يرحمك الله أبا محمد
بقلم الدكتور: عداب محمود
الحمش
قد انقطع وحي القلم . والجم البيان ، وتمتمت
رطانة اعجمية على ساحة اللسان ، وغارت الألفاظ وخسف بالمعاني ، واندفع بركان من
الدوار والذهول والنسيان.. لقد انهزمت في
مخيلتي كل فكرة ، واصطرعت في كياني كل غصة ، وانداحت العبرات ولم يكن لدى قلبي
وفكري وبياني ما يقول سوى : يرحمك الله
أبا محمد ، يرحمك الله يا شيخ سعيد ... !
إننا نعيش غفلة حقيقية عن ذواتنا وأفكارنا
ومعتقداتنا وسلوكنا، فنخطئ في هذا ونتسامح في ذاك ونأمل بتحسن الحال، ومغفرة الله،
وتسامح الآخرين..
أما أنت! فقد كانت يقظتك كاملة غير منقوصة،
يقظة في الذات فكنت فقيه البدن ويقظة في المعتقدات، فلا تداهن فيما تعتقده الصواب،
ولا تجامل على حساب العقيدة، فكنت فقيه العقل والقلب.
ويقظة في الفكر، فلا تتداخل عندك أحكام
التكليف والعقل والعادة، ولا يبعد عن نشاطك الذهني واقع المسلمين، وواقع المجتمع
الإنساني، وازدحام النوازل فكنت فقيه أمة، فقيه عصر.
ويقظة في السلوك والأخلاق، فمجلسك أكرم
المجالس، وحالك أنبل الأحوال، وتوجيهك الدائب يتناسب مع طبيعة المحادث، واستعداده
وميوله، بعيداً عن التجريح والانتقاص، حريصاً على التذكير والتشجيع وإكرام الناس،
فكنت فقيه النفس.
أي - والله – لقد كنت في هذا كله
وغيره، يقظة أتعبت الحصان الذي يحملك، والمركب الذي ينتقل بك، والمأوى الذي يحاول
جسمك السكن إليه.
يرحمك الله أبا محمد.
عرفتك قبل ربع قرن من الزمان, فانطبع في ضميري
حبك, واستقر في نفسي انك الأمل وامتد الزمان, وكبر عقلي, وازداد علمي ، وشاب مفرقي , ولم ازدد فيك الا
حبا ووفاء ... طالما اختلفت معك في وجهات
النظر, وما أكثر ما ارتفع صوتي على صوتك . ولا أحصي كم خوفتك في الله , وصارحتك
بما اراه خطأ في اجتهادك ...
ولا والله ما عنفتني يوما ـ وانت شيخي ـ ولا
صغرتني يوما على صغر شأني في نفسي ,ولا ارتفع صوتك علي مع انه المتعارف في ساحة
العلم وكانت بسمتك النقية تغسل هاجس الهوى من قلبي , ونظراتك الوادعة الواثقة تحكم
على خطئي وكلماتك المعدودة المصحوبة بدليل اجتهادك تلجم عقلي , ولو لم اوافق
اجتهادك .. بلغك أن عندي ملاحظات على كتابك (تربيتنا الروحية) , فزرتني واطلعت
عليها وشكرتني على ذلك , ولما انتهت الزيارة
، ورجعت الى الملاحظات وجدت في بعض عباراتي قسوة ومباينة لأدب التلميذ مع
الشيخ فاستحييت مع نفسي , ولم يحدث هذا عندك شيئا ..
وسألتني عن رسالة (السيرة النبوية بلغة الحب
والشعر) ولم يكن عندك اصل عنها ولا صورة . وكنت قد قرأتها في كتاب المؤتمر العالمي
الثالث للسيرة والسنة النبوية في قطر وعلقت على بعض ما جاء فيها .
فاستأذنت بتصوير الرسالة، وعليها ملاحظاتي
التي في بعضها مثل ما أسلفت عن الكتاب السابق ..
