بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
مقالة عن الشيخ سعيد حوى
بقلم ولده: د. محمد
مقدمة
كل الناس
يمضون، لكن فقد العالم والمفكر أوقع في النفس، وفقد الداعية والقادة أبلغ في الأثر،
وفقد المربي أكبر خسارة، وفقد الأب أدعى لمشاعر الألم والحزن، وفقد الابن فاجعة؛ فهو
فلذة الكبد وسويداء القلب، وفقد الأخ فقد السند والنصير، فكيف إذا كان الشيخ سعيد –رحمه
الله-هو كل ذلك، فكان من حقه وواجبنا تجاهه أن نلقي أضواء على حياته وسيرته وفكره
وعطائه وخصائله وشمائله رحمه الله.
لعل أبرز
جانب من جوانب مكانة الشيخ سعيد حوى –رحمه الله-
يتمثل في أنه كان عالماً عاملاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى –نحسبه كذلك
ولا نزكي على الله أحداً-فلقد خاض جميع ميادين العمل الإسلامي التي استطاع أن
يخوضها، وكان الفارس المبرز في كل ميدان، فهو الداعية المجاهد الذي أفنى حياته في
الدعوة والجهاد حتى آخر رمق في حياته، وهو العالم الذي يحتل مكانة سامقة بين
العلماء، وهو المدرسة التربوية التي خرجت أجيالاً ربانية وما زالت تخرج أجيالاً
تلو الأجيال، وهو السياسي والعابد والزاهد.. تعرض لكل ما تعرض له الدعاة العاملون
على أيدي الحكام المتجبرين من سجن وتعذيب وتشريد ومطاردة؛ فعاش معظم حياته إما
غريباً طريداً عن وطنه، أو حبيساً في الزنازين والسجون، ولقد يعجب المرء عندما
يعلم أنه كان عاجزاً عن تأمين قسط الدراسة لأبنائه وهو في أوج عطائه، فلم يكن يفكر
بأسرته الصغيرة :محمد وأحمد ومعاذ وفاطمة... وإنما كان مشغولاً بأسرته التي هي من
أقصى الدنيا إلى أقصاها.. ولم يكن يترك محتاجاً أو يرد سائلاً وما أكثر ما كان
يقصده أصحاب الحاجة والعوز..
ومع ذلك
فقد ترك ثروة عظيمة ورثها للأجيال من بعده، هي علم وتربية وجهاد متأسياً بالحبيب
المصطفى –صلى الله عليه وسلم – وترك أجيالاً في أصقاع الأرض ليرثوه ويحملوا الراية من بعده.
وفيما يلي
دراسة موجزة عن الشيخ وفكره ولمحات من عطائه وآثاره ضمن الفقرات الآتيــة:
أولاً:
الشيخ سعيد حوى في سطور.
ثانياً:مؤلفات
الشيخ رحمه الله تعالى.
ثالثاً:
أهم سمات المنهج الفكري والدعوي لدى الشيخ.
رابعاً:
خلاصة نظريات العمل الإسلامي المعاصر لدى الشيخ.
خامساً:
الشيخ سعيد حوى خصائص وشمائل.
سادساً:
الشيخ سعيد أباً ومربياً.
سابعاً:
ذكريات ومواقف خاصة.
ثامناً:
كتاب الأساس في التفسير.
تاسعاً:
الشيخ بين محبيه ومخالفيه.
وقد كتبت
عن الشيخ عدة دراسات منها رسائل علمية لنيل درجات علمية في بغداد وعمان والجزائر
ومصر، سأشير إلى بعضها عند الحديث عن التفسير، ومنها :رسالة بعنوان منهج الشيخ
سعيد حوى في التربية والسلوك للباحث : حسين علي أحمد، مقدمة إلى مجلس قسم العقيدة
والفكر في جامعة صدام في بغداد عام 2001م، كما أن العدد رقم 113 من مجلة النذير
للحركة الإسلامية السورية الصادر بعد وفاة الشيخ خصص كاملاً له، ونشرت العديد من
الصحف والمجلات دراسات متنوعة عنه.لا يتسع المقام لحصرها الآن منها مجلة المجتمع
والبلاغ الكويتيتان والسبيل الأردنية والنور اليمنية والاعتصام المصرية والوطن
العربي في فرنسا.كما كتب عن الشيخ المستشار عبد الله العقيل مقالة في كتابه أعلام
الحركة الإسلامية المعاصرة.
وأترك
القارئ الكريم مع هذه الدراسة الموجزة، بحسب ما يتسع المقام.
سائلين
الله أن يسدد خطانا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه ويغفر لنا زلاتنا إنه سميع قريب.
أولاً: الشيخ سعيد حوى في سطور
-
هو سعيد بن محمد ديب
حوى وتنسب عائلته إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
-
ولد في حماة 27/9/1935
في حي العليليات جنوب حماة.
-
عاش في كنف والده وكان
والده مربٍ من خيرة الرجال الشجعان المجاهدين ضد الفرنسيين.
-
توفيت والدته وهو في
السنة الثانية من عمره وتربى في كنف جدته، وكانت مربية فاضلة صارمة يحبها وتحبه.
-
عاصر في شبابه أفكار
الاشتراكيين والقوميين والبعثيين والاخوان، واختار الله له فانضم إلى الإخوان
عام1952 وهو في الصف الأول الثانوي.
-
دخل الجامعة 1956 في
كلية الشريعة.
-
درس على عدد كبير من
المشايخ منهم:شيخ حماة وعالمها الشيخ محمد الحامد، وعالم دمشق المربي الرباني الشيخ
محمد الهاشمي، والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، والشيخ عبد الكريم الرفاعي، والشيخ
أحمد المراد، والشيخ محمد علي المراد، ودرس على الأساتذة: مصطفى السباعي، ومصطفى
الزرقاء، ود.فوزي فيض الله، والعلامة حسن حبنكة، والأستاذ معروف الدواليبي، والعلامة
الشيخ عمر الحكيم، والشيخ صالح الأشقر، وغيرهم من العلماء الأجلاء.
-
نهل من معين التصوف
الصافي المنضبط بالكتاب والسنة، كما نهل من معين السلف الصالح حتى ارتوى فأروى.
-
تخرج من الجامعة سنة
1961.
-
دخل الخدمة العسكرية
سنة 1963.
-
تزوج من أم محمد سنة
1964، ورزق بأربعة أولاد: هم محمد وأحمد ومعاذ وشقيقتهم الرابعة فاطمة.
-
تدرج في الإخوان من
منتسب إلى عضو مكتب الارشاد العالمي.
-
حاضر وخطب في سوريا
والسعودية والكويت والإمارات والعراق والأردن ومصر وقطر والباكستان وأمريكا
وألمانيا.
-
شارك مشاركة رئيسية
وفعالة في أحداث الدستور في سوريا سنة 1973.
-
سجن خمس سنوات (5/3/1973
إلى29/1/1978).
-
ألف في السجن (الأساس
في التفسير )_11مجلداً_وعدداً من كتبه الأخرى.
-
كان عضواً في قيادة
الإخوان المسلمين في سوريا للفترة 1978_1982.
-
شارك في التنظيم
العالمي في الفترة 1982_1984، وفي الفترة 1984_1987.
-
شارك في عدة أعمال
دعوية وسياسية إخوانية.
-
دخل العزلة الاضطرارية
بتاريخ 14/3/1987 بسبب إصابته بشلل جزئي، إضافة إلى أمراضه الأخرى الكثيرة: السكري،
الضغط، تصلب الشرايين، الكلى، ومرض العيون.
-
دخل في غيبوبة الموت
بتاريخ 14/12/1988 إلى 9/3/1989لم يصح خلالها.
-
توفي ظهر يوم الخميس
1/شعبان/1409ه الموافق 9/آذار/1989م رحمه الله رحمة واسعة.
ثانياً: مؤلفات الشيخ رحمه الله
لقد
كان معلماً بارزاً مميزاً من معالم شخصية الشيخ سعيد حوى الإنسان المفكر والداعية
المربي والقائد الموجه: كثرة مؤلفاته، وتميزها بأسلوبها ومنهجيتها وتكاملها،
وصلتها الوثقى بحاجة الأمة لها، ودقة وخطر موضوعاتها، وتسلسلها، وفيما يلي بيان
مجمل لها :
ألف كتابه
الأول (الله جل جلاله) يعرف فيه المسلم على ربه، مفنداً دعاية الملحدين، مبيناً أن
أول الطريق توحيد الله.
وألف كتابه
الثاني (الرسول صلى الله عليه وسلم)لأنه المبلغ عن ربه والقدوة والأسوة، وأثبت فيه
بما لا يدع مجالا للشك أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله الخاتم للنبيين.
وألف كتابه
الثالث (الإسلام) عرض فيه مناهج الإسلام في العقيدة والعبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع
والشؤون السياسية والتعليمية والإعلامية والتشريعات الجنائية عرضا شموليا محكما
مستندا إلى أقوى الأدلة مستلهما روح الشريعة ومقاصدها مبينا أفق الإسلام الرحب في
كل الميادين.
وإذا
اكتملت الأصول الثلاثة :الله، الرسول، الإسلام، فلا بد أن ينطلق جند الله في
سبيلها ولا بد لهؤلاء الجنود من أمور:
فكان كتابه
الأول في سلسلة (فقه الدعوة والبناء والعمل الإسلامي ): جند الله ثقافة وأخلاقاً،
لأن أساس العمل الإسلامي ـ إن في الدعوة وإن في السياسة والحكم: الثقافة الكاملة والأخلاق
العالية.
وعلى طريق
العمل والدعوة الشامل تعترض الدعوة شبهات فكان كتابه (من أجل خطوة إلى الأمام على
طريق الجهاد المبارك) موضحاً كثيراً من بدهيات الإسلام الغائبة ومفنداً كثيراً من
دعاوى المبطلين المنتشرة، موضحاً طبيعة الصراع مع الباطل والطريق إلى الحق والنصر
معرفاً بدعوة الأنبياء وتراثهم كاشفاً دعواتهم وإلقاءاتهم.
والدعوة لا
بد لها من جهة تحملها وكان اجتهاد فقيدنا أن جماعة الإخوان المسلمين من تلك
الجماعات التي لها قصب السبق في حمل الدعوة الإسلامية بشكل شمولي متكامل فكتب
كتابه ( المدخل إلى جماعة الإخوان المسلمين ).
ولا بد
أثناء المسيرة من معالم فكرية وأضواء على المسيرة الثقافية والعلمية فكان كتاب
(جولات في الفقهين الكبيروالاكبر) وهو أبحاث تجيب على أهم الاسئله في نظريات
الثقافة الإسلامية.
ولا بد
للدعوة في مسيرتها أن تتعمق في آراء ونظريات مؤسسها؛فكان كتابه (في آفاق التعاليم)
وهو دراسة في آفاق دعوة الأستاذ البنا ونظريات الحركة فيها من خلال رسالة
التعاليم.
والجديد في
العمل الإسلامي له أحكامه إن على مستوى الأفراد أو القادة فكان كتاب(دروس في العمل
الإسلامي) وكتاب( فصول في الإمرة والأمير).
ومشكلات
العصر وحاجاته متجددة فكان كتاب (كي لا نمضي بعيدا عن احتياجات العصر) وفيه إحدى
عشرة رسالة هي:منطلقات إسلامية لحضارة عالمية جديدة، فلنتذكر في عصرنا ثلاثاً، أخلاقيات
وسلوكيات تتأكد في القرن الخامس عشر الهجري، إحياء الربانية الإجابات (وهي ردود على
شبهات واتهامات)، السيرة بلغة الحب والشعر، عقد القرن الخامس عشر الهجري، الخمينية
:شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف، إجازة تخصص الدعاة، قوانين البيت المسلم، غذاء
العبودية. والناظر في هذه الرسائل يجدها متنوعة ومتناسبة في الوقت نفسه.
ثم كان
كتابه-وكأنه يشعر بقرب أجله: (هذه تجربتي وهذه شهادتي)أصدر الجزء الأول منه، أما
الجزء الثاني فما زال مخطوطاً سيرى النور إن شاء الله في الوقت المناسب.
وفي خاتمة
حياته أصدر كتابه( جند الله تخطيطاً)، وأودعه خلاصة أفكاره وآرائه وتوجيهاته في
الحركة والتخطيط.
ولاستكمال
أصول المنهج والثقافة الشاملة كانت سلسلة (الأساس في المنهج) ومنها: (الأساس في
التفسير ) جمع فيه بين القديم والحديث مقدما من خلاله نظرية متكاملة جديدة لم يسبق
إليها في الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم وهو أحد عشر مجلدا، ومنها (الأساس في
السنة وفقهها )و قد صدر منه أربعة عشر مجلدا في ثلاثة أقسام، ومنها (الأساس في
قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص )و لم يكمله.
ولا يكتمل
البناء الفكري ولا يستقيم على سوقه من غير تزكية وتربية وحسن سلوك فأصدر ثلاثة كتب
في التزكية والتربية والسلوك هي : تربيتنا الروحية، المستخلص في تزكية الأنفس، مذكرات
في منازل الصديقين والربانيين، والدارس لهذه الكتب يجدها منضبطة بالكتاب والسنة،
ملتزمة عقائد أهل السنة والجماعة، محررة مواطن الخلاف بما يتفق والحق الذي يلهمه
الله إياه، وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة تلقي بظلال بينة على شخصية الشيخ سعيد حوى
رحمه الله، كما أن قارئها لا بد أن يجد أثرها وثمارها في التربية.
ثالثاً: أهم سمات المنهج الفكري والدعوي لدى
الشيخ
لقد كان للشيخ أسلوبه المتميز في العمل العام
والتربية والدعوة إلى الله والعمل السياسي، كما كان له أسلوبه في التأليف والتدريس،
وكل ذلك ينم عن بعد نظر وعمق فكر، وشخصية متميزة،
فما هي بعض
خصائص فكره وأسلوبه في العمل الإسلامي العام؟
1 ـ لقد كان أحب الأشياء إليه رحمه الله خدمة الناس عموماً،
وإخوانه، وتلامذته خصوصاً، معتبراً ذلك أساساً لابد منه لأي داعية ناجح ولأي عمل
سياسي إسلامي.
2 ـ انطبع في عقل الشيخ أهمية رسم الخطط في الشؤون الصغيرة
والكبيرة، فغدا لا يؤمن بعمل عام لا ينبثق عن خطة محكمة وتخطيط سليم في التنفيذ.
3 ـ يلاحظ تركيز الشيخ دائماً على ضرورة وجود الشخصية
الإسلامية التي امتلكت الثقافة المعاصرة والمتوارثة واستجمعت الخصائص النبوية
وتعمق لديها الالتزام بمقتضيات ذلك، معتبراً أن سر نجاح العمل الإسلامي هو وجود
هذه الشخصيات التي من مجموعها تتكون الجهة المستشرفة المؤهلة للتخطيط والتنظيم.
4 ـ يولي الشيخ أهمية خاصة للمسجد باعتباره منطلق الدعوة
الأول، ومحور نشاط المسلم ومرتكز حياة الأفراد، معتبراً أن أي منطلق صحيح للتنظيم،
لابد وأن يكون من المسجد باعتباره نواة الحي الذي يجمع في داخله أصناف الناس، وطبقاتهم
ولا يضيع أحداً منهم.مع عدم إهمال أنواع الارتباطات الأخرى: الطلابية والعمالية …
5 ـ يمتاز فكر الشيخ بأنه يحاول دائما أن يستجمع أطراف أي
قضية يبحثها أو يعمل لها، فينظر للأمور نظرة كلية تجمع شتات الموضوع وجزئياته، وتربطه
بكُلِّيّاتِه.
6 ـ إيمان الشيخ بضرورة الحركة الدائمة، وأن أي جمود في
الحركة يعطلها ويقتلها، وهذا يقتضي قوة مبادرة واستباق واستشراف للأحداث وتقويم
مستمر للعمل وسرعة بديهة في التعامل مع المستجدات وكان الشيخ يمتلك هذا كله.
7 ـ كما كان يركز الشيخ على أن نجاح أي عمل لا يتم الا من
خلال التلاحم والتفاهم والتكامل وسيادة روح الإخاء والمحبة في علاقة القيادات ببعضها
والقيادات بالأفراد.
8 ـ ولعل من أهم ما يميز فكر الشيخ أن جميع آرائه ونظرياته
ومناهجه مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تجد لديه فكرة
إلا وتجد أنه استنبطها من خلال آية أو حديث.
فعلى آيات الردة
في سورة المائدة بنى كتاب جند الله ثقافةً وأخلاقاً.
وحول قوله
تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غروراً ) كان محور كتاب من أجل خطوة للأمام…
وكان قوله تعالى
: (من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً) هو مصدر إلهام في
بناء النظرية التنظيمية والتربوية معاً.
وكان قوله تعالى
: ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) مصدر حركته
التربوية والثقافية.
وكانت آيات من
سورة الشورى معلماً بارزاً في بيان خصائص من يعول عليهم في العمل ابتداء من قوله تعالى:
(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ).
9 ـ وامتاز الشيخ بتكامل فكره وبنائه، ولقد فقه كثير من
أحبابه هذا لديه فقال بعضهم ([1])
فيه: (وضعت الأساس في التفسير والسنة وشيدت البناء بالأصول الأربعة :الله جل جلاله،
الرسول صلى الله عليه وسلم، الإسلام، جند الله، وزينت البناء: بالمدخل والآفاق، ثم
نبضت الحياة وانسابت اللطائف والأرواح بتربيتنا الروحية والمستخلص )
10 ـ و مثل ما امتاز الشيخ بما مضى فإنه امتاز في أسلوب
كتابته، فأول ما يلحظه قارئ مؤلفات الشيخ سلاسة أسلوبه وسهولته، إذ أنه لا يعمد إلى
تنميق عباراته ولا تعقيدها، بل يركز دائماً على إيصال المعنى بأسهل عبارة وأقرب
صياغة، ويضع يدك على اللباب مباشرة دون تطويل، ولشدة سلاسة عبارته تشعر كأن الشيخ
يتحدث معك مباشرةً.
11 ـ ومما امتاز به فكر الشيخ فهم عميق للأحكام الشرعية
الأصلية والأحكام الاستثنائية التي ينبني عليها وضع الأمر في موضعه الصحيح، والموازنة
بين المصالح والمضار، وترتيب الأولويات ترتيباً صحيحاً على أن يكون ذلك مرتبطاً
بالفتوى البصيرة العلمية من أهلها الراسخين في العلم.
12 ـ ولقد تكاملت شخصية الشيخ فكان يجمع إلى جانب الدعوة إلى
الله، التحرك السياسي الدائم المناسب والعلم الشرعي المدقق والتصوف السني المحرر
من الشوائب والمنضبط بالكتاب والسنة، وضمن اجتهادات أهل العلم الراسخين في العلم.
13 ـ لقد كان الشيخ رحمه الله، شديد الولع والإهتمام بقضايا
التخطيط والتنظيم والمناهج التي تضع العمل الإسلامي موضعه الصحيح المناسب، وترتقي
بالمسلم في ثقافته وخصائصه والتزامه، ووعيه وفكره وقلبه وروحه، بما يجعله مؤهلاً
حقاً لحمل هذا الدين للعالم كله هداية ورشداً وسعادة وعدلاً.لذلك كانت معاناته في
عمله الحركي كبيرة، لما كان يراه لدى بعض العاملين من قصور في تصور المنهاج وقضايا
النظام والتنظيم، أو حرص لدى البعض على المركزية القاتلة، أو العمل ضمن محاور
ومراكز قوى، والانسياق وراء اجتهادات لا تمثل انتقاء الصالح للارتقاء والبقاء، هذا
وغيره من مشكلات العمل الإسلامي جعلت الشيخ دائم التفكير فيما هو الأصلح للأمة، ودائم
البحث عن المنهج الأسلم للتغيير والتجديد، الذي من خلاله يتم إعزاز دين الله
والحكم بشرعه.
فكان من نتائج
هذه المعاناة والدراسات كتبه الكثيرة، وعلى رأسها كتاب جند الله بأقسامه :ثقافة، وأخلاقاً،
وتنظيماً، وتخطيطاً.
رابعاً: خلاصة نظريات العمل الإسلامي المعاصر
لدى الشيخ رحمه الله
لعله من المناسب أن
أعرض عرضاً موجزاً جداً لأهم قواعد ونظريات العمل الإسلامي لدى الشيخ توضح الصورة
أكثر :
-
لقد تحسس الشيخ أمراض
المجتمعات التي ترشح ضرورة التفكير في إيجاد منهج عمل متميز، وكان ذلك بمثابة
النقد الذاتي للواقع المعاش، منطلقا ًمن ذلك إلى ضرورة التنظيم والترتيب، وأن ذلك شرط
نجاح أي عمل.
-
وكان دائم التأكيد على
وجود شذوذ في وضع الأمة إذا لم تتجمع حول علمائها الربانيين، مع ضرورة فهم من هم
العلماء الربانيون.
-
والتأكيد على حاجة
الأمة إلى سقف مرتفع وجهة مستشرفة وشبكة علاقات منظمة
-
والبحث الدائم عن
كيفية تعميق وجود الإسلام وتجديده والتخلص من الفوضى العلمية والفكرية.
-
واجتهد في تقديم
معادلة وجود الإسلام في واقع الأمة والعالم، وكيفية الارتباط بين أفراد المعادلة،
وضرورة الترتيب والتعميم وإيجاد الأنموذج، وقد حدد معادلة وجود الإسلام بـ: مسجد +
مرشد + منهج صحيح + ذكر + صدق + تكافل.
-
ويرى أن أساس العمل
الإسلامي التفاهم والتعارف والقناعة والإخاء والحب والتعقل قبل الأمر والنهي.
-
وأنه إذا توافر ما سبق
فإن أقل القواعد التنظيمية وأبسطها تكفي وإذا وجد الهوى والبغض وأمراض أخرى فإن كل
قواعد الدنيا لا تصلح الأمر.
-
وأن الثقافة والتربية
مقدمتان على الانتماء التنظيمي.
ومما يراه من نظرات في
العمل الإسلامي :
-
الحرص على بيان
الأخلاقيات التي يجب أن يتحلى بها الأفراد المؤهلين لأن يكونوا جزءاً من هذا
العمل.
-
الاعتدال في طلب
الأمور، وضرورة مراعاة واقع العصر والحكومات والجماعات.
-
أهمية النظم في الضبط
والربط لإيجاد العلاقات الصحيحة المثمرة، لتحقيق الأهداف وشروط ذلك([2])
.
-
مجالس الشورى هي صاحبة
الحق في إخراج القيادات.
-
أن يكون لكل قطر
إسلامي دستوره الخاص به وأن يكون للأقطار الإسلامية المتحدة دستورها العام الذي
يحكمها وأن يكون لكل تنظيم إسلامي نظامه الخاص وللحركة الإسلامية نظامها الأساسي.
-
ألا تتدخل أي قيادة
مركزية عالمية في غياب الدولة الإسلامية تدخلاً إلزامياً في الحركات المحلية.
-
لابد من بلورة النظرية
المثلى لتحقيق الجهاد، منها :أن نفرق بين من نعتبره نظام نصيحة، وأنظمة تريد استئصال
الإسلام فهذه وحدها يجب أن تعبأ الطاقات من أجل الجهاد فيها.
-
الحرص على العلاقات
التنظيمية مع مسلمي العالم فإذا فاتنا ذلك فلا ننزل بالعلاقة مع مسلم إلى ما دون
مستوى الإخاء العام ولا يعتبر أن مجرد الخروج من تنظيم إنحراف في العقائد أو
السلوك.
-
الفتوى تقدر زماناً
ومكاناً وشخصاً ومتى دخلنا في الحرب دخلنا في الفتوى الإستثنائية التي لا تؤخذ إلا
من أهلها
-
القيادة الإسلامية
الراشدة والفاعلة هي التي تواجه كل شي فلا تترك مواجهة المشكلة بل تستبق المشكلة
قبل وقوعها وتسارع إلى حلها إن وجدت وتتخذ قرارها المناسب في كل ما يواجهها دون أن
تخشى في الله لومة لائم.
-
القومية والوطنية
نتعامل معها كعوامل مؤثرة بحكم العادة، وهي شيء لم يلغه الإسلام، بل أعطاه محله وقدره
والذي نرفضه أن تكون بديلاً عن إسلام أو نقضاً لإسلام أو تعطيلاً لأحكام الإسلام.
-
لا ينظر إلى الاجتهاد
السياسي بتشنج بل كثير من الاجتهادات السياسية التي يصل إليها حتى أولئك الذين
يخاصموننا ليست محل رفضنا المطلق المسبق.
-
مقولة (خذوا الإسلام
جملة أو دعوه جملة) صحيحة بالنسبة للاعتقاد، غير صحيحة بالنسبة للكثير من
التطبيقات العملية، وقد فطن أعداؤنا لهذا فاغتالوا الديموقراطية .. ولقد بين الشيخ
حكم الديموقراطية من جهة النظر الاعتقادية.. وأن الشورى هي الأساس والشورى فيما لا
نص فيه([3])
.
ويؤكد في
كثير من كتبه على سعة الإسلام وعدم تكفير أحد من المسلمين وأن حزب الله فيه المؤمن
العادي والمؤمن العالم والمجاهد والمنظم وغير المنظم والشيخ والعامل.. وأن جماعة
الإخوان من المسلمين، وليست جماعة المسلمين، وهذه قضايا أخطأ البعض في فهم الشيخ
سعيد فيها خطأ كبيراً وللأسف.
هذا، ويمكنني
القول:إن الشيخ رحمه الله قد استطاع أن يقدم نظرية متكاملة فيما تحتاجها الأمة الإسلامية
اليوم، تتمثل هذه النظرية بمعرفة الأهداف الرئيسية المتمثلة بما يأتي :
1- صياغة
الشخصية الإنسانية في كل قطر.
2- توحيد
الأمة الإسلامية.
3- إحياء
منصب الخلافة.
4- إقامة
دولة الإسلام العالمية.
وبإدراك
وسائل تحقيق ذلك من خلال :
- نظرية
متكاملة في الثقافة والتربية.
- نظرية
سليمة في النظام والتنظيم.
- خطة جيدة
للعمل وتخطيط مناسب.
- نظرية
صالحة في التنفيذ.
وكانت جميع
مؤلفات الشيخ رحمه الله، شرحاً وتفصيلاً وبياناً لهذا المنهج.لقد وجدت اجتهادات
كثيرة في الساحة تحاول أن تشخص أزمة الأمة، وتضع الحلول لها.. ولكن كثيراً من هذه
الاجتهادات كانت تركز على جانب وتهمل جوانب...
فمنها من
شخص أزمة الأمة فكر وثقافة مهملاً أو مقللاً من شأن التربية الروحية القلبية، غير
معط الأبعاد السياسية والحركية حقها في العمل.وآخرون اهتموا بالجانب التربوي
مغفلين الجوانب السياسية والفكرية. وآخرون اهتموا بالدراسات الإسلامية المتوارثة
غير عابئين بمستجدات العصر. لكني أعتقد أن الشيخ فيما طرحه من مناهج، حاول أن يكون
متكاملاً شاملاً لجوانب العمل وزواياه وقضاياه المختلفة. ولا شك أن هذا الشمول والتكامل
يمثله كثير من الدعاة عملياً والشيخ أحد رواده الذين قدموه نظرياً وعملوا على
تحقيقه عملياً.
