأي لدى محبيه على عدم العودة
لاحتمالات عدة ايسرها أن يعاد الى المعتقل مرة اخرى فاصر على رأيه ثم نزل متألما
لما عزم عليه اخوانه ملتزما بقرارهم مسلما امره الى الله تعالى كي يفتح صفحة جديدة
من حياته بعد الهجرة .
8- سلامة صدره :
عاش الشيخ رحمه الله حياته مع اخوانه ومع
الناس على شتى اصنافهم . وطبيعي أن يتفق أو يختلف مع غيره في بعض الأراء أو
المواقف وانقسم الناس فيه بين محب وبين مخاصم معاند لا يفوت فرصة للنيل منه أو
الكيد له . لكنني في حدود ما اعلم وهذه شهادة اما الله . ما وجدته يحمل غلا ولا
حقدا على احد بل يؤول المخالفة ويسامحه واذا لقيه تبسم واستبشر واعتذر ليستل سخيمة
قلبه ويحوله الى المودة والصفاء مما دفع بعض الناس أن تفهمه فهما معكوسا وتقول :
لقد تاب الشيخ عن بعض كتبه وهذه مغالطة كبيره واساءة بالغة له ولتراثه العلمي
الزاخر . ولا ندعي العصمة لكتاب إلا لكتاب الله وما صح على بنينا صلى الله عليه
وسلم .. لكن يشهد أهل العلم بسلامة منهجه وصحة ما دعا اليه وكتب .
9- جهاده وتضحيته :
تميز الشيخ ابو محمد بالشجاعة والجراة في الحق
واذا كان الجهاد في سبيل الله دون خوف من لوم اللائمين كما قسمه في بعض كتبه انواع
. أولا – الجهاد باللسان . ثانيا – الجهاد التعليمي . ثالثا – الجهاد المالي .
رابعا – الجهاد السياسي . خامسا- الجهاد باليد والنفس . فان الشيخ جاهد بها جميعا
. فقد جاهد خطيبا ومحاضرا بلسانه كما جاهد بقلمه . وما ادخر من ماله فلسا ينفق في
سبيل الله ، كما كانت له المواقف الرائعة الجريئة امام الحكام . ولقد حمل السلاح
مدافعا عن دينه وعقيدته .
أذكره عام 1956 يوم نفذ حكم الإعدام في مصر
بالشهداء الستة حيث قاد مظاهرات الطلاب في ثانويات ومدارس حماة وسار بها حتى وقف
على شرفة دار الحكومة. وألقى كلمة نارية شجب فيها الجريمة المنكرة وأجج حماس
الجماهير محرضاً للثورة على الطغاة القتلة بقوله :
أن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي قذيفة من حديد
وفي عام 1973 عندما قرر فرعون هذا الزمان أن
يبعث بدستور البلاد في سورية ويعلنه ويتجاهل 9% من شعبها الذي يدين بالإسلام فلغي بجرة قلم دين الدولة ودين
رئيسها وليتربع على جماجم الناس وأشلاء الشعب الممزقة ويمرغ مقدساته بالرغام ويغزو
عقائد الناشئة بالإلحاد وأخلاقهم بالانحلال .غضبت يا أبا لربك غضبة عمرية ، وبعثت
همم العلماء في أنحاء سوريا ، فتجاوبوا مع
صرخاتك المدوية ذودا عن الدين وحفاظا على عقيدة المسلمين وكانوا بحق علماء اجلاء .