ومرت سنوات وزرتكم في عمان . فقدمت إلي مجموعة
من كتبك ومنها هذه الرسالة قائلا: إن لكم الفضل في طباعة هذه الرسالة ، التي لم
يكن لها عندي أصل ، وقد استفدت من ملاحظاتكم عليها مع أنه لم يغير شيئاً البتة مما
ذكره فيها . ولكنه الأدب الجم والخلق الرفيع ، وفقه النفس .. يرحمك الله ابا محمد
...
كنت تنظر إلى واقع حال المسلمين ، فتشعر بثقل
الواقع ، ووطأة الباطل ، وقصور أهل الحق فتضاعف الجهود ، وتقهر الجسم الكليل ،
وتجبره على احتمالك ، فكنت الأمة في كيان سعيد كنت تتطلع بالمسلمين إلى أفاق حضارة
إسلامية معاصرة يقودها ركب الإيمان والتقوى ومن هذا المنطلق كنت تصدر كتاباتك تحت
عنوان (دراسات منهجية هادفة ) اصدرتها في أربع سلسلات علمية .
كنت لا ترى الخلاف في الرأي سبباً في النفرة ،
ومدعاة خصام ، ومصدر عداوة سمعت بمرضك ، فسعيت إلى زيارتك ودار نقاش طويل في قضايا
الحركة والدعوة كنت أرى فيه خلاف ما ترى ، ولما اعتذرت إليك عن بعض الحدة في كلامي
قلت لي : إن كلامك ينزل على قلبي أحلى من العسل .
ماذا أذكر من مآثرك ، وماذا أترك ، فلا شيء
مما أذكره ، إلا وما أدعه مثله أو أحسن بيد أني أذكر لك واحدة لا أعلمها لغيرك من
علماء هذا العصر ..
حين صدر كتابك (تربيتنا الروحية) استغل بعض
الناس اجتهاداتك فيه وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، وحين التقيت بسماحة العلامة
الجليل عبد العزيز بن باز قلت له : يا سماحة الشيخ تكرموا بقراءة أي من مؤلفاتنا
وسجلوا لنا ملاحظاتكم عليها مع ما ترون صوابا مصحوبا بدليله . ونحن على استعداء
بتضمينيه في مواضعه من كتبنا. وليس الأمر كذلك فحسب ، بل أن تواضع الشيخ بلغ حدا
يندر وجود مثله بين العلماء فقد قص علي ما مضى مع الشيخ ابن باز ، واردف قائلا :
(وأنا أقول لك يا شيخ عذاب ، اقرأ كل كتبي ،
أو بعضها ، وانا على استعداد أن اصحح ما أقتنع بتصحيحه وما أرى اجتهادي فيه راجحا
، اثبت الراي الآخر في حاشية الكتاب مصحوبا بدليله ، ليختار القارئ ما يشرح الله
له صدره ..)
الشيخ سعيد حوى يقول هذا لتلميذ من تلامذته
عرفه يوم عرفه وهو ابن اربع عشرة سنة! فهل يوجد بين علمائنا اليوم من يطبق عمليا
قولة علمائنا الفقهاء:
(إن ما ذهبنا إليه هو الصواب في نظرنا .
ويحتمل الخطأ ، وما ذهب إليه مخالفونا هو الخطأ ويحتمل أن يكون هو الصواب ؟!) .
أو هل يتحقق العلماء والمفكرون والقادة قولة
الشهيد حسن البنا – رحمه الله تعالى– ونتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه )
مما يسوغ فيه الاجتهاد المفضي إلى الخلاف .
يرحمك الله أبا محمد ، وأضرع إليه أن يحشرك في
عداد النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن يجعل في ذريتك المباركة خلفا يسد
ذلك الثلم الكبير الذي أحدثه فقدك . والحمد لله رب العالمين .(1).
(1)
مجلة النذير العدد 113 ص 15.