إنه بعد
معاناة طويلة، رابت على ثلاثين سنة مر فيها الشيخ بتجارب واسعة، منها الحلو والمر
على المستوى الإسلامي العام والخاص، بعد كل هذا –كان
طبيعياً أن يتكون لدى الشيخ رحمه الله وجهة نظر محددة في مسيرة العمل الإسلامي
المعاصر.وكان لا بد للشيخ أن يدلي بدلوه، ويقدم رأيه في الطريق الأمثل لبناء الأمة
الإسلامية الراشدة، والطريق الأمثل لتحقيق الأهداف الكلية والجزئية الإستراتيجية
والوقتية فكان مجمل مؤلفاته انتهاءً بكتابه جند الله تنظيماً.الذي يبين فيه الشيخ
أن البداية الصحيحة للعمل الإسلامي هي وجود الولي المرشد، أي المسلم الذي تحقق علمياً
وروحياً ودعوياً وتربوياً، فعندما يوجد الولي المرشد، الذي يقوم برسالته ودوره
قياماً كاملاً، فإنه لا بد أن يكون هو محور العمل للإرتقاء بمن حوله ثم ليكون
مجموع الأولياء المرشدين هم الجهة المؤهلة للتخطيط والتنظيم والتأهيل، لإيجاد
الأجهزة اللازمة لحركة الأمة نحو استعادة ريادتها وسلطانها السياسي إذ أنه ما لم
يجتمع السلطان والقرآن معاً ويكون السلطان تابعاً للقرآن فلا سيراً صحيحاً للأمة
أبداً. فهذه الجهة التي امتلكت المؤهلات المذكورة، تعد لإيجاد الأجهزة والمراكز
وتعمل على التخطيط لامتلاك الكفاءات وتعميم التخصصات، ووضع كل أمر في مكانه.. إلى آخر
ما هنالك مما يحتاجه العمل الإسلامي. فإذا كانت هذه البداية الصحيحة فما هي
النظرية التنظيمية الصحيحة، التي على أساسها يتم التعاون والتفاهم والتكامل
والبناء والعمل. وعلى ضوئها يتم إيجاد الجهة المستشرفة، ذات السقف المرتفع في
مختلف ساحات العمل، وشتى أصقاع الأرض. ومن خلال هذه الجهة، يكون التخطيط والإعداد
والتوجيه. فكانت مؤلفاته ونظرياته في العمل الإسلامي إذن إجابة تفصيلية لتساؤلات
كثيرة، فهو يحدد لك نقطة الخلل الحقيقي، ويحدد لك بداية العلاج الأصح، ويحدد لك
وسيلة العمل لتحقيق المراد من خلال النظرية التنظيمية المناسبة.
ونلاحظ في
هذا الصدد تميز كتبه الثلاثة : جند الله ثقافةً وأخلاقاً وجند الله تخطيطاً وجند
الله تنظيماً فلئن كان الأول بياناً للنظرية الأخلاقية والثقافية فإن الثاني كان
بياناً لاحتياجات الأمة وساحات العمل وما هو مطلوب منها ويأتي الكتاب الثالث لبيان
الطريق العملي للوصول إلى المطلوب فهو بيان للمؤهلين لقيادة العمل الإسلامي، والتخطيط
له والسهر؛لا بما يجعله نخبوياً، فئوياً، حزبياً، منغلقاً بل بما يجعله مسترشداً، مستنيراً
منضبطاً متكاملاً من غير ثغرات ولا فجوات ضمن قاعدة :إيجاد المفقود ودعم الموجود، فلا
يتدخل هذا الكتاب في النظريات التنظيمية القائمة، وما طرح فيه لا يتعارض مع ما هو
قائم ولا يلغيه، بل المراد أن تكون جميع اتجاهات العمل الإسلامي متكاملة، تسير في
جهة استراتيجية واحدة.ولقد في طرح هذه النظرية على المرونة المطلقة، وقدمت بما
يخدم العمل الإسلامي حسب اختلاف الأحوال السياسية للأقطار.
فأقطار
تسمح الأوضاع فيها بالعمل الدعوي وحسب، وأخرى بالعمل الدعوي والاجتماعي والسياسي، وأخرى
يسمح فيها بالأحزاب السياسية، فهذه النظرية يمكن أن تطبق في أي من الأقطار بالوضع
الملائم لذلك القطر. والكتاب ليس شرحاً نظرياً تجريدياً لكيفية التنظيم، وأصوله
وأسسه لمن أراد تأسيس حزب، أو إقامة عمل إسلامي عام أو خاص، ولاهومخصص لبيان ما
يحتاجه القائد لتحقيق برامج محددة، فليس ذلك من مهمة الكتاب، لأن الأصل في أي عمل
أن يكون لدى مؤسسيه إبداع خاص في إيجاده، وإن كان الكتاب يفتح آفاقاً واسعةً
للعقلية الإسلامية في فقه العمل المنظم عموماً.
هذه أهم
الأسس والمبادئ التي بنيت عليها نظرية الشيخ سعيد حوى في العمل الإسلامي المعاصر
ولكل ما ذكر توضيحات وتفصيلات في أماكنها من كتبه.
خامساً: الشيخ سعيد خصائص وشمائل
لقد تحلى
الشيخ رحمه الله بجملة من الخصائص والشمائل أجملها فيما يأتي.
1ـ الصبر
والجهاد والمجاهدة : كان الصبر خلقاً بارزاً جداً في شخصية الشيخ رحمه الله فلقد
سجن خمس سنوات فلم تسمع له أنة أو شكوى يوماً، وتكاثرت عليه الأمراض من سكري وضغط
وتصلب شرايين وفشل كلوي جزئي وفقد البصر إلا قليلاً، فكان يتلقى كل ذلك برضى
وطمائنينه. وفقد أخويه وكثيراً من أحبابه فتجلد لذلك وسلم لأمر ربه.
وهاجر وترك
بلده وأهله …وأوذي في بعض أهله فلم يُعلِم بذلك أحداً
… وصبر … واحتمل من الأذى في سبيل الله ما احتمل، فما
تبرم لذلك يوماً أبداً، وكان بمقاله وحاله الرجل الذي يصبر الآخرين ويثبتهم.
يقول
الدكتور أحمد جواد : تميز الشيخ أبو محمد بالشجاعة والجرأة في الحق وإذا كان
الجهاد في سبيل الله دون خوف من لوم اللائمين كما قسمه في بعض كتبه خمسة أنواع : أولاً:
الجهاد باللسان، ثانياً: الجهاد التعليمي، ثالثاً: الجهاد المالي، رابعاً: الجهاد
السياسي، خامساً: الجهاد باليد والنفس. فإن الشيخ جاهد بها جميعاً، فقد جاهد
خطيباً ومحاضراً بلسانه كما جاهد بقلمه وما ادخر من ماله فلساً، ينفق في سبيل الله،
كما كانت له المواقف الرائعة الجريئة أمام الحكام، ولقد حمل السلاح مدافعاً عن
دينه وعقيدته([4])
.
ويقول
الأستاذ عدنان سعد الدين:جاهد الشيخ بسيفه ولسانه وقلمه وماله فلم يعرف طعم الراحة
زهاء أربعين، كان همه ودأبه أن يقيم للإسلام مجتمعاً راقياً ويبني على أسسه
وقواعده دولة عتيدة. تعرض للأذى والاضطهاد ولاحقته السلطات الباغية، ودخل السجن
بضع سنين، ثم هاجر في سبيل الله وطاف العالم يبشر بدعوة الإسلام ويدعو الناس إليها،
وحاول العدو اغتياله والقضاء عليه وعندما فشل في ذلك ألحق أشد العذاب بعائلته
الكريمة الصابرة. فاغتالت يد العدو أخويه وأمعنت في قتل شباب العائلة من آل حوى
حتى مضى منهم زهاء عشرين شهيداً([5])
.
2ـ الكرم
والزهد : جود الشيخ وكرمه يعد مضرب مثل عند إخوانه ولا أدل على ذلك أنه درس في
السعودية هو وأم محمد خمس سنوات ثم عاد إلى بلدة حماه مديوناً لم يورث شيئاً مما لأجله
الآخرون يعملون. وما كان يُسأل عن شيء فيقول لا، إن وجد أعطى، وإن لم يجد وعد ووفى.
وما زاره أحد إخوانه ليلاً ونهاراً إلا أكرم وإن أمكن أن يقدم طعاماً قدم مما هو
موجود بلا تكلف ولا إسراف. وعندما خطب أم محمد قال لها ثلاثة لا أفرط فيها ولا أقبل
أن يمس منها أحد أو أن يقصر في حقهم، والدي وأضيافي وأسراري.
3ـ التواضع:
وتلك صفة بارزة في الشيخ رحمه الله يجلس للصغير وللكبير ويحادث الأخ والابن والبنت،
ويلبس ما تيسر من اللباس، يتبسط في حديثه ومداعباته، لو زرت بيته لم تجد من الأثاث
إلا أيسره وأهونه.
4ـ الشجاعة والأنفة وعزة النفس: أمام إغراءت
الدنيا وشهواتها، فما طأطأ يوماً لأجل الدنيا، وما خضع يوماً لظالم،ولقد قال
أبياتاً في موقف تعرض له أثناء عمله مدرساً تعبر عن هذه الروح:
حـذار
المسـاس بحريـتي فكسر الكرامـة
لا يجبر
وإني
تركت البـلاد التي هي الوطن الأطيب الأطهر
لأني
خشيت ذليـل الأذى وظلمـاً
أراه فـلا أنـكر
وسأورد هذه
الأبيات كاملة فيما بعد.
ولقد حدث
أقرانه عن شجاعته فمثلاً إذا أعلن أبناء الحركة إضراباً في مدرسة ابن رشد فيكفي أن
يقف سعيد حوى في باب المدرسة ليمنع أحداً من أن يدخل إليها.
وكان من
شجاعته النادرة وتفانيه أن تحمل أمام المحققين في سجن المزة مسؤولية بيان الدستور
سنة 1973، ليكلفه ذلك خمس سنوات سجناً، ولينجو إخوانه من السجن الطويل.
5ـ الحلم :
يقول الدكتور أحمد جواد :عاش الشيخ رحمه الله حياته مع إخوانه ومع الناس على شتى
أصنافهم وطبيعي أن يتفق أو يختلف مع غيره في بعض الآراء أو المواقف وأنقسم الناس
فيه بين محب وبين مخاصم معاند لا يفوت فرصة للنيل منه أو الكيد له.لكنني في حدود
ما أعلم وهذه شهادة أمام الله ما وجدته يحمل غلاً ولا حقداً على أحد بل يؤول
المخالفة ويسامحه وإذا لقيه تبسم واستبشر واعتذر ليستل سخيمة قلبه ويحوله إلى المودة
والصفاء مما دفع بعض الناس أن تفهمه فهماً معكوساً وتقول :لقد تاب الشيخ عن بعض
كتبه وهذه مغالطة كبيرة وإساءة بالغة له ولتراثه العلمي الزاخر، ولا ندعي العصمة
إلا لكتاب الله وما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم .. لكن يشهد أهل العلم بسلامة
منهجه وصحة ما دعا إليه وكتب([6])
.
كان من
حلمه أنه يؤذى ويشتم ثم يصبر ويقف مع الشاب المبتدأ سنا وتجربة فيرفع صوته أمامه
ثم يحاوره حتى يقنعه وربما أكرمه بعد ذلك. وأود هنا أن أورد هذه المقتطفات من
شهادة الأستاذ عدنان سعد الدين، يقول: إن جملة العوامل الفطرية من ذكاء حاد وموهبة
نادرة والعوامل المكتسبة من دراسة وتجربة ومشاركة وخبرة ونشاط؛ كونت هذه الشخصية
النادرة وأبرزت فيها جملة من السمات والخصائص.
ما عرفت في
الكرماء وأهل الجود على كثرتهم أسخى منه يداً وأعظم منه كرماً، كانت ثقته بما في
يد الله أكبر من ثقته بما في يده، وكان أمتع الأمور إلى نفسه إكرام ضيوفه وإيثارهم
على نفسه وعلى عياله، ما شكا الفقر يوماً لأنه ما خشي الفقر يوماً. أحب الأشياء إلى
قلبه خدمة إخوانه وتلاميذه وإكرامهم ومد يد العون لهم، مما يجعله منشرح الصدر
متهلل الوجه كأنك تعطيه الذي أنت سائله، وكان رحمة الله عليه شجاعاً مقداماً لا
يعرف الخوف إلى نفسه سبيلاً، يواجه العالم بكل فراعينه وطغاته بمعتقداته وقناعاته
دون أن تأخذه في الله لومة لائم، واستمر على ذلك حتى وافته المنية رحمه الله.كان
قريباً من القلوب محبباً إلى الناس يأسرهم بخطاباته ويشدهم بحديثه العذب ومنطقه
الصارم وحجته البالغة، كان استهلاله لأي حديثاً مدهشاً، وذا بيان ساحر، بل كان
يقنع القريبين والبعيدين عنه، ففي آخر جولة قمنا بها سوية إلى القاهرة عام 1986تمت
لقاءات بأكثر من ثلاثين مؤسسة وهيئة وجماعة، مثل مشيخة الأزهر والمجلس الأعلى
للشؤون الإسلامية ووزراء للأوقاف سابقين وشخصيات سياسة ومشيخة الطرق الصوفية
وجمعيات الشبان ورجال فكر وصحافة واعلام وأعضاء في البرلمان وقادة أحزاب، بعضهم
يتفق مع الإخوان وبعضهم يختلف معهم، بيد أنهم جميعاً استقبلوا أحاديثه وأفكاره
ومقترحاته بالارتياح والإعجاب والقبول، كان تأثيره كبيراً على كل من التقاة من
القادة والزعماء ورؤساء الحكومات والشخصيات السياسة والفكرية والدعاة بما يطرحه من
أفكار ومقترحات وحلول ومشروعات لحل الأزمات التي تعاني منها أمتنا ومواجهة
المؤامرات التي تحاك ضد التي أوطاننا.
كان رحمه
الله متواضعاً وديعاً يألف ويؤلف، كما كان سموحاً صفوحاً، إذا غضب كان إلى الرضا
أسرع، لا يطيق جفوة الإخوان والخلان، فإذا واختلف مع إخوانه وأصحابه أو اختلفوا
معه بادر إلى إزالة أسباب الجفاء، بل إلى تقديم الاعتذار لهم، والتودد إليهم، وتطييب
نفوسهم سواء أكان هو المخطئ معهم أم كانوا هم المخطئين([7])
.
شهادات أخرى
: ولا يتسع المقام لاستيعاب مزايا الشيخ وخصائص فكره، ولكني أقتبس اقتباسات من
كلمات حق قيلت في حق الشيخ توضح بعض ما للشيخ:
من ذلك ما
قاله الأستاذ عدنان سعد الدين أيضاً المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في
سورية ـ في ضمن مقالة مطولة: إن الذي يمعن النظر في كتاباته يحسبه متفرغا لها، بل
يجده قد أعطى أكثر مما قدمه المتفرغون للبحث والتأليف، ومن نظر في نشاطاته ومشاركته
ومسؤولياته الإدارية والتنظيمية يخاله منصرفاً إليها ولا يشغله عنها شيء فكان في
مجال الحركة والنشاط متقدماً، وكان في رحاب الفكر وحقل الكتابة والتأليف مبرزاً، وهذه
خصيصة انفرد بها رحمه الله، لم يجاره بها أحد من أبناء الجماعة في سورية منذ نشأة
حركة الإخوان المسلمين عدا الدكتور مصطفى السباعي قائد الجماعة واحد السابقين في
تأسيسها وتشييد بنائها، إن جملة العوامل الفطرية من ذكاء حادٍ وموهبة نادرة
والعوامل المكتسبة من دراسة وتجربة ومشاركة وخبرة ونشاط كونت الشخصية النادرة
وأبرزت فيها جملة من السمات والخصائص([8])
.
ومن ذلك ما
قاله الشيخ الشهيد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله : أبا محمد: ماذا نقول فيك ؟ إذ
حيثما فقدنا الرجال في ميدان وجدناك، طرقنا باب الدعوة فألفيناك قلعة من قلاعها، وتلمسنا
طريق العلم فوجدناك علماً من أعلامها، ومضينا على جادة الجهاد فرأيناك صارماً من
صوارمها، ونظرنا في ميدان السياسة فلقيناك قلماً من أقلامها، وسلكنا طريق الحسبة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوجدناك معلماً بارزاً من معالمها. هكذا نحسبك
ولا نزكي على الله أحد([9])
.
ومن ذلك ما
كتبه الدكتور عادل حسون الكاتب في مجلة البلاغ: أستاذي سعيد حوى . . غادرتنا وكنا
في أمس الحاجة إليك . . لأنك كنت حجة على الدعاة وشاهداً على الناس . . نعم يا
سعيد . . كنت تريد الداعية المهاجر ألا يثقله المتاع في بلاد الرفاه، فيمكث فيها
بالعشر والعشرين والثلاثين بحجة العمل للدعوة وهو في الحقيقة قابع لأجل المال
والمتاع!!وكنت تريد للداعية الأنصاري أن يمنح أخاه المهاجر كل الحقوق، وأن لا
يترفع عليه، وأن يقاسمه الحوار والنصح والنقد والعدالة، وكل ضوابط أخوة المهاجرين
والأنصار!! وكنت تريد من الجماعة الحركية ألا يكون قيمة صوت أحد أفرادها بما يملك
من مال ومن جاه!!بل بما يملكه من أخلاق ومن جرأة ومن نخوة ومن تجرد حقيقي لا دعائي
!!وكنت تريد أيضاً من الجماعة الحركية أن تكون واعية إلى درجة تقدر فيها أن تكشف
أي قيادي فيها اندس في صفوفها خلسة أو ارتقى في مناصبها في غفلة من زمن، تريدها أن
تكشفه لتخرجه من الصفوف…كنت تريد كل داعية أن
لا يخاف من أحد إلا رسول الله، وأن لا يهتز قلبه خوفاً أو طمعاً من أخيه في الله
مهما كان أخوه صاحب مال أو منصب أو جاه…نعم…كنت تريد
الجماعة الحركية…أن تكون في المستوى
الرباني اللائق…لهذا حسدك البعض من
إخوانك وقاتلك البعض الآخر…وشهر بك آخرون ولكنك
صمدت أنت ورجال من أمثالك مهاجرون سواء في العلم العربي والإسلامي أو في أوروبا
وغيرها فكنت حقاً جديراً بالمجد ألا رحمة الله على معلمي ورفيق دربي الشيخ سعيد ف
إلى اللقاء في جنة الخلد، في رحاب الله ومستقر رحمته([10])
.
وأختم هذه
المقتطفات بهذه الكلمات للأستاذ ياسر زعاترة –رئيس تحرير
مجلة فلسطين المسلمة : كفكفي الدمع أيتها النواعير الحزينة رغم أنك قد أدمنت الحزن،
كفكفي الدمع فالشيخ لم يمت، وهل يموت الأولياء وفي الدنا طفل بريء، هذي النجوم قد
رحلت منذ آلاف السنين، وها مواقعها تضئ، فالشيخ باق ما بقيت حروفه التي نثرت على
الصفحات تعلن أن مزابل التاريخ مشرعة لمن تنادوا لكي يسرقوا منا النهار.
أترى تراك
حماة مشتعلاً بجذر نشيدها وتنام؟!!
أو هل تراك
تغيب قسراً عن سنابلها.
ولا يبكي
الغمام ؟!!
بل كيف
تشهر طلقة الروح الأخيرة.
في وجه
قاتله وينساك الحمام !
يبكيك سيف
الحق في وطني وينتحب السلام.
كنت أجلس إليه كصوفي أمام شيخه لا يعرف الهذر
إلي لسانه سبيلاً فليس ثمة لحظة تمضي وأنت بين يديه إلا ويعطيك فيها خفقة من قلبه
وشعاعاً من عقله حتى إذا أضحكك بنكتة، كانت هي الحكمة بعينها.قتلته هموم أمته، ولوعته
أحزان الثك إلى والمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، ولذا فقد كانت النهاية
بالنسبة له واضحة.
قد قلت لي :
إن الذين يعشبون عقولهم كي تزهر الأفكار.
قد عرفت نهايتهم.
فموت أو جنون.
إن كان حقاً ما تقول فهب لروحي لحظتين.
لكي أرتب شكل موتي.
فالهم وحدنا، وفرقنا المنون([11])
.
وبعد:فهذه كلمات واقتباسات وشهادات أحببت أن أضعها
بين يدي القارئ الكريم تذكر بالمؤلف وتسدي له بعض ما له من حق علينا، وتعين على
تصور فكر الشيخ، وفهم آرائه ونظرياته في العمل الإسلامي.
سادساً: الشيخ أباً ومربياً
مع بدأ
تفتح وعيي المعرفي بدأت أشعر –وهذا ما غرس تماماً
بعد اكتمال النضج –أن الوالد بالنسبة لنا
أكثر من مجرد كونه والداً فكل حركاته وأقواله وأفعاله ومواقفه داخلياً وخارجياً كانت
تشكل بالنسبة لنا مدرسة متكاملة وكانت قضية تربية الأبناء إسلاميا مع زرع الخصائص
المتميزة فيهم هاجساً مهماً بالنسبة لوالدي رحمه الله.أذكر كنت في الصف الثاني
الابتدائي وعمري سبع سنوات تحدث إلينا الوالد رحمه الله عن النجاح والتميز في
الدراسة فقلت يمكن أن أكون الثاني أو الثالث على الصف فما رضي ذلك مني، فكان يشكل
الدافع والحافز المستمر لنا للتميز واكتساب أسباب النجاح.وما يترك مناسبة يزرع
فيها معنى تربوياً إلا ويغتنمه.
ما كان
يسمح للخطأ أو الانحراف أن يتسلل، وإن وجد فلا يستمر، إن أجدى التنبيه قضي الأمر
وإلا فلو اقتضى تكرار الملاحظة فعل بلا ملل فإن لم يكن إلا العقوبة فعل، وإن كان
الأكثر من أحواله أن يأخذنا بالنصح المسبق والترغيب ولطالما عقد لنا جلسات عائلية
لغايات المدارسة التربوية فينبه على أدق الأمور والتفاصيل: كيف تتطهر، كيف تستتر، كيف
تتكلم، رفع الصوت، كيف تخاطب الأكبر سناً، كيف تتعامل مع الأشياء وتحافظ عليها، كيف
ترعى حرمة الجيران. ولعل كتابه الموجز (قوانين البيت المسلم ) أنموذج لما كان
يوجهنا به من خلال تلك الجلسات وكان له اهتمام خاص بعقد الجلسات العلمية الشرعية.
ولقد كان
رحمه الله كما يعرفه أقرب الناس إليه سهل المعاملة لين الجانب حلو المعشر والمنطق
دائم الإبتسامة رقيقاً متواضعاً في تعامله حليماً غاية الحلم فانعكست هذه القضايا
علينا في تربيته لنا فلطالما مازحنا وداعبنا وقدم الهدايا العينية والنقدية
وجالسنا وآنسنا بحلو حديثه فإذا وقعت معصية وخاصة إذا تكررت فكان له موقفه الذي
يحسب له ألف حساب وبالرغم من إصابته بمرض السكري واشتداده في أواخر حياته وضغط
الأعباء الدعويه والهموم السياسية وغيرها مما افقده قدراً من حلمه فصار في آخر
حياته يسارع إليه الغضب تجاه بعض القضايا التي كانت بالنسبة له ذات حساسية كبيره
فإننا مع ذلك لم نلمس منه داخل بيته إلا الألفة والمودة والأنس والحب، أقول:
بالحلم والأنس وبالحب واللطف قاد سفينة البيت مع ما يقتضيه كل موقف.
وأود من
خلال المنهج العملي الذي ربانا عليه رحمه الله أن أضع بين يدي القارئ أهم القواعد
والأسس التربوية التي ربانا عليها رحمه الله، فمنها:
ـ المحاسبة الدقيقة إشعارا بتحمل المسؤولية والقيام بالواجب
على خير وجه ممكن فمثلاً طلب مني أن أتدرب على الخط وبين أن الخط لابد أن يكون
جميلاً وتابع ذلك معي مراراً، ويكلفنا أحيانا بشراء أمور ثم يحاسبنا بكم اشترينا
وكيف ثم يكرمنا بعدها، ولقد عقد لنا اكثر من محاكمه علنيه لبعض التصرفات مع إحضار
الشهود.
ـ التدريب على تحمل المسؤولية ايضاً كلفني على صغري وأنا
دون الخامسة ربما، أن اشتري له نوعاً من الأقلام فلم أوفق أول مرة إلى ذلك فأعادني
كما أذكر أكثر من مرة إلى المكتبة حتى تمكنت من تحقيق طلبه، كما كلفني أن أقوم
وأنا في الثالثة عشرة من عمري بمهمة دقيقة كانت سبباً في إنقاذ حياة إنسان وصاحبها
موجود، وأرسلني من عمان إلى دمشق ثم حماه وعمري خمسة عشرة عاماً بمفردي.
ـ التدريب على الشجاعة والجرأة ومن ذلك كان يعرضنا لبعض
الأخطار فرفعني مرة في الهواء وأنا صغير دون الخامسة باتجاه مروحة في السقف فشعر
أنني أتخوف من ذلك فكررها مراراً.
ـ العقوبة المناسبة في وقتها وقد يظن البعض انه ليس من
المناسب الضرب، أقول اذكر مرة أني شتمت أخي فكان عقاباً عسيراً لكن ما تكررت مني
هذه المعصية.
ـ الترغيب والتشجيع وطالما كان يكافؤنا لأي عمل صحيح نقوم
به.
ـ الحوار والمجادلة، حتى كان يجلس معنا جميعاً أو يتفرد
بأحدنا؛ فيحاورنا بقضايا تتصل بالسياسة أحياناً، أو الفكر أو الشأن والهم
الإسلامي.
ـ الاهتمام بقوة البدن والجانب الرياضي ولقد كلف اكثر من
مرة بعض الإخوة ليدربونا على الجيدو والكراتيه وغيرها.
ـ حرصه على غرس المعاني الإيمانية: فقد كانت قضية تزكية
النفس وغرس الإيمان في القلب الشغل الشاغل الأكبر له رحمه الله، لذا نجده لا يفتأ
يفسر ويشرح ويبين في معاني قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم
آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب الحكمة...) ومعاني قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين
بما كنتم تعلمون من الكتاب وبما كنتم تدرسون) وكان من أثر ذلك ثلاثة كتب في
التزكية: تربيتنا الروحية، والمستخلص في تزكية الأنفس، ومذكرات في منازل الصديقيين
والربانيين.
