سعيد حوّى .. الرجل الذي فقدناه
بقلم : عبدالعزيز الحاج
مصطفى
إن الذي يتصفح التاريخ الإسلامي ، والذي يرسل
نظرة متفحصة عبر حياة الامم ، يقف على كثير من المعالم البارزه ، التي تحكي حياة
رجال عظام ، امتازوا من سواهم بالبذل
والتضحية ، وقدمّوا المثل الصالح لمن سيخلفهم من اجيال متعاقبة .
وسعيد حوى واحد من اؤلئك الرجال ، الذين لا
يتوقف تأثيرهم ، عند حدود معينة ، وإنما يتعدّى إلى ما هو ابعد ، فالمسافر اليوم
إلى اندونيسية أو الهند أو الباكستان ، أو أي من البلاد الإسلامية ، لا يعدم وهو
يزور المكتبات العامة والخاصة ، أن يجد كتبه ومؤلفاته ، وقد اخذت مكانها هناك .
وقضية وصول كتبه ومؤلفاته إلى تلك الأصقاع
النائية من بلاد المسلمين مؤشر واضح على تأثير الشيخ ، وعلى أثره في الفكر
الإسلامي ، وفي الحركة الإسلامية التي هي من صدى ذلك الفكر . إذ أن بحث الشيخ
المنهجي وجرأته في معالجة مشكلات العصر واحتياجاته جعله يظهر على الساحة الإسلامية
كأحد المجدين في هذا العصر .
فكتبه في – الأصول والأساس والبناء – تبرز ذلك
بوضوح ، وكذلك رسائله –كي لا نمضي بعيدا عن احتياجات العصر – التي بلغت احدى
عَشْرَة رسالة ، وتناولت جوانب مهمة من حياة الإنسان المعاصر ، ومن علاقته بربه في
زحمة الحياة ، وفي عباب مشكلاتها المعقدة ، التي اوجب الجانب الشرعي منها البحث
والدرس والمتابعة والقول الفصل ، فيما كثر دخنه وغبنه ، وصعب فيه التمييز بين
الأسود والأبيض .
وايا تناولنا منها يظهر لنا حجم ذلك التأثير ،
واهميته من الناحية التربية والدعوية والسياسية .
فكتب الأصول الثلاثة ــ الله والرسول الإسلام
ــ جلت كثيرا من الغموض الذي كان يسيطر على أذهان الناشئة. وقدمت لهم المعرفة
بالله وبرسوله بادين الإسلامي الحنيف بُأسلوب مبسط وبرؤية فقهية بعيدة عن المعاظلة
والتعقيد ومفهومه من قبل المسلم ، الذي لا يتجاوز سقفه التعليمي المرحلة
الابتدائية أو الإعدادية ويسرت لغير العرب ترجمة ذلك وفهمه واستيعابه .
أما كتبه في الأساس ــ الأساس في التفسير والأساس في السنة ، والأساس في
قواعد المعرفة والفهم ــ فلم تكن مجرّد عمل مكرور طالما تناول المسلمون بالدراسة
والبحث ، وإنما كانت ذات طابع اجتهادي ، وذات رؤية خاصة امتاز بها رحمة الله من
سواه . فقد كان يرسل بصراً حاداً في المعاني العميقة التي تتضمنها الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية ، ويستنبط المعاني الجليلة ، التي تصلح أن تكون أساساً لرؤية
صحيحة أو لتفكير سليم ، ولهذا أطلق عليها اسم الاساس لقناعته أن بناء الشخصية
الاسلامية ، لا بد أن يكون أساسا لبناء الجماعة الاسلامية ، التي من اشراط بنائها
، الفهم الصحيح والمعرفة الواسعة بفكر الجماعة ، وبما يقوم عليه من قواعد واصول ،
وأسس ثابتة ، ذات صفات منهجية ، هي من اشراط التنظيم السليم ومن هذا المنطلق ومن
رغبته في ارساء القواعد على أسس سليمة ، وتكوين الأخ تكوينا صحيحا ، كرّت دراساته،
وتتابعت مؤلفاته ، فكانت سلسلة كي لا نمضي بعيدا عن احتياجات العصر , الالتفاته
الجادة الذكية ، التي لم تترك الشباب جانبا ، ولم تشغل في قضايا اصولية أو تنظيمية
صرف ولم تتقلص في حدود ضيقة شأن اخرين من الكتاب والدعاة وانما اشتغلت بقضايا
العصر ، واشبعتها بحثا ودراسة ، واخذت بالقياس ، واستنبطت ما يوائم بين الرؤية
الشرعية والواقعية السياسية والقضايا التنظيمية والمسائل الحياتية التي هي من
متطلبات الشباب ومن قضاياه الملحّة وربطت
بين ذلك ربطا منهجيا متقنا .