قالوا كلمة الحق ولم يخشوا في الله لومة لائم .. وهكذا الشام لا تنام ولا تستنيم
ولا تخضع لجبار مهما طغى وتجبر ولا لطاغوت مهما بغى واستكبر ولن يغلب منافقوها
مؤمنيها . وإن غدا لناظره قريب .. وكان جزاؤك يومها السجن أو بالاحرى عرين الدعاة
ولك الاسوة الحسنه بشيخ الاسلام ابن تيمية والعز بن عبدالسلام والرعيل الأول من
رواد الدعوة في سجون مصر وربضت في عرينك هذا خمس سنوات لم ينالوا فيها من صمودك ولا
شموخك لم تحن ذلك هامة ، ولا فلت لك عزيمة حتى اذن الله لك بالفرج وعدت عزيزا
كريما الى مكان الريادة والصدارة والناس يومها تتميز غيظا وتتأجج غضبا لربها
ودينها وقد تهيات لتصب حممها على رؤوس الطغاة . وهي تستقبل عيد مولد سيد الكائنات
.. ولا اظن انهم اخرجوك من السجن الا لتمتص سلطة البغي نقمة الشعب وغضبته . فوقفت
على منبر جامع الشيخ محمد الحامد رحمه الله وقدس روحه الطاهرة وقد زحفت جماهير
الناس واكتظ بهم المسجد والشوارع لتلقي بيانك الشهير الذي حفظه الناس عنك والذي
اكدت فيه العزة الإيمانية ، وهدأت خواطر
الناس فقلت : أن هذه البلدة لها منصفات الخير والخلال الحميدة والشهامة
والاريحية ، ما أن تعامل معا الحاكم
بالحسنى انقادت معه الى سبيل الخير والرشاد .
وان وقف في وجهها ونال من دينها ومقدساتها داسته بالأقدام. ولا تبالي بان
وقعت على الموت ام وقع الموت عليها . وناشدت الناس ابو يفوتوا على السلطة درائع
البطش وهدم .. فكنت رحمك الله سيد الموقف وبطله الذي لا ينازع . وكان الشيخ رحمه
الله بعد الهجرة من القلائل الذين اجادوا توجيه المعركة مع اخوانه في الداخل ضد
العدو الحاقد فاخذت عليه قلبه ولبه ويموه وليله ، كمن ينام على جمر الفضى ، لا
يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى إذا اصر الطغاة علىهدم حماة وابادة اهلها دون
تفريق بين رجل وامرأة وشاب وشيخ أو طفل رضيع . فسلطوا عليها راجمات الصواريخ
والمدافع والثقيلة والطائرات . بل جمعوا النساء والأطفال والشيوخ فاشعلوا فيهم
النار فكانت مجازر وكانت مذابح لم يشهد لها التاريخ مثالا ثم خربوا المدينة
المؤمنة المصابرة على رؤوس الامنين ظلما وبغيا .. الا أن يقولوا ربنا الله .
هناك ثار الايمان في قلبه واعصابه وغلى الدم
في عروقه وبذل ما وسعه البذل لينجدها بكل غال وثمين ولكن هيهات .. حال دونها سدود
وحدود ليشهد مأساة العصر في ذبح حماة واهلها بيد الباطنية الحاقدة وكان لهذا الحدث
الرهيب اكبر الاثر على صحته ، فراح يجرجر الالام والاحزان . وهو مشغول بمواساة
المصاب وتلبية حاجة المحتاج لا ينفك يعد العدة ليوم جديد ينتصر الله فيه للحق من
الباطل وللمظلوم من الظالم (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) .
وشيخنا رحمه الله : يحلى بصفات الفتوة
والشهامة ونكران الذات والفدائية . كان همه أن تبقى الدعوة صامدة متماسكة كي تتابع
مسيرتها ، وتنطلق من كبوتها وتعود الى الميدان . كأقوى ما تكون عليه حتى تناجز
عدوها وتثأر لربها وعقيدتها . ولذا آثر أن يتحمل مسؤولة كل النتائج التي ترتبت على
خسارة المعركة . وقد سالته لم فعلت ذلك ؟ قال آثرت أن يسقط سعيد وتعيش الجماعة كي
تمضي بكل زخمها وقوتها .
قلت : هذه فدائية وأراك أحيانا غير محمد فيها
. قال : ما ينبغي الا هذا .. وإلا.. لا آمن على استمرارية العمل قلت : اسأل الله أن يتقبل منك وان يسلم .
10- مواقفه ونظرته على السياسة :
كانت مواقف الشيخ رحمه الله ونظرته إلى
السياسة من مفهوم شرعي ومنطلق دعوى ملتزم لا يحرج عن توجيهات الدعوة المنبثقة عن
الإسلام ، والمواقف الموحدة التي يتفق عليها أهل الحل والعقد . وقد كان بحق منظراً
بارعاً وسياسياً محنكاً فكم أجاب أحذف الصحفيين عن أسئلتهم المتعددة المحرجة ،
فكان العلم الذي يشار إليه بالبنان والرائد الذي لا يكذب الناس صدع بالحق وأوضح ما
ألح الناس أن يعرفوه من رأي الدعاة إلى الله ومواقفهم تجاه العديد من الأحداث
المستجدة ولقد كان رائعاً عندما صرح بأننا كدعاة أو كجماعة أو حتى كدولة {إذا أذن
الله بإقامة دولة الإسلام في الأرض} لا تتعامل مع الأخرين أياً كانوا على أساس
مبادئ بمصالح أو مصالح بمبادئ ولكن نتعامل معهم على أساس مصالح بمصالح ومن أراد
المزيد فاليرجع إلى صحيفة اللواء الاردنية الصادرة بتاريخ 19/ 8/ 987م وأما عن
رأيه فيما يسمونه بالتطرف والإرهاب وما هو حكم الشرع في ذلك فلقد كان له في ذلك
جولة موفقة من اراد تفاصيلها فليرجع الى مجلة المصور المصرية الصادره بتاريخ 1986
م في المقابلة الصحفية التي اجرتها معه الصحيفة في القاهرة قال ما معناه : لا يقر
الاسلام التطرف ولا الإرهاب باي شكل من الأشكال لان الله وصف عباده المؤمنين بقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء
على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
اما عن الإرهاب : يكفي أن شعار امة الإسلام
السلام يقول الحق جل وعلا : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) وتحية أهل
الإسلام السلام . واسم الحق تعالى هو السلام . اللهم انت السلام ومنك السلام وإليك
يعود السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام .
ولكن يتساءل الشيخ رحمه الله : من بدأ
بالإرهاب المسلمون أم اعداؤهم؟ ومن اتخذ من التطرف مذهبا امسلمون ام غيرهم ؟ يحدث
التاريخ أن أهل الكفر والعدوان وخاصة في عصرنا الحديث هم الذين بدأوا المسلمين
بالإرهاب والقتل والعسف واحتلال الاوطان وتعطيل شريعة الله .. فكان على المسلمين كل المسلمين أن يدفعوا عن
انفسهم ودينهم واوطانهم هجمة الكفر والإلحاد والصهيونية الشرسة التي ارادوا بها
اذلالهم وفناءهم لذا في مثل هذا الموطن نقول
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) .
والناس إن ظلموا البرها واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
11- موقفه من الخلاف :
والشيخ رحمه الله تعالى نشأ وانتهى وهو صاحب
مبدأ لا يساوم عليه ولا يحيد عنه حتى مع أقرب المقربين منه وكان موقفه من الخلاف
الذي أدى بالجماعة إلى الإنقسام نابعا من
تمسكه بالمبدأ الذي آمن به والنظام الذي يحكم الجماعة . ما كان موقف هوى ولا حظوظ
نفس . وهو الذي يدرك خطورة مرضه وانه مقبل على رب كريم . وقد لخص رأيه فيه بكتابة
(هذه شهادتي وهذه تجربتي) . وما اروعه عندما قال لا يمكن أن نجبر كل العاملين في
الحقل الإسلامي على اتخاذ موقف واحد أو انتهاج استراتيجيه واحدة فلكل اجتهاده ولكن
إن تعذر الموقف الواحد والإستراتيجيه الواحدة تجاه الهدف الواحد . فلا يتعذر
التعاون والتنسيق بين المسلمين سواء كانوا افرادا مع جماعات أو جماعات مع افراد أو
حكومات مع جماعات أو جماعات مع حكومات . حتى يأذن الله تعالى ببلوغ الهدف وحدة
الأمة .
12- المرحلة الأخيرة :
تكاثرت السهام وازدادت ألالام والحت العلة على
القلب الكبير فكتب الله عليه أن يصاب بانفصال الشبكية ، وهو في زيارة عمل للكنانة
قام فيها بعدد كبير من المحاضرات والمقابلات الصحفية والشخصية . وقابل فيها صحبة
الأستاذ المراقب فضيلة المرشد ووضعوا بين يديه قضية الجماعة وما آلت وسألوه
المبادرة واحالة الملف على القضاء لأنه الفيصل الوحيد ( وإن تنازعتم في شيء فردوه
على الله وإلى الرسول).
وطلب له اخوانه الطب عند احذق الأطباء وارقى
المستشفيات ولكن فات الأوان ودون جدوى وهكذا مشيئة الله في عباده المخلصين .. اشد
الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وثواب الصبر على هاب الكريمتين
هو الجنة . وناهيك به من ابتلاء لعبد حاسة البصر عنده الوسيلة الأولى للكتابة
والتأليف ورغم ذلك تابع مسيرته العلمية بفضل الله تعالى وبما انعم عليه من أنجال
كرام علماء اوفياء حفظهم الله ورعاهم وسدد خطاهم وجعلهم خير خلف لخير سلف .
لقد كان رحمه الله صابرا محتسبا ما أحسبني ولا
غيري سمع منه إلا الحمد واثناء على ربه وإذا زاره زائر حدثه بكل شيء إلا بما هو
فيه كأن الأمر لا يعنيه .
وتتابعت النكسات الصحية ودخول المستشفى إلى أن
دخل في الغيبوبة الأخيرة التي استمرت من 14/12/1988 حتى 9/3/1989 حيث وافاه الأجل
رحمه الله في المستشفى الإسلامي بعمان في الساعة الثانية عشر وعشرين دقيقة من يوم
الخميس الموافق 1/ شعبان 1409 هـ .
13- كرامات لا تخفى :
لئن كانت الإستقامة عين الكرامة . لقد كنت يا
أخي مستقيما على أمر الله نظيف السيرة طاهر السريرة لم يجد من خاصموك عليك سبيلا
للدس أو الطعن فارتدوا أمام استمساكك بشرع الله وتجردك عن دنيا الناس خائبين ويأبى
الله إلا أن تظهر لك كرامة لا يد لك فيها ولا سعي ولكنه الروح الذي تعلق بالله
وانطبع بحبه والألتزام بشرعه . حدثني أحد اخواني من الأطباء العاملين في المستشفى
الإسلامي نقلا عن استشاري العصبية الدكتور عبدالسلام جابر . ملاحظته التالية :
إن الشي رحمه الله من وجهة نظر الطب فان العديد من مراكز الدماغ قد توقف وعندما اضطر
الأطباء إلى اجراء عملية جراحية لتحويل التنفس عن طريق القصبة الهوائية . كان على
جهاز التمريض أن يقوم بتنظيف فتحة التنفس الاصطناعية باستمرار من الإفرازات وهنا
يكمن السر .. فما من مرة تتقدم إحدى الممرضات لهذه العملية إلا ويشيخ الشيخ رحمه
الله بوجهه إلى الجانب الأخر لكنه يستسلم
للمرض من الرجال حتى اعادوها عشرات المرات ولم تخل مرة واحدة .
14- الجنازة والتعزية :
اجتهد احمد الإخوة أن يجهز الشيخ رحمه الله
ويدفن بعد قليل من الوفاة ونسى سامحه الله .. أن له اخوة في اصقاع شتى يعز عليهم
أن لا يشاركوا في تشييعه والسير في جنازته واستدرك بقية اخوانه الأمر ونقلت اذاعة
المملكة الأردنية نبا الوفاة في نفس اليوم الخميس في نشرة الأنباء المسائية وطلعت
الصحف الرسمية بالنبأ صبيحة اليوم التالي معلنة أن الصلاة عليه ستكون بعد صلاة
الجمعة في جامع الفيحاء في حي الشميساني .
وخرج وخرج الموكب المهيب من جامع الفيحاء على
الأكف قد تعلقت به الأبصار والأرواح يقطع شوارع عمان كأنه يودع البلد الذي استضافه
بعد الهجرة . واذا بالجموع تتجه نحو المقبرة من كل حدب وصوب من بقية المساجد
ليتوافى حشدها عند مثوى الشيخ الأخير . قام الدكتور على الفقير على القبر خطيبا في
الناس وكان من قبل قد صلى عليه بعد خطبة الجمعة وتحدث عن العلم وفضل العلماء
وخسارة الأمة بفقد علمائها . واشاد بالفقيد وآثاره العلمية التي طبقت الأفاق . وان
مداد العلماء يوزن عند الله بدماء الشهداء . وها هو يرقد في بلده فبلاد الشام بلده
واحدة وترحم وترحم عليه كثيرا ودعا له بالسداد ورد الجواب فجزاه الله كل خير .
وتناول الكلام عدد من الخطباء فقالوا واجادوا
وبكوا وابكوا وقد سجلت كلماتهم وقصائدهم . ثم اصطف ابناء الفقيد وذوو رحمه واخوانه
للعزاء وتزاحم الناس وفي الأفق ما يلفت الأنظار .. مضت قرابة شهرين والناس تتطلع
إلى قطر السماء ورحمو الله فقد اصاب البلاد قحط رافقه صقيع فلا انبتت زرعا ولا
ابقت ثمرا ولكن في يوم تشييع الشيخ رحمه الله وطيب ثراه ، انعقدت السماء بالغمام
ونهمل طلّ منسجم بلل الأرض وسقاها وكان بكاء السماء تجاوب مع بكاء الأرض من دون
ضراء مضرة ولا أذيؤ للناس نعم لقد بكت السماء والارض ولا زلت اذكر يوم وفاة شيخنا علامة حماة والشام محمد الحامد
قدس الله روحه ونور ضريحه كيف انعقدت غمامة فوق حماة لوحدها اهلت عليهم بتؤدة
وانسجام من لحظة خروج الموكب على الأعناق من جامع السلطان حتى تم الدفن وذلك على
اثر صوت الشيخ رحمه الله في استغاثة من استغاثاته الحارة التي كان يجأر بها على
الله في السقيا من مكبرات مئذنة الجامع عند ظهور الجنازة من باب المسجد بقوله :
(اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين إلى آخر الدعاء ويسد الفراغ من الدفن
وتسوية التراب فتحت ابواب السماء بماء منهمر وكأنه ايذان للمشيعيين بالانصراف
ليخلوا الحبيب بحبيبه والعبد مع ربه الكريم , وكذلك تشارك السماء أهل الأرض في
حزنها على فقد العلماء والأولياء . وتتابع المطر اياما ثلاثة بعد ك في عما سالت
منه أودية بقدرها واستبشر الناس برحمة الله للأرض ومن فيها ومن عليها .
جرت مراسم التعزية الرسمية في القاعة الدنيا
لجامع الفيحاء وتزاحمت الوفود والعلماء والوجهاء اياما ثلاثة تبادل الكلام فيها
عدد كبير من العلماء والدعاة والمفكرين فأشادوا بفضل العلم ومكانة العلماء وخسارة
الأمة بفقد علمائها الصادقين ومن ابرز هؤلاء الشيخ مصطفى الزرقا فقيه سوريا وبلاد
الشام والشيخ اسعد بيوض التميمي الموجه الدينى لانتفاضة الشعب الفلسطيني والاستاذ
كامل الشريف والاستاذ يوسف العظم وغيره
وغيرهم وختمت التعزية بكلمة للأستاذ ديب الجاجي الأخ الوفي والصديق الحميم للشيخ
رحمه الله . ابى إلا أن يكون كعهده وفيا لرفيق دربه وصاحب سره . فقال رغم حالته
الصحية المجهدة واجاد . فكانت كلماته نبضات قلب وومضات روح اسالت المدامع شكر فيها
كل من تقدم بالمواساة من أهل واخوان واحباب ووجه شكره للاردن بعامه على ما قمه من
حفاوة واهتمام لقد سرى الخبر في العالم العربي والإسلامي فكان له وقع الصاعقة من
الأسى والحزن فصلت عليه صلاة الغائب مساجد لاهور وغيرها في باكستان ومساجد دبي
والشارقة وعزى الناس بعضهم بعضا في كل مكان وتلى اخوانه في بغداد التعازي من
الاخوة العراقيين كوفود شعبية ورسمية وطير تحالف قوى المعارضة السورية تعازيهم
برقيا على انجاله الكرام ووالده الصبور . وكذلك تلقى ذووه برقيات التعزية من
اخوانه ومحبيه والعلماء في مختلف البلاد .
وفي الختام
اخي أبا محمد : أ يها الأخ الحبيب ياشقيق
الروح ونحن نودعك لا يسعنا غلا أن نقول : أن القلب ليحزن والعين لتدمع وأنا على
فراقك يا أبا محمد يا شيخ سعيد لمحزونون . ولا نقول ألا ما يرضى ربنا لئن مضيت
ولازلت أمانيك في نصرة الإسلام ورفع رايته في بداية الطريق .. فأننا نقول : نم
قرير العين هانيء النّفس.. إن إخوانك وتلاميذك الذين عاهدوك على الدرب ونهلوا من
مناهل علمك وعرفناك ماضون في تحقيق الهدف وبلوغ ألامل مهما كانت الصعاب وتشعبت
الدروب وتفاقمت المحن واشتدت الآلام وكثرت التضحيات والخطوب حتى يفتح الله عليهم
وهو خبير الفاتحين وحتى لا تكون فتنه ويكون الدين كله لله. وعزاؤنا فك ما خلفت من
تراث غني عظيم ، ومن اولاد تربيتهم فأحسنت تربيتهم فهم بحق صورة عنك واستمرار
لعملك ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو
ولد صالح يدعو له ) .
وما كتبته وما يكتب غيري قليل من كثير لا يوفي
حقك ولا يبلغ شاوك ولكنه جهد المقل .. حرقات من قلب وافلاذ من كبد ودمع من عين ..
ستبقى ذكراك حية في القلوب وسيرتك مضيئة للدروب ودعوتك إلى الله على طريق الجهاد
المقدس ماضية إلى يوم القيامة .
وإلى أن نلقاك على حوض نبينا صلى الله عليه
وسلم , وتحت ظل عرش ربنا سبحانه وتعالى إن
شاء الله نسأل الله تعالى لنا الثبات على الحق والعزيمة على الرشد والمضي في
السبيل غير خزايا ولا مضيعين وان نرى نصرة الإسلام وعز المسلمين ونسأله تعالى
الوفاة على الإيمان والشهادة في سبيله إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
رحمك الله أبا محمد وأدخلك فسيح جناته ونور لك
ضريحك وافسح لك فيه مد بصرك واعلى معاليك إلى عليين (مع الذين انعم الله عليهم من
الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا) واخيرا هذا
حال محب إن قال فلا تعجب وإن قصر فلا يستغرب.
ولا حول ولا قوة ولا بالله وإنا لله وإنا إليه
راجعون .