وأستطيع
القول: إن الإلحاح المستمر على هذه القضايا كان معلماً واضحاً في حياته، بحيث
نشأنا وكأنه لا قضية فوق هذه القضية، ثم عقد المجالس التربوية التي تضمنت التوجيه
المباشر والتذكير منه رحمه الله، أضف إلى ذلك المواقف الخاصة له التي كانت تغرس
فينا هذه المعاني، يزرع فينا معاني التوكل على الله والثقة بما عنده والزهد في
الدنيا من خلال كثرة الإنفاق الذي كنا نلمسه ونشاهده وبشكل منقطع النظير يعرفه كل
أحبابه عنه حتى عاد من السعودية بعد تدريس خمس سنوات هو ووالدتي وهو مدين، والناس
كما تعلمون يذهبون لتلك البلاد ليوفروا ما يتيسر من متاع الدنيا.يربينا على معاني
الجهاد والشجاعة والتضحية ومن ذلك أنه أخرجنا بنفسه مرة ودربنا على استخدام السلاح
في منطقه نائية.
وأصر أن
نشارك إخواننا محنتهم يوم أحداث حماة من خلال الاستعداد لما يمكن وكنت في سن
السابعة عشرة ومعي أخي أحمد ويصغرني سنة علماً أنه أصر أن ألتحق بمدرسة للتدريب
الكشفي ونحوه في سن الخامسة عشرة، المواقف المؤثرة والعملية منه كانت من أكبر
الجوانب التي زرعت فينا قضايا التزكية ومعاني الإيمان، وما عرفناه عنه من كثرة
العبادة والذكر سبب آخر يمارسه في نفسه ويوجهنا إليه باستمرار ولقد كان في شبابه
أكثر صياماً وذكراً ومجاهدةً وقياماً وتلاوةً لكتاب الله ولطالما حدثنا جدي وجدتي
عن مجاهداته وتلاواته وصيامه وقيامه فكان ذلك يشكل حافزاً لنا، إنما بسبب المرض في
آخر حياته ضعف عن بعض الأعمال، ومع ذلك كان في مجلسه الخاص دائم الذكر
فكان ذلك
مذكراً لنا بذلك.
ـ التوجيه إلى القراءة: أذكر كان يوجهنا إلى قراءة عدد من
الكتب ذات الفائدة الخاصة في النواحي المختلفة الأدبية والشرعية والثقافية، فمن
الناحية الأدبية وجهنا لقراءة كتب مصطفى صادق الرافعي وقصص نجيب الكيلاني وكان
يهيأ لنا ذلك، ويلمح لنا إلى كيفية الإفادة من الكتاب والقراءة السريعة كأن تطالع
الفهرس لتقف على الموضوعات التي اشتمل عليها الكتاب لتأخذ تصوراً عنها، ثم نقرأ
المقدمة لتجعل بينك وبين الكتاب وموضوعاته جسراً وتواصلاً، ثم كيف تكون القراءة
السريعة المعتمدة على التركيز وقطع أسباب الإنشغال، إلا إذا كان الكتاب من الكتب
الدقيقة أو العسيرة في بنائها، فتهيئة الكتاب والتوجيه إلى المهم منه والثناء على
بعضها بما تستحق والتوجيه إلى حسن التعامل وسرعة القراءة أسباب في نماء حب
المطالعة. ولكن أعترف أننا لم نرق إلى بعض يسير مما كان عليه الوالد من كثرة
المطالعة وسرعتها.
ـ مراعاة قضية الوقت: من يعرف الوالد رحمه الله يعرف تماماً
كم كان العمل العام يستغرقه، حدث بعض تلامذته عن الدروس والجلسات العلمية التي كان
يعطيها لأبناء الدعوة حتى إلى ما بعد منتصف الليل ثم كان عليه أن يذهب إلى دوامه
مبكراً، وكان زواره كثر وما كان يعتذر لأحد تقريباً إلا لضرورة قاهرة حتى في مرضه،
ولذلك كان بعض الناس يتساءل متى يتسنى للشيخ أن يكتب مؤلفاته الكثيرة. والواقع أنه
كان ينظم وقته ما استطاع، فعلى سبيل المثال ما بعد الفجر كان للتأليف غالباً وهذا
وقت لا يشغله أحد فيه ثم كانت محنة السجن ساعدته إلى إنجاز التفسير وبعض الأعمال
الأخرى، ومهما استطاع أن يقتطع لنا من وقته جزءاً إلا وفعل، فإن خرج إلى المسجد
اصطحبنا معه وإن عقد مجلس علم شاركنا فيها، وإن زاره الضيوف متعلمين مسترشدين
جلسنا بينهم، وإن كتب وألف أجلسنا معه نشاركه ونعينه في الكتابة والتأليف والنسخ
فكنا جسماً واحداً لا نشعر أبداً أنه ينشغل عنا إلا لما كان الأمر يتعلق بالعمل
السياسي الخاص، وإلا ففي أعماله الأخرى كان حريصاً أن نكون معه ونشاركه في كل شيء.
على أنه
يمكن تقسيم مراحل حياته هذه إلى أربع مراحل وهي :
الأولى: مرحلة
السعودية وكنا دون السادسة من عمرنا وهي من أكثر المراحل انشغالاً بالنسبة له ومع
ذلك ألف سلسلة الأصول الثلاثة وجند الله وبعض المؤلفات الأخرى، ولكن لصغر سننا
كانت الوالدة جزاها الله خيراً هي الأكثر اهتماماً ولصوقاً بنا، ولقد أحسن الله
إليه وإلينا أن وفق للزواج من امرأة صالحة عابدة عالمة من بيت علم ودين وخلق فكان
لها أعظم الأثر خاصة في مرحلة الطفولة وما تلاها.
الثانية: مرحلة
السجن وعمري كان فيها ما بين الثامنة والثالثة عشرة ومع ذلك كلما زرناه في السجن
وكنا نزوره كل أسبوعين مرة فقد كانت التوجيهات المختلفة هي محور حديثه :كم حفظتم
من كتاب الله، ما أخبار العالم الإسلامي ومن خلالها يزرع فينا معاني الاهتمام
بقضايا المسلمين والموقف منها، كيف صلاتكم والتزامكم بالمساجد، ما نتائج
امتحاناتكم. تلك كانت محاور أساسية فما انقطع التوجيه ومع ذلك بفضل الله، ثم
الوالدة قد غطت هذه المرحلة تماماً.
الثالثة: 78 - 82 وانشغل بها كثيراً في أعمال
الإخوان وقيادتها لكن كان يقتطع من وقته لنا ما يسدد به مسيرتنا.
الرابعة: ما
بين 83 - 89 حيث كان أكثر وقته يمضيه إما داخل البيت أو في عمل دعوي تربوي فكنا
شبه ملازمين له رحمه الله.
سابعاً :الشيخ سعيد حوى مع ذكريات ومواقف خاصة
إن الحديث
عن أي علم من الأعلام يبقى محفوفاً ببعض المحاذير، فكيف إذا كان من يتكلم من يتكلم
أو يكتب هو ولد العَلَم، وفلذة كبده! ولكن رأيت أن أنزل عند رغبة الأخ محرر الكتاب
أتحدث ببعض ما أظنه نافعاً مفيداً من ذكريات ومواقف وقضايا بإيجاز يتناسب مع
المقام. وأبدأ بهذا الموقف المؤثر في نفسي إلى الآن، فقد كان والدي رحمه الله قد
أدخل السجن عام 1973م أثر ما سمي فيما بعد بقضية الدستور، وذلك بسبب نشاطه الكبير
في جمع كلمة العلماء وإصدار بيان موحد لعلماء سوريا يبين موقف الشرع وما يجب على
الشعب والسلطة.
ففي أول
زيارة لنا لوالدي رحمه الله في السجن-حين كان يسمح للسجين أحياناً برؤية أهله
!-أخذ يشد من عزيمتنا وكان مما قاله:إنني وصلت في تأملاتي في تفسير القرآن إلى قوله
تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً)، وقد كانت مناسبة طيبة جدا
بالنسبة له ولنا؛ أن يتناول هذه الآية العظيمة بالتفسير لأن المقام يحتاج إلى جلد
وصبر وتحمل في سبيل الله والقرآن والدعوة، ثم أن يكون يحيى الذي يخاطب بهذا النداء
العظيم صبياً ونحن أولاد الشيخ لم نبلغ الحلم، لحظة زيارته، يخاطبنا بهذا النداء
مما كان له أكبر الأثر في نفوسنا.
فهو يعتبر
رحمه الله أن هذه الآيات في سورة مريم نقاط علام أساسية في تربية الأولاد والشباب
وتمثل بالنسبة للداعية منهجاً ينبغي أن يسير عليه في تربية أولاده ومن حوله، أن
تربي ولدك على أخذ الكتاب بجد وعزيمة، وتنشؤه على فهم الحكمة والتحقق بها وتربه
على التقوى والطهارة في الأخلاق والسلوك والبر بالوالدين والتواضع مع خلق الله
جميعاً والرحمة بهم. (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا
وزكاة وكان تقياً وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً). هذا محور أول لقاء نلتقي
به بوالدي رحمه الله في سجن المزة في دمشق، وكان عمري حينذاك نحو من عشر سنين، وما
زالت كلماته وقسماته ونبرات صوته والآمال التي يبنيها والهمة العالية التي يبديها
تتخايل أمام ناظري رحمه الله. كان رحمه الله من خلال ذلك يريد جيلاً غير عادي لحمل
دعوة غير عادية في ظروف غير عادية للوصول إلى أهداف متميزة في كل شيء فأين نحن من
ذلك.
وفي هذا
الاتجاه زرناه مرة أخرى في سجن المزة العسكري عام 1975م وكانت أحداث لبنان على
أشدها ومذابح تل الزعتر بالمسلمين الفلسطينيين العزل هناك تتوارد أخبارها إلى الناس،
فكان مما قاله لي والدي رحمه الله أمام مراقبه في السجن أن أعز أمنية لي في هذه
اللحظة أن أحملك وأضعك في تل الزعتر لتجاهد في سبيل الله. فقد كان يحترق لما يسمع
أخبار المذابح، والمسلمون مكبلون لا يستطيعون فعل شيء تجاه إخوانهم والعدو يجثم
فوق الصدور. هذه نسمات روحه التي كان يبثها فينا رحمه الله، لقد كان في السجن وكان
في كل لقاء يعطينا درساً لا ينسى في التربية الجهادية أو الأخلاقية أو القرآنية. وأذكر
أنه كان دائم السؤال لنا أين وصلت في حفظ كتاب الله تعالى، ويوماً زرناه وكنت قد
حفظت سورة التغابن، فسألني مبتهجاً :أو قد حفظتها؟!وقال مشجعاً لي:إن هذه السورة
من أكثر السور التي وجدت صعوبة في حفظها، وكأنه يقول لي :وإذ قد حفظتها فغيرها
أيسر، فلا تتأخر.
وأجدني
بدأت بذكرياتي من مرحلة السجن لأنها المرحلة التي بدأ وعيي يتشكل فيها.
منحة في محنة!
فما وعينا
على والدي رحمه الله إلا وقد غيب في سجون الظالمين لقول كلمة الحق التي لم يكن
يخشى فيها لومة لائم، وقد كان عمري يوم اعتقل ثمان سنوات.وأذكر يوم أن جاءت النذر
والأخبار لتقول إنك أيها الشيخ سعيد ستعتقل، فعليك بالاختباء والتواري عن الأنظار،
وجدي رحمه الله يلح على والدي في ذلك، ووقف والدي رحمه الله في ساحة المنزل يتأمل في
الطائرات المروحية التي أخذت تجوب أجواء المدينة، ثم قال :ليقضي الله أمراً كان
مفعولا وأصر في اليوم التالي أن يذهب إلى عمله في التدريس كالمعتاد ليعتقل من
هناك.ولقد كان لهذا الاعتقال بركاته، وكم من منحة جاءتك في طي محنة كما يقول
العارفون:فمن بركاته، هذا التفسير الكبير(الأساس في التفسير) في أحد عشر مجلداً، والعديد
من مؤلفاته الأخرى ونواة كتاب الأساس في السنة...
الأب الحنون
قَلَّ أن
رأيت شدة في لين وحزماً في حلم، وقوة في رحمة؛ كما رأيت من والدي رحمه الله؛فإنه
ما من عقوبة لذنب إلا ويعقبها مصالحة وترضية كما يقولون، وهذه العقوبات إنما هي
استثناء في حياته، وإني لأعدها على أقل من عدد أصابع اليد، فقد كان يحتمل منا
كثتراً ويتجاوز عن كثير من الهفوات حتى إذا طفح الكيل جاء الكيل وافياً ومناسباً.
أما في باقي وقته فقد كان في بيته مرحاً مداعباً غاية في اللطف والأنس وحلو الكلام
ينبض قلبه بمشاعر الأبوة والحنان بغزارة، ولقد كانت أختي الوحيدة يوماً بعيدة عنه
في سوريا وهو في السعودية فقال فيها شعراً، وكان مما قال :
وتعطفني نحو البـلاد
أواصـر تـذوب
لها روحي وقلبي المدنــف
وأغلى الغوالي؛ فلذة سال دمعها تنـادي أبـاها كل حيـن فتسرف
فلا قلبها سـال ولا أنـا سامع ولا الصبر مسطاع ولا الوصل يسعف
وبمناسبة
ذكر هذه الأبيات الشعرية أذكر أنه زار يوماً في المستشفى الإسلامي المرحوم الشاعر
عبد القادر حداد رحمه الله، وهو أخ كريم ذو شاعرية فذة لكن لم ينشر عمله الشعري
بعد فيما أعلم، فتبادلا أطراف الحديث فكان مما قاله والدي في تلك الجلسة تلك
الأبيات وأبيات سأذكرها. فرأيت الدموع تترقرق من بعض الحاضرين تأثراً بشعره ونبرات
صوته وطريقة إلقاء، حتى عده الأخ الحداد من عيون الشعر...
نفس تأنف الذل
وإذا انتقل
بنا الكلام إلى الشعر، فقد كان رحمه الله يعمل في السعودية مدرساً، وقد تطاول عليه
بعض مدرائه مشيراً له أنكم جئتم تجنون المال من بلادنا فكانت هذه الأبيات التي
تمثل عزة المسلم وعنفوانه وإباءه ورسالته في حياته:
حـذار المسـاس
بحريتــي فكسر
الكرامــة لا يجبـر
إذا
ألف النــاس عيش العبـيد فأعرقكم
بــــه الأمهـر
فإني ألفـت الحيـــاة
التي يفوح منـها العبق الأعطـر
حيـاة الجهـاد وكلي جهـاد
وكلي كفـاح ولا
أضجـر
وإنـي تركت
البــلاد التي
هي الوطن الأطيـب الأطهـر
لأنـي خـشيت ذليـل الأذى وظلمـاً أراه فـلا أنكــر
فلا يطمعنك
أنـي غـريـب فعودي صـلب ولا يـكسر
سـأنفض عنـي الغبـار الذي أصـاب ثيـابي ولا أشـعر
وأعصـر جسمي فخـذ مـاءه وأعصـر
ثوبي إذا يعصـر
وأتـرك فـي أرضـكم مالكم وأمضـي
إلى حيث قد أعذر
وقد كان
منه رحمة الله عليه أن غادر تلك البلاد في أخطر مرحلة تمر بها سوريا، غادر ليدخل
بعد ذلك إلى السجن خلال فترة وجيزة ويمضي فيه خمس سنوات متتالية.
ولك أن
تحلل أي نفس مؤمنة عزيزة أبية وأية مشاعر كان يحمل الشيخ حتى لقد تعب وأتعب من
بعده.وكان مما قال شعراً:
وما هجرت عن طيب نفس وإنمـا بنو
قومـنا جاروا ونفسي تأنف
بقـاء بأرض قـد تمـادت بغيها وأعيـا
بنيها أن يقيموا فينصفوا
إلا أنه
بعد ذلك يقول عائداً إلى بلاده:
تذكرت أوطاني فهـاجـتني الذكرى وأيقنت
أن المكث فيها هو الأحرى
وقد أخطأ النــاؤون عنـها وإنني لأكبرهم خطــأ وأكثرهم وزراً
حقيقة أني
كلما تمثلت بهذه الأبيات شعرت أنها تمثل منهج حياته وطبيعة روحه وصورة صادقة
لعواطفه ومشاعره.وفي صدد الحديث عن المشاعر أتحدث عن جوانب من الإخاء والحب في
الله والعطف والحنو كان صدر الشيخ رحمه الله يفيض بها؛فما كان يسمع بمريض من
إخوانه أو محتاج أوذي مظلمة وأمكنه أن يزوره أو يقدم له عوناً إلا فعل إلا أن يحول
بينه وبين ذلك حائل من مرض أو انشغال بأهم، وإذا لم يمكنه أن يفعل شيئاً بنفسه كان
يحاول أن ينيب أحداً عنه في ذلك.ولا غرو في ذلك فهذا ما أدبنا عليه رسول الله عليه
الصلاة والسلام وهذا شأن الداعية في كل وقت، والقصص في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة
واعتقد أن هذه الإشارة كافية لذلك.
رعاية طلاب العلم
وكان يقدم في هذا الجانب طلبة العلم الشرعي على
سواهم : إذ هم اكثر الناس تعففاً وانشغالاً بالعلم عن الكسب الدنيوي وقل من يلتفت
إليهم من الأغنياء وكان يرى أنه إذ أمن لطالب العلم حاجته فان ذلك يجعله يقدم
ويعطي الأمة كثيراً وأنهم أولى من غيرهم بالرعاية إكراماً للعلم الذي يحملون وكثير
من إخواننا وللأسف عن هذا غافلون.
إنفاق بلا حدود
وهنا قد يسأل البعض من أين ينفق الشيخ رحمه
الله؟! كانت سنته في ذلك "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" فكان
بعض أهل الخير يعلمون من الوالد أنه ينفق هاهنا وهاهنا ويقصده الناس فكان البعض
يضع تحت تصرفه شيئاً من زكواته أو صدقاته، فإذا لم يجد شيئاً من ذلك ووجد عنده
شيئا وقل أن تجد عنده شيئا من ماله أعطى وكان أحيانا يقترض ليلبي حاجة ثم يسدد بعد
ذلك مما يأتي من سهم الغارمين أو من ماله أو غير ذلك.
وإذ
انتقل بنا الحديث إلى المال أقص هذه القصة المؤثرة في نفسي إلى الآن، فكما قلت كان
رحمه الله لا يدخر شيئا وكان منهجه ـ كما ذكرت ـ أنفق بلال. وفي عام 1987م قبلت
أنا وأخي في الدراسات العليا في الجامعة الأردنية وكان ذلك يقتضي منا أن ندفع رسوم
التسجيل، وكانت تزيد عن 350 ديناراً أردنياً لكل واحد، ولم نكن نملك منها شيئا حتى
فكرنا بالعدول عن التسجيل وكادت تضيع الفرصة والوالد رحمه الله صامت لا يتكلم بشيء.
وفي
صحوة النهار علم بأن أخا في الله عاد من سفر، فرأى أن الواجب يقتضي الذهاب للسلام
عليه، وكانت زيارة عادية جداً، ولم نكن نفكر بشيء لحظة الزيارة ولم نفتح مع الأخ
المزور أي حوار يفهم منه شيئا ما بصدد ما نحن فيه من الضيق وغير ذلك، وإذا بالأخ
ونحن نهم بالخروج من عنده يعطي الوالد رحمه الله مغلفاً يشتمل على شيء من المال
يتصرف فيه، وهاهنا ما كان الوالد رحمه الله إلا أن صارحه بحاجتنا لرسوم التسجيل في
الجامعة، واستأذنه بذلك! "ومن يتق الله يجعل له مخرجا".
وحقيقة
فإنه كما كان الوالد رحمه الله يتمثل بـ"أنفق يا بلال" فإن كرم الله لا
حدود له" ولا تخش من ذي العرش إقلالا" فلم نمر بضائقة يوماً إلا ويسر
الله فكها بأيسر السبل.
وأعود إلى
موضوع الزيارات قليلاً: كان رحمه الله حريصاً على زيارات إخوانه في مرض أو حاجة
وأذكر ـ فيما أذكر ـ إلى الآن
زيارته للمرحوم أحمد قطيش في المستشفى الإسلامي وزيارته للشيخ ناصر الألباني.
ولك أن
تقف من خلال هاتين الزيارتين على جمل من أدب أهل العلم مع الموافق لهم في الرأي
والمخالف في آن واحد.
فأذكر
أن الشيخ ناصر طرق بعض الموضوعات التي ربما للوالد رحمه الله رأي فيها، لكنه استمع
إليه منصتاً دون أن يحاوره بشيء، فالرجل أكبر سناً وهو في زيارة مريض ليس من
المعقول أن يحاوره فيها.
أما
زيارة المرحوم أحمد قطيش ـ أمين عام الجبهة الإسلامية في الأردن سابقاً ـ فقد كانت
مجالاً لتناول هموم الأمة ومشكلاتها بالرغم من أن كلا الرجلين كانا مريضين.
وكان
يطلب مني بعض طلبة الجامعة لما كنت أدرس فيها اللقاء بالوالد رحمه الله، فما كان
يرد طلباً لأحد منهم طالما أن الظرف يسمح بذلك… مرة التقى ببعض الشباب الذين هم على أبواب التخرج من المرحلة
الجامعية الأولى وجرى حديث حول أمور السياسة والفقه ومستقبل العالم الإسلامي، فكان
مما قاله لأولئك الشباب أنتم أساتذة ولستم طلبة فماذا تريدون أن أزيدكم، قال ذلك
لما رأى من نضجهم ووعيهم… وقد كان هذا شأنه مع الناس يتواضع لهم وينزلهم منازلهم ويكرمهم.
رعايته لأهل بيته
كان رحمه الله رغم كثرة مشاغله الدعوية
والعلنية والسياسية يولي بيته رعاية خاصة ومن القضايا التي يوليها الوالد رحمه
الله اهتماما خاصاً قضية العلم والذكر وتعميق محبة الله ورسوله في قلوبنا، فلا
يترك مناسبة لذلك إلا ويستثمرها، أذكر مرة أنه أهدى إلي وأنا صغير (مسبحة) جميلة
فأعجبت أخي وأرادها فكان الوالد رحمه الله حكيماً، فكان أن أشترط على من يأخذها أن
يصلي في اليوم على رسول الله ألف مرة، فمن يقوم بالشرط يأخذها وكانت من نصيب أخي.
كما
أنه أخذ علي مرة العهد أن ألتزم ورداً يوميا يسيراً، لكنه في التربية مهم، وهو
مائة مرة استغفار ومائة مرة تهليل ومائة مرة صلاة على رسول الله عليه السلام وثلاث
مرات سورة الإخلاص صباحا ومساء ما أمكن.
وكان
يعقد لنا في البيت جلسات لتعليم تلاوة القرآن وتفسيره، وقد قرأنا على يديه كتاب
شرح جوهرة التوحيد في العقيدة وكتاب قطر الندى وقسماً من المجلد الأول من الأساس
في التفسير وقرأنا بحضوره على الشيخ وهبي الغاوجي الألباني متن اللباب المسمى
(الكتاب) في الفقه الحنفي، وكان يحرص أن يشركنا معه في جهوده في التأليف بقصد
الإفادة وتحصيل العلم وجعلنا قريبين منه نفيد كما يفيد هو ويفيد.
كان
التحقيق العلمي البعيد عن أي تعصب أو انطواء أو مذهبية منغلقة شأنه دائما، يأتيه
المستفتي الذي وقع في حرج ما جراء مسألة فإذا وجد المخرج له في مذهب غير مذهبه
الحنفي أفتى له بذلك أو أرشده إلى من يثق به من العلماء، وقد كان حريصاً على أن لا
يخرج عن آراء أهل العلم مجتمعين . . كان بعض الأخوة التجار يسألونه عن رأيه في
التأمين، فيقول لهم الأستاذ مصطفى الزرقا يجوّز ذلك بشروط، يقولون نريد رأيك،
فيعيد عليهم شيخنا الزرقا يجوز ذلك بشروط.
وأعود
مرة أخرى إلى جلساته التربوية في البيت فلشدة اهتمامه بذلك عقد لنا عدداً من
المجالس التربوية كان ثمارها رسالة بعنوان "قوانين البيت المسلم" نشرت
مختصرة ضمن كتاب "كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر" بل تستطيع أن
تقول إن جل ما في هذا الكتاب، وكتاب مذكرات في منازل الصديقين والربانيين وجند
الله تخطيطا وجند الله تنظيماً وغيرها من الكتب هي ثمار جلسات كان يعقدها لإخوانه
وأحبابه وأهل بيته.
وحدثني
بعض الأخوة الذين عاصروا شباب الوالد رحمه الله أنه درسهم مضامين كتاب
"الله" و"جند الله" و"المدخل" قبل أن يكتبها رحمه
الله على هيئة كتاب.
حرص على الوقت
وهنا تخطر ببالي قضية بمناسبة الحديث عن العلم،
فكثيراً ما يسألني بعض الأخوة متى كان الوالد يكتب ويؤلف رغم هذه الأنشطة الدعوية
والحركية والسياسية والأمراض الكثيرة فمؤلفاته زادت على أربعين مجلداً.
لقد
كان يحاول أن ينظم وقته ما استطاع، فوقت الصباح بعد صلاة الفجر إلى ضحوة النهار
يحاول أن يستثمر في التأليف، فإذا لم يكن ذلك لسبب من الأسباب فإن الوقت الآخر
الذي كان يفضله بعد صلاة العشاء إلى الفجر وفي النهاية ينام قليلاً، ويقوم
بالأعمال الدعوية العامة، وقد كان يحاول في كل فترة من الزمن أن يعتزل الناس لفترة
من الوقت ينجز فيها أفكاراً اختمرت في ذهنه ليخرج لنا كتاباً من كتبه، كما أن فترة
السجن كان لها فضل في ذلك. ويسأل بعض الأخوة كيف كان يعيش الشيخ في بيته، كيف كان
يأكل ويشرب وينام ويتعامل مع أهله، والحقيقة أن الأمر أبسط وأيسر من ذلك بكثير، فلربما
من يرى الوالد رحمه الله لأول وهلة خاصة إذا رآه يتحدث أو يخطب أو يحاضر فلربما
أوقع ذلك في نفسه هيبة أو رهبة، كما كان بعضهم يذكر، لكنها سرعان ما تتقلب أنسا
ولطفا وبساطة، إذ هكذا كان بساطة في كل شيء لا يعرف شيئاً اسمه التكلف.
أذكر
أنه يوماً دعا بعض الأخوة إلى غذاء ونسي أنه قد دعاهم وقد كان عنده ضيوف فوضع لهم
ما تيسر من طعام ثم حضر الأخوة المدعون أصلاً، وكان الغداء قد انتهى ولم يكن عندنا
شيء جاهز نقدمه لهم فقام رحمه الله بنفسه إلى المطبخ واعد لهم غداء متواضعاً
وسريعاً شيئاً من الأرز مع ما يسمى عندنا بالملفوف وهو من أنواع الخضار، ولبساطته
كان يحب أن يخرج إلى النزهة مع إخوانه وأهل بيته ويحب أن يخدم غيره بنفسه وكثيراً
ما كان يعد لنا نحن أهل بيته أصنافاً من الطعام بسيطة لكنها لذيذة كفتة الحمص أو
الدجاج أو المتبل البستاني، ويحب أن يدخل السرور على أهل بيته ويشاركهم في أعمالهم
البيتيه كما هي السنة عن رسول الله عليه السلام.
ونعود
مرة أخرى إلى بعض الشؤون العلمية، فلقد كان حريصاً على الحق أينما كان متواضعاً في
طلبه، أذكر أنه مرة ألقى محاضرة في الرياض حول منطلقات إسلامية لحضارة عالمية
جديدة (نشرت) فقام أحد الأساتذة ليقول أن هذه المحاضرة عاطفية أكثر منها عقلانية، وقام
آخر لينتقد تلك المنطلقات بأنها حالمة أكثر من كونها واقعية، وكل أخذ يدلي بدلوه
منتقداً ومنقحاً أو أحياناً ذاماً وأحياناً مادحاً، وبعد أن أنهى كل مقالته كان أن
قال لهم لئن كانت هذه انتقاداتكم فقط فأنا إذن سعيد جداً فقد أبقيتم أكثر مما
رفضتم أو نحو ذلك.
وواجهه
بعض الأخوة بانتقادات وخاصة لكتاب تربيتنا الروحية وكان مما قاله في هذا الشأن
للشيخ ابن باز ضع يا فضيلة الشيخ ما تريد من تعليقات وتصويبات وأنا أطبعها مع
الكتاب دون تعليق. وقد بلغني أنه قال هذا لآخرين ممن يثق بهم من أهل العلم.
تلتقي
في شخصية الشيخ روح المداعبة والبساطة مع هيبة أهل العلم ووقارهم وحزم الساسة
وحكمة الكبار وحلم المربين ولبساطته فقد كان لا يتكلف في لباسه وخاصة في البيت
وكان مرة يلبس ثوباً قصيراً وتحته سروال طويل كاللباس الباكستاني وزاره أحد الشيوخ
الكبار وهو ممن يحب المداعبة والنكتة فقال مداعباً يا شيخ نحن في مستشفى المجانين
(نظراً لطبيعة اللباس) فقال والدي مداعباً الشيخ: يشرفني أن أكون في مستشفى أنت
مديره، وضحكا . .
يتلقى من الآخرين انتقاداتهم بصدر رحب، من ذلك
أنه زاره في مرضه الأستاذ زهير الشاويش ووجه له ثلاثة انتقادات حول كتاب هذه
تجربتي، مفادها أنه أعطى مدينة حماة أهمية أكبر من حجمها، وأنه لم يف بعض الشخصيات
حقهم، وأنه كبر من حجم بعض الشخصيات، فتلقى كل ذلك مبتسماً ولم يناقشه في شيء من
ذلك، ومن مداعباته أنه التقى مع الشيخ محمد شقرة وهو من شيوخ المدرسة السلفية، فقال
له: يجب أن نعقد اتفاقية هدنة! فكان الشيخ شقرة حاضر البديهة فقال: وهل بيننا حرب.
ولقد
اشتهر عن الشيخ أنه كثير الأكل، والحقيقة إن لهذه الأمور ظروفها فبعض هذا صحيح،
لكنه أحياناً كان يأكل كثيراً إما أثراً عن جوع شديد ألم به نتيجة انشغال لمدة
طويلة يوم أو اكثر، أو رغبة في إدخال السرور على من يأكل عنده فلقد زار يوماً أخاً
يعد من الأخوة المغمورين، فطلب منه طعاماً فأكل واكثر حتى قال إما أن تحملوا
الطعام أو تحملوني عن الطعام رغبة في إدخال السرور على أهل البيت، وإلا فلقد كان
عنده الهمة والإرادة ما يمكنه من الانقطاع عن الطعام فترات من الزمن، مرة بقي
أسبوعاً كاملاً لا يشرب إلا الماء وكان في بدايات حياته شديد الزهد والتقشف مما لا
يتسع المجال لسرده الآن…
ذكريات
أي إنسان عن والده كثيرة، فكيف إذا كان هذا الإنسان من أهل العلم والفضل والتربية
والدعوة والجهاد.
وألفت
النظر هنا إنه نظرا لطبيعة حياة الوالد ما بين هجرة وسجن وعمل سياسي ودعوي ميداني
ولقاء بالآخرين فلربما كان لكثيرين ذكريات معه تفوق كثيراً ذكرياتي معه وأتمنى لو
تلقيت من محبي الوالد رحمه الله ممن لهم معه ذكريات ومواقف أتمنى لو تلقيت منهم
شيء مكتوباً في ذلك لنعد كتاباً كاملاً حول الوالد رحمه الله، فإن ذلك في حقه
قليل.
هذا، وقد
يرى بعض الأخوة أن في ما قلته أشياء بسيطة ومواقف عادية ربما تحدث مع إنسان أو
مرشد أو موجه . . وهذا صحيح من وجه، ولكنني حاولت أولاً أن أكون دقيقاً غير متكلف
وهذا ما حضرني ثانياً، وإنما أردت ثالثاً من خلال مجموع ما ذكرت أن ألفت الانتباه إلى
بعض الجوانب التربوية والعملية في حياة الشيخ رحمه الله من خلال مشاهداتي فإن أصبت
بفضل الله ورحمته، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله واستغفر الله.
ثامناً: الشيخ سعيد وكتابه الأساس في التفسير
يعد كتاب الأساس في التفسير أضخم عمل علمي قدمه
الشيخ للمكتبة الإسلامية المعاصرة، ولقد كان هذا الكتاب محل اهتمام الباحثين
والدارسين فكان موضوعاً لعدد من رسائل الدراسات العليا منها:
1 ـ نظرية الوحدة القرآنية في
تفسير سعيد حوى للباحثة جميلة موجاري، قدمت لنيل درجة الماجستير في جامعة الأمير
عبد القادر في الجزائر، عام 2001م.
2 ـ سعيد حوى ومنهجه للتفسير
للباحث سعدي زيدان، قدمت لنيل درجة الماجستير في جامعة بغداد، 1997م.
3 ـ كما أن الأستاذ الدكتور
محمد الدراجي الأستاذ في جامعة الجزائر كان موضوع أطروحته للدكتوراه هذا الكتاب.
4 ـ كما قدمت رسالة في الجامعة
الأردنية حول التفسير أيضا لا يحضرني اسم الكاتب. وغيرها من الدراسات
ولعل المقالة التي نشرت في جريدة المدينة
المنورة في 11 شعبان 1407هـ عدد 729 للأستاذ عبد الله الشيخ ويس، تعطي صورة صادقة
موجزة عن هذا التفسير فأثبتها هنا:
الأساس في التفسير . . كتاب
يحتاجه الربانيون
أنا قارئ مسلم عثرت على كتاب اسمه الأساس في
التفسير للأستاذ سعيد حوى قرأت فيه فلم أتمالك إلا أن أكتب هذا المقال: إذا جاز
لنا أن نعتبر كتاب في ظلال القرآن كتاب القرن الرابع عشر الهجري في المكتبة
القرآنية فإني بعد أن أطلعت على كتاب الأساس في التفسير أخذت به وأدهشت فقلت بحق
إنه كتاب القرن الخامس عشر الهجري في المكتبة القرآنية –ذلك القرن الذي يأمل فيه
المؤلف أن يكون قرن إعادة الخلافة الإسلامية، وهذا التفسير اللبنة الأولى في طريق
الخلافة ولا عجب فإن مؤلف هذا التفسير الأستاذ سعيد حوى صاحب الكتب المميزة
المتسمة بطرح القضايا الكلية والنظرات المتينة المتكاملة لتكون قاعدة الانطلاق
والبناء، ألف هذا التفسير وهو سجين فكان سجنه خطوة على طريق القدوة وكان من ثمراته
كتاب الأساس في التفسير كما كانت مؤلفاته لبنات ترصع البناء الإسلامي وتسد ثغرات
فيه.
أقول هذا قبل الخوض في ذكر دوافع تأليف هذا
الكتاب ومميزاته وخصائصه وثمراته المرجوة.إن هذا الكتاب جزء من سلسلة الأساس في
المنهج التي تتألف من أقسام ثلاثة:
-
الأساس في التفسير.
-
الأساس في السنة.
-
الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص.
فالحديث عن دوافعه يندرج ضمن الحديث عن دوافع
تأليف السلسة جميعها التي بينها المؤلف رحمه الله وهي:
1. إنه في
عصر امتحان لكل شيء والسيطرة المادية على العالم وتصدير الأفكار المختلفة وصياغتها
بالقالب الذي يريده الماديون مع وجود طاقات هائلة مسخرة لهذا وعمل دؤوب مخطط من
قبل القوى المادية في العالم لتغيير كل المسلمات القديمة، أمام هذا لا بد من استعراض شامل للنصوص الإسلامية
التي هي بالدليل والبرهان تشكل مسلمات صحيحة في هذا العالم.
2. وفي
هذا العصر طرحت كثير من الأمور نفسها بشكل حاد فأصبح لا بد من إجابة شافية، واختلط
الأمر واختلطت الإجابات، فكان لا بد من عملية تمييز كاملة متكاملة للإجابة الصحيحة
ولا بد أن نفهم النصوص في إطارها الصحيح، وأن كل تساؤل لا يحتمل في عصرنا تأخير
الإجابة عليه، والإجابة الصحيحة الشاملة لا تتم إلا من خلال عرض شامل للنصوص.
3. ومن
واقع عصرنا أن ما يخدم قضية الحق أُبعد لصالح الهوى، وما يخدم قضية اليقين أبعد
لصالح الظنون، تحت غطاء العلمية والموضوعية وعندما يصل البعض إلى حقائق تخدم قضية
الإيمان تجده يرفضها ليتوصل إلى تخريب أو ضلال في العقل والوجدان والسلوك فآن
الأوان للمسلم أن يقول كلمته الحاسمة وبداية ذلك العرض الشامل لنصوص الإسلام
وإقامة الحجة على أنها الحق الخالص.
4.
القرآن حجة الله على خلقه وحجة أن محمداً عبده ورسوله فلا بد من إبراز كمال الحجية
فيه وما أكثر الحجج ولا بد من الإجابة على شبهات الخلق في شأنه ومن أعجب هذه الشبه
ما تنشره بعض دوائر الكفر حول الوحدة القرآنية والصلة بين سور القرآن بعضها ببعض
وكذا آيات القرآن فكان هذا الكتاب إبرازاً لمظهر من مظاهر الأعجاز في القرآن من
خلال هذه القضية.
5. أن
هذه السلسلة محاولة للفهم الصحيح لكلمة الله ورسوله عليه السلام في عصر أصبحت فيه
كثير من النصوص تفهم فهماً خاطئاً ويبنى على هذا الفهم الخاطئ أحكام خاطئة فقد
وجدت عقليات حرفية لا تراعي طرائق العرب في الخطاب والفهم وعقليات تأويليه تنطق
بالتأويل دون ضوابط وعقليات تفهم الأصل على ضوء الفرع أو تنسى الأصل وتستيقظ على
الفرع وكل ذلك لا يسع المسلم.
هذه النقاط الخمس تشكل الدوافع الأقوى لإصدار
هذه السلسة التي منها التفسير كما ذكر المؤلف في المقدمة… وبعد فما هي خصائص ومميزات
هذا التفسير؟ نذكرها بإيجاز فنقول:
1- أنه
قدم لأول مرة نظرية جديدة متكاملة في موضوع الوحدة القرآنية تبين هذه النظرية قضية
الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين سور القرآن بعضها مع بعض على
ضوء نظرية شاملة مستوعبة لآيات القرآن وسوره وهذه التغطية تروى من ظمأ الباحثين عن
دقائق أسرار هذا القرآن كما أنها تضع لبنة في صرح الحديث على إعجاز القرآن
ومعجزاته وتجيب على تساؤلات كثيرة من جملتها موضوع فواتح السور إلى ما هنالك من
قضايا وأسرار تترتب على هذه النظرية عددها المؤلف.
2- ومن
ميزاته الاستفادة من أوثق ما توفر من المراجع من كتب دينية قديمة والنقل عنها
مباشرة والعزو إليها مع نقد ما ينبغي نقده مع تبيان نقاط الضعف فيها والاستفادة من
علوم عصرنا وتخصصاته وما أنتجه ذلك من قضايا تبرز معجزات في القرآن تتأكد بها
الحجة القائمة على الخلق.
3- من
ميزاته أن لا حشو فيه وليس فيه إلا ما له علاقة بصلب التفسير مع استبعاد كل قضية
لا تعتبر عملية علمية.
4- حاول
التبسيط والتقريب مع الاحتفاظ إلى حد كبير بعبارات المفسرين أو بدفة طرائقهم في
الأداء وهذا أمر لا يدرك صعوبته إلا من عاناه فإن كثيراً من العبارات لم تستقر على
ما هي عليه إلا بعد عمليات تنقيح أجريت عليها خلال العصور.
5- حاول ربط المسلم بقرآنه وتبصره بواقعة وإذا كان للمسلم الحق في عصرنا
معارك متعددة لا بد أن يخوضها على أساس القرآن فلا يحسن بكتاب معاصر في التفسير أن
يغمض مؤلفه عينه عن هذه المعارك وهذا يقتضي تربية مكافئة لهذه الأمور كلها على ضوء
القرآن ومن ثم فقد راعى المؤلف هذه الناحية بشكل بارز.
6- محاولة بيان من هم أهل السنة
والجماعة وما هي مدارسهم الإعتقادية والفقهية والروحية والسلوكية والأصولية ومن
يقرب من ذلك ومن يبعد.
7- حاول أن يبين أن القرآن أعطى الجواب
على كل شيء إما بشكل مباشر أو بما أحال عليه من السنة أو بما أحال القرآن والسنة
على طرائق ووسائل يعرف بها حكم الله.
8- أنه كتاب علم ودعوة وتربية وجهاد بآن
واحد.
9- أن م مزايا هذا التفسير أنه عمل على
أن يكون أداة لرفع درجات اليقين والارتقاء به مع تصحيح التصورات وزيادة العلم
وخدمة قضية زيادة الإيمان وإصلاح الاعتقاد والعمل.
10- من مزايا هذا التفسير أنه من أهم كتب
التفسير وقد نقل من الظلال ما يعتبر زبدته وأرقى ما فيه وانتقى أزاهيره مع
الابتعاد عما يمكن أن يكون فيه ملحظ لعالم راسخ وبالتالي فإن قارئ هذا التفسير يكون
قد أخذ من الظلال أرقى ما فيه.
والمؤلف –كما يقول
عن نفسه- لا يكلف نفسه عناء صياغة شيء يحتاجه الكتاب إذا كان غيره قد صاغه الصياغة
التي يرضاها أو التي تقتصر عنها عبارته أصلاً حيث أن الهدف وجه الله ليس إلا.
ومن ملاحظاتي على
هذا الكتاب: أن القارئ فيه لا يمل بل يجد نفسه مسترسلاً مأسوراً مأخوذاً لا يريد
تركه وكأن روح الخلاص فيه تشد القارئ إليه والتأثير في القارئ نتيجة ذلك أمر بديهي
وهذا التأثير له جوانب متعددة قلبية وسلوكية وفكرية وعلمية.
ويولد هذا التفسير
روح العمل للإسلام والإخلاص في ذلك ومعرفة ما يجب على المسلم وكيف يسلك الطريق
الصحيح للوصول إلى الهدف الصحيح.
ومن آثاره المرجوة
بناء الشخصية الإسلامية العلمية الجهادية الربانية كما أنه يولد عند القارئ روح
الدقة في التعبير والحساسية اللازمة تجاه أي شذوذ عقدي أو فقهي.
والتفسير بعد ذلك
ذخيرة علمية وعملية ذات صبغة إيجابية وتربية روحية راقية. وبعد، فإن الإطراء ليس
هدفنا ولكن الإعجاب بالكتاب والتقدير له جعلنا نكتب هذه الكلمات ([12])
ا.هـ المقال.
تاسعاً:الشيخ سعيد بين محبيه ومخالفيه
مهما بلغ
الشيخ رحمه الله من مقام ومكانة ومهما كان أثره في الدعوة والفكر والعلم والقيادة
ومهما كان باعه طويلاً في التربية والتأليف ومهما أمتلك من المواهب والسمات
والخصائص والشمائل يبقى أنه بشر وواحد من عباد الله الضعفاء المفتقرين إلى رحمة
الله تعالى.
ويبقى
الخطأ والنقص من سمة البشر حاشا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.فليس
غريباً أن يكون الشيخ عرضة للنقد والتخطئة لكن مع ذلك فلقد تجاوز بعضهم الحدود
الشرعية والخلقية فتجاوز مبدأ النقد إلى التجريح والاتهام والإساءة.
لاشك أن
بعض ما قد يوجه للشيخ من نقد لربما كان صحيحاً وربما كان الشيخ حريصاً على مراجعة
مواقفة لو تسنى له ذلك. وهو الذي قدم كتاب تربيتنا الروحية للعلامة ابن باز ليقول
كلمته فيه وأبدى استعداداً تاماً أن يطبع تعليقات العلامة ابن باز مع الكتاب بلا
تردد. وثمة فرق كبير بين أن يخطئ الإنسان وهو يعمل ويجتهد في تحري الصواب، فمن
يعمل من البشر غير الأنبياء لابد أن يخطأ، وبين من يتعمد الإساءة أو الخطأ أو
الانحراف.
أما شيخنا
فشهادة المنصفين فيه أنه كان حريصاً على الحق ومعرفته، رجاعاً إلى الحقيقة، كثير
الأوبة والتوبة إلى الله، يجتهد ولا يألو في تعرف الحق والعمل به.
وما كان من
خطأ في تصرف أو اجتهاد فمما لا يسلم منه الإنسان أيا كان، ومع ذلك فلقد تركزت سهام
منتقدي الشيخ على عدد من القضايا وهي تتعدد وتتلون بحسب المنهج الفكري لمن صدر عنه
النقد فمن هذه القضايا:
1_كونه
إخوانياً.
2_كونه
صوفياً.
3_كونه
حنفياً.
4_كونه
أشعرياً في المعتقد.
وهذه
الانتقادات أجاب عنها الشيخ رحمه الله في كتاب الإجابات ضمن مجموعة الرسائل
كي لا نمضي
بعيدا عن احتياجات العصر، فلتراجع.
وثمة
انتقادات أخرى وجهت للشيخ من أبناء الحركة التي ينتمي إليها تركزت حول :
_استبداد
الشيخ برأيه وعدم خضوعه للشورى.
_قدرته على
فرض رأيه على الآخرين.
والحق أن
الشيخ كان قوي الشخصية بالغ الحجة محاوراً فريداً طويل النفس في الحوار يلون الحجج
ويقارع الآخرين يتشبث برأيه إلى آخر لحظة.فإذا كان الأمر متعلقا بإعمال تنظيمية
رسمية فإنه يحاور ويكافح عن رأيه ولا يترك وسيلة يستطيع إقناع الآخرين بها إلا
ويسلكها إلى أن تصل الأمور إلى التصويت فإذا ووفق على رأيه كان ما كان، وإلا فإنه
ما كان يخرج عن آراء الجماعة وشوراها.فإذا كان في أكثر الأحوال من قوة الرأي
والشخصية ما يستطيع أن يقنع الأكثرية برأيه فهل هذه سلبيه.وإذا كان يعد لكل جلسة
عمل برنامجاً كاملاً واقتراحاتها الكاملة وأدلتها الكاملة فهل سلبية … إلا أنه في حالات نادرة كان للجماعة توجهات تختلف عن رأيه اضطر
معها مثلاً أن يقدم استقالته أو يعمل على تغيير القرار من خلال المؤسسات لما يراه
من خطر أو مخالفة شرعية.وهو في ذلك كله ضمن إطار الاجتهادات الشرعية التي يقبل
الاختلاف فيها ومن حق الإنسان أن يستقيل من عمل يعتقد عدم صوابه ولا يريد أن يتحمل
مسؤولية ذلك.
_اتهم
الشيخ أنه كان وراء الحركة الجهادية في سوريا _وهي في نظري ليست تهمة _ في الوقت
الذي لم تمتلك الجماعة أهلية ذلك والواقع أن هذه قضية ذات شعب كثيرة لكن أقول
بإيجاز:_بدأ العمل العسكري في سوريا والشيخ في السجن 73_78.
_دفع
الإخوان دفعاً للدفاع عن أنفسهم بعد إعلان الجهات الرسمية الحرب عليهم، إثر عملية
المدفعية التي لم يكن الإخوان طرفاً فيها وأنكروا ذلك.
_توصلت
القيادة في ذلك الوقت إلى قرار جماعي بالدفاع عن النفس يتحمل مسؤولية ذلك كل أعضاء
القيادة وإن كان الشيخ رحمه الله كان عاملاً مؤثراً فيه لكن أين عقول الرجال
والقادة الآخرين.
_اتهم
الشيخ أنه كان سبب انشقاق خطير وقع في الجماعة عام 1986. يكفي هنا أن نقول إنه
استقال من قيادته الجماعة بعد الانشقاق 87، وكان يلح على ضرورة الوحدة حتى توفي
عام1989، معتبراً أن هذا الانشقاق ساقت إليه ظروف وأسباب كثيرة.
يقول الشيخ
رحمه الله :لعل أخطر انقسام واجهته جماعة الإخوان المسلمين في سوريا الذي حدث في
سنة1986.والأمل معقود بفضيلة المرشد العام الجديد- بعد الله تعالى – في تدارك هذا الأمر، ولكن قد يكون من المفيد أن نشير إلى بعض
الأسباب التي أدت لهذا الانقسام.إن الأسباب الجوهرية التي أدت إلى هذا الانقسام
تكمن في ثلاثة أمور:
أولاً: خرق
الأنظمة المعتمدة.
ثانياً: تعطيل
المؤسسات.
ثالثاً: الاختلاف
في التوجه السياسي.
وقد حسم
هذا الموضوع أخيراً وذلك يساعد على العلاج وتوضعت حول الأسباب الجوهرية أسباب
ثانوية :كنمو الروح الإقليمية والمماحكات الشخصية والآراء السلبية لبعض الإخوان
ببعض، وفهم بعض الأمور فهما مغلوطاً، وعدم الوضوح في النظرية التنظيمية الصالحة
لحزب إسلامي معاصر([13])
.
ويقول
الدكتور أحمد جواد محللاً هذه القضية :
(والشيخ
رحمه الله تعالى نشأ وانتهى وهو صاحب مبدأ لا يساوم عليه ولا يحيد عنه حتى مع اقرب
المقربين منه وكان موقفه من الخلاف الذي أدى بالجماعة إلى الانقسام نابعاً من
تمسكه بالمبدأ الذي آمن به والنظام الذي يحكم الجماعة، ماكان موقف هوى ولا حظوظ
نفس، وهو الذي يدرك خطورة مرضه وأنه مقبل على رب كريم، وقد لخص رأيه في كتابه (هذه
تجربتي وهذه شهادتي ) وما أورعه عندما قال لا يمكن أن نجبر كل العاملين في الحقل
الإسلامي على اتخاذ موقف واحد أو انتهاج استراتيجية واحدة فلكل اجتهاده ولكن إن
تعذر الموقف الواحد أو الإستراتيجية الواحدة تجاه الهدف الواحد، فلا يتعذر التعاون
والتنسيق يبن المسلمين سواء كانوا أفراد مع جماعات أو جماعات مع أفراد أو حكومات
مع جماعات أو جماعات مع حكومات، حتى يأذن الله ببلوغ الهدف ووحدة الأمة)([14])
.
فإنه عندما
يكون ثمة اتجاهات متباينة في طبيعة العمل وطريقته تتصل بالأصول والإستراتيجيات
يضطر المرء معها أن يختار طريقا صعبا إذ الكي آخر الدواء، على أنه كان حريصاً على
تلافي هذا الصدع وتلافي آثاره وأن يستطيع كل فيصل أن يحقق ما يراه من
استراتيجيات
ولما رأى عجز الفريقين أكد على ضرورة تلافي هذا الانقسام.
ويبقى أن
الشيخ لم يكن يحمل في قلبه حقدا على أحد ولا عداوة ولا يضمر شراً ولا مكراً
وعرف منه
الحرص الكامل على مصلحة الدعوة في كل حال.
_ولعل أخطر
اتهام وجه للشيخ رحمه الله أنه كان مسؤولاً عن أحداث حماة سنة1982.
و الإجابة
عن هذا الاتهام يحتاج إلى شرح طويل، فأقول بإيجاز :لقد كتب الشيخ رحمه الله في
الجزء الثاني من مذكراته بياناً مفصلاً لحقيقة ما جرى، يبين فيه الجهة التي استجرت
قيادة الداخل إلى عمل عسكري لم تكن الجماعة في الخارج على علم به كما لم يكن لديها
أي توجه لمثله في المستقبل، كما يبين حدود مسؤوليته فهو لم يستلم قيادة الجهاز
العسكري إلا قبل المعركة التي فوجئ الجميع فيها _بقليل.
ويكفي لدحض
هذا الاتهام أن الشيخ كان أحد أعضاء القيادة التي حاولت منع ذلك، ولم تستطع، ولعله
إذا يسر الله نشر مذكراته في جزئها الثاني تضع النقاط على الحروف.
وبعد :فهذه
شذرات ولمحات سريعة من حياة الشيخ وفكره ومنهجه في الدعوة والتربية والتأليف نضعها
بين يدي المحبين والطالبين والدارسين رجاء أن يكون فيها بعض الفائدة والنفع لمن
يلتمس طريق الهداية والخير والدعوة إلى الله والعمل للإسلام في هذا البحر الهائج
المتلاطم فيجد فيها المربي والأب والداعية إضاءات ونفحات.
راجين من
الإخوة القراء النصح والتسديد، ولئن جاء البحث مختصراً جداً بما يناسب المقام فإن
النية تتجه لإصدار كتاب متكامل في هذا الصدد فأرجو من محبي الشيخ وتلامذته تزويدي بما
لديهم من ذكريات وفوائد ومعلومات خاصة.
سائلاً
الله أن يتقبل منا ومنكم وأن يغفر لنا ولكم والحمد لله رب العالمين.
([1]) د. أحمد جواد، مجلة النذير، العدد 113، ص 21.
([2]) ينظر كتاب جند الله تخطيطاً ص 69 فما بعد، وكتاب جند الله
تنظيماً.
([3]) انظر: جند الله تخطيطاً، ص69، ط دار عمار.
([4]) مجلة النذير العدد 113 ، ص 23.
([5]) مجلة النذير العدد 113 ، ص 6.
([6]) مجلة النذير، العدد 113، ص23.
([7]) مجلة النذير، العدد 113، ص 6-7.
([9]) مجلة الجهاد الأفغانية، العدد 53.
([10]) مجلة البلاغ، العدد 985، 19 / 3 / 1989م .
([11]) صحيفة اللواء الأردنية 15 / 3 / 1989م .
([12]) هذه تجربتي، ص 157 - 160.
([13]) هذه تجربتي، ص 162 - 163.
([14]) مجلة النذير، العدد 113، ص 26.