والنظرة إلى هذه المؤلفات , وإلى حجمها الدعوي
، وقيمتها الحركية ، تجعل منه رحمه الله احد المنظرين لحركة الإخوان المسلمين في
سورية وفي غيرها من الدول الإسلامية ،
التي انتشرت فيها جماعة الإخوان . وإذا كان الإمام الشهيد هو المؤسس الأول لجماعة
الإخوان المسلمين في العالمين العربي والإسلامي وإذا كان مصطفى السباعي هو الذي
وضع لبنات التنظيم الأولى في بلاد الشام , فان الشيخ سعيد حوّى هو الذي جدّد شباب
الدعوة ، وجعل المسجد معقلا من معاقل الشباب المسلم , بما أقام فيه من دروس مسجدية
وبما قدّم من دراسات وكتابات , ومن حركة نشيطة وشخصية قدوة صحبت الشباب وكانت معهم
في كل مراحل البناء وتقدمتهم إلى المواجهة الحقيقية مع اسد فكان حظها من السجون
الأسدية ، ومن التعذيب والاضطهاد ومن الهجرة من البلاد ، ومن التشريد والغربة ،
والمعاناة والمحنة ، كحظ بقية الإخوان ممن تتلمذوا على يديه أو صاحبوه في فترات الدعوى
المختلفة, داخل سورية وخارجها .
لقد كان رحمه الله الشخصية القدوة في كل
مواقفه ، ما فترت له همّة ، ولا ضعفت له عزيمة ولا توقف له عطاء حتى في الساعات
الصعبة التي كان يعاني فيها من المرض. وكان جل همه , أن ينتصر الإسلام ، وأن يعود
إلى الحضارة الإسلامية دورها وأن تتابع عطاءها وأن تقدم للإنسانية رؤيتها وحلولها
المرتقبة .
إن كتبه (أخلاقيات وسلوكيات تتأكد في القرن
الخامس عشر الهجري ) و (منطلقات إسلامية جديدة لحضارة عالمية جديدة ) و (فلنتذكر
في عصرنا ثلاثا) تفرد امامنا رؤية واسعة
ينفرد بها دون سواه . وكذلك القول : بالنسبة لإحياء الربانية ولا جازة تخصص الدعاة
وقوانين البيت المسلم . حيث يتبوأ بها وبغيرها مكانته المرموقة بين كبار الدعاة ،
ويغدو وبحق أستاذ الجيل في هذا العصر ، وربما في العصور التي ستليه . وهذا يجعلنا
، ونحن نودّعه إلى مثواه الأخير ، نقف موقف اعتبار كبير ونرسل دمعا غزيرا ونتفجر
اسى ولوعة للخطب الجلل ، وللمصاب المروّع , الذي اودى بحياة داعية وشخصية قدوة ،
ورجل في امة يعد لها خيرا وبركة وسعيا دؤوبا ، وجهدا متواصلا وعطاء مستمرا واريحية
وكرم أخلاق , قل نظيره لدى كثير من الرجال الذين عدوا في حساب اقرانه من الإخوان
أو من غيرهم .
لقد عاش سعيد حوى عمرا قصيرا إذا ما قيس بعدد
السنين لكنه عمر حافل بالعطاء لم يتخلف عن المسئولية ولم يتنصل منها أو يتذرع
بالصعوبات أو يهرب منها ، وإنما تقدم إليها ، وتحملها بنفس راضية مطمئنة ، فكان
قائدا في كل مواقفه وكان اخا وكان معلما واستاذا وكان في سنيه الأخيرة ابا بكل ما
في هذه الكلمة من معنى .
فسلام عليه في الخالدين . وسلام عليه إلى يوم
الدين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .