بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
خطراتٌ
. . وتوجيهاتٌ . .
بقلم: محمد
سعيد حوى وتعليقات الهوامش: معاذ سعيد
حوى
ـ 2000م
الحب في الحياة أسمى معنى، يحياه
الإنسان بقلبه، ويتحرك به في سيرته وحياته ([1])،
ولن يكون للحياة معنى من غير حب.
ومن
غير الحب الإنساني لا يتصور الرقي إلى الحب النبوي ثم الحب الإلهي؛ أسمى السمو
الذي نسعى إليه.
كيف لنا أن نتصور رحمة الله . . ؟
لقد صورها النبي r بأن كل ما تجدون في الدنيا من
رحمة . . هو جزء من رحمة . . جزء من مائة رحمة . . وهو مجرد تقريب.
فلا
تعرف معنى العطف والرحمة إلا إذا نظرت كيف ترحم الحيوان أولادها، فترضعهم وتحفظهم
وتضحي من أجلهم، وتدفع عنهم ما ينوبهم من شر أو أذى . . وكذا الأم بوليدها . . ([2])
لم أشعر يوماً أني يمكن أن أدرك محبة رسول
الله r إذا لم أجده مجسداً بصورة أمامي ([3])؛
أتخيل في ضوئها شخصية رسول الله r . . ([4])
فكانت تلك الشخصية هي والدي رحمه الله .
. ([5])
لأجل ذلك فإني أدرك معنى قول الشيوخ
بضرورة وجود المرشد الولي الذي تتخذه شيخاً ليكون طريقك إلى الله ([6]).
ذلك
المرشد الذي ترى فيه المثل الأعلى، الذي ملأ حبُّ الله وحبُّ رسوله r قلبَه وجوانحه، وتملك كل مشاعره، وتخلل ذرات خلايا جسده، يمثل عزة
المؤمن ورسوخ العالم الجليل وقوة المجاهد، وهو يربي بحاله وصمته وذكره.
إذا
نظرت إليه ازددت إيماناً وقرباً وحباً لله ورسوله r، ليس في حياته إلا الله ورسوله والإسلام، ولم يشغله إلا كيف ينقل
ذلك إلى العالمين.
ولقد
عشت قريباً من بعض هؤلاء المرشدين الكُمَّلِ ([7])،
مباشرة أو بواسطة؛ فامتلأ قلبي بحبهم.
هذا
الحب لهؤلاء هو الذي صاغ شخصيتي وكونني ورسم طريق حياتي، وما أنا بمن يرتقي إلى
مصافّهم عملاً ولا حالاً ولا علماً ولا قلباً ولا روحاً . . لكن بهم أتنفس ([8])،
وبأنوارهم أستضيء، وبحال قلوبهم أتأثر، ولما لم أشهد منهم إلا والدي فكان كأنه كل
شيء في حياتي، وحسب ([9])
. .
فإنّي
ـ على سبيل المثال ـ لا أتخيل نفسي لو لم يهيئ الله لي هذا الوالد مربياً ومرشداً
وإماماً وحبيباً، وما كنت لأكون على ما أنا عليه . . والله يعلم الغيب، ويعلم السر وأخفى.
وهو الذي ملأ قلبي بحب الله
ورسوله وأصحابه، فهم النجوم المتلألئة، وهم الجيل الأصفى على الإطلاق؛ مهاجرين
وأنصاراً . .
ملأ قلبي بحب أهل العلم
والاجتهاد واحترامهم وتقديرهم . .
ملأ قلبي بحب التواضع
للآخرين وسلامة القلب وصفاء النية وتخيّر الكلمة في مكانها . .
ملأ قلبي بحب الأئمة
المجتهدين وحب الأعلام الأئمة من عباد وزهاد وفقهاء وقادة وسادة …
من
هنا فالحب أسمى معنى . . وأجمل طريق . . ومن غير الحب لا معنى للحياة ولا للوجود، ولا
معنى للأعمال ولا تأثير ([10])
. .
وبعدُ، فكيف يكون الحب ؟
إذا
اسْتَشْعَرْت في لحظات من سمو الإيمان وصفاء القلب أن حباً ومودة وصلة قلبية
وروحية قد قامت بين الأخلاء المتقين؛ إخاءً في الله وحباً فيه ومودة خالصة، وأضاءت
قلوباً، فكانت بدوراً في ليالي الصفاء، فصار للحياة معنى آخر، وصار لنا وجود،
ولقلوبنا حضور، ولأرواحنا رَوْح وريحان.
إنه صادق الحب يملي صادق الكلم . .
إنه صادق الحب يبعث نشوة القلب . .
إنّه صادق الحب يورث دوام الأنس . .
فتأتي ركيعات من الليل.
وتسبيحات واستغفار من أطراف النهار.
وصلوات بين الغداة والعشي.
وتلاوات وأذكار.
تملأ الأوقات . .
وتدوم طول العمر ([11])
. .
تأتي
. . ثمراتٍ لهذا الحب ووقوداً له وسياجاً . . ليضيء أكثر فأكثر.
عندها
فقد صحت الأضحية وتم سفك دم النفس، فلا وجود ثمة إلا لأرواحنا ـ وقد طهرت، وقد خمد
أوار النفس ([12])،
وزالت شهوتها، فلم تعد تعرف إله الهوى ([13])
ولم يعد للشيطان عليها سلطان ([14])،
عرفت ربها . . وعرفت أين يكون الهوى . . والحب . .
تلك
التضحية التي يجب أن نعيشها، وهي التي تُراد منا:
«
إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم … »
. . ) لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها … (.
انظر إلى
هذا الحب الذي جعل إبراهيم خليل الله، وجعله يقدّم ولده بيديه قرباناً لربه.
فلتكن بعد
ذلك كل معاني الحب والصلة والمودة والأنس والفكر … فهي أجنحة طيران نحلّق بها إلى
الله تعالى . .
ليس في
الحب لومٌ:
يا لائمي في هـواه والهوى قدر لو شَفّك الوجدُ لم تعذِل ولم تَلُمِ
وهو طريق
الشهادة في الله على قدر إبراهيم والشهداء الذي استشهدوا بين يدي رسول الله r حباً وكرامة:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل فما اختـاره مضنىً بـه وله عقل
فعِـشْ
بـه سـعيداً أو مُتْ بــه شـهيداً فـالهـوى له أهــل
أَحَبَّ
الصحابةُ رسولَ الله r فملأ عليهم قلوبهم وعقولهم، فكانوا معه وقد غابوا عن ذواتهم،
وفنوا فيه؛ استذكاراً وتأسّياً وحباً وتعلقاً، حتى كان حضور قلوبهم الكامل معه،
فصاغ شخصياتهم، وقوّم سلوكهم، وأنار قلوبهم، وهو الأكمل r، ثم توارث هذا الحب من بعده كل من سار على طريقه، حتى أضاءت
كواكبُ منيراتٌ سماءَ الكون بحب الله ورسوله r على مدار التاريخ.
هذه نعمة
الحياة في ظلال الإيمان والحب في الله، وهذه بعض معانيها، التي تشعر بنشوة السعادة،
وخمرة([15])
الأنس صفواً من غير كدر، أشعّتْ هذه المحبة حباً فاض على الجوانب، فكانت لقاءات
القلوب([16])
مع المحبين من شهداء الإسلام قديماً وحديثاً ودعاته الصادقين وعلمائه العاملين
وأبنائه المخلصين.
أيها
المحب: لا غرو ولا عجب أن يتصل هذا الحب ويتواصل بين قلوب آمنت وعرفت ربها،
وائتلفت أرواحها على الله . . فكيف نعيش هذه النعمة وكيف نسعدُ بها ونحافِظ
ونُحفَظ ؟
سبحان الله
. . أهي تُحفَظ أم تَحفظ ؟!
كيف نسعد
بها، أم هي السعادة ذاتها ؟!
كيف نحيا
بها، أم هي الحياة ذاتها ؟!
أين المحبة
المقيدة المحدودة المكدرة من هذا الحب ورباطه الأوثق الأعمق الأشمل:
أين منه
حياة الزوجية ـ إذا كانت للشهوة([17])،
التي لا تنفك عن الأكدار، ولا تتسع مهما اتسعت إلا لخمسة: زوج وأربع زوجات . .
أين منه
حياة المصالح الدنيئة الدنيوية، والتي لا تتسع إلا لزائل، وتمتلئ بالغش والخداع،
وتنقطع بانقطاع المصلحة، صاحبها يعبد مصلحته ويدور معها حيث دارت، ثم إذا انقطعت وجد نفسه مقطوعاً معها.
أما ما نحن
فيه فالكون كله دون القلب في حبه وحجمه ([18])،
ومن أحب أهل الهدى اهتدى، ومنهم اقتبس، وبهم سما ([19]).
ومهما
يكن من أمره فهو على خير ) الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين (، «
أنت مع من أحببت »([20]).
ومِن
حب الله لرسوله r كان فيوض الرسالة والوحي، وكان ازدهاء العرش وزهو الملائكة والقلم
البديع واللوح المطهر، فكانت حقيقةُ ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (.
فهل
نعيش مع رسول الله r نسمو معه وبه، فنكون مسكاً يتضوع، تتزين السماء بنا؛ يذكرنا الله
في الملأ الأعلى، ويباهي بنا ملائكته . .
فتكون
أيامنا أيام تيه ([21])
بمحمد r، فتكون نوراً مضيئاً،
تتوالى به آيات الله على قلوبنا، كأنما جبريل بها يروح علينا ويغدو . .
نشيِّد
في قلوبنا دِيناً لبناتُه السُّوَرُ والأنوار والأذكار والأحكام: ) الله نور السموات والأرض ( . . من نوره نقتبس، ولنوره نتطلع، ولسماحة حكمه
وشرعه تسكن قلوبنا ونفوسنا ([22]).
إن ما نحن فيه من خلوص التوحيد ([23])
أعظم نعمة وقيمة؛ تتضاءل دونها هفوات نفوسنا وزلات جوارحنا([24])،
وما كان الله ليحول بيننا وبينه بتلك؛ وقد سمونا بحبنا وتوحيدنا وطهارة قلوبنا
ونشدنا نوره وفيوضات عطائه . .
كلا
فليس بيننا وبين الله حجاب . .
فلانصغر
في أنفسنا ولا نتصاغر ([25])،
وعلى شياطيننا ونفوسنا ننتصر . .
وقد
فهمنا ديننا يسراً، والحقوق فيه قضاءٌ، والأمر شورى . .
وإلى
الخلافة الراشدة في ظل بيعة صادقة نسعى . .
نباهي
بقيمنا وأخلاقنا الدنيا، فنحن بها عظماء ولا نحط من شأن أنفسنا . .
فنحن
للعالمين الدواء . . من غير مُرِّه ولا حرّه ولا قرّه.
نحن
الأقوى بقلوبنا وعقولنا وهدينا وأخلاقنا …
والخُلُق([26]) عندنا برّ وذمة ووفاء وصدق، طريقة حياة نحياها، فهل لاحظنا ما عندنا من عظمة بهذا الدين.
فهل
تَلْفِتُنا عن هذه العظمة هفوات أو وسوسات أو تشويشات شيطان رجيم ؟ لا وكلا . .
ألسنا
الذين نرفع الفقير فوق الغني بتقواه . .
ألسنا
الذين لا تطغينا الحياة وزخارفها وأموالها، بل نرى أعراضها ([27])
طريقاً للآخرة . .
بالخلق
العظيم عفافاً وصدقاً وتواضعاً ـ مع التوحيد ـ نرتقي في مقامات العبودية، بما لا
يدرك ـ ربما ـ بكثير من الصلاة ذاتها:
«
الصدق يهدي إلى البِرِّ، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صديقاً » ([28]).
بالخُلق العظيم عفواً عن الناس وتسامحاً
وصفاء قلب تجاه هفواتهم وزلاتهم مع الله أو مع أنفسنا([29])؛
نرتقي لنكون ممن شهد لهم بالجنة « يدخل عليكم رجل من
أهل الجنة »
ثم بيّن موجِب ذلك: «
إذا وضعت رأسي على الوسادة قلت: تصدقت بعرضي على الناس … ».
فلنمنح الخلق ـ جميع الخلق ـ
الحب إلا من قيل فيه ) جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم (، على أننا لا نكره ذواتهم، بل نكره فعالهم ([30])
. . ونشفق عليهم، ونتمنى لهم الخير . .
من عاش بالحب وبهذه المشاعر كان له نصيب
من الإنسانية الكاملة، إذ يكون له قبس واستمداد([31])
من أعظم مخلوق صاحب أعظم خلق، ذلك ما خصه الله به من وصف مميز، فلم يقل: أيها
المصلى ولا المزكي ولا الصائم ولا العالِم، ولكن ) وإنك لعلى خلق عظيم (، ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم (، وتلك هي الأخلاق.
ومن
أحب من أحب محمداً r اقتبس . . واقتفى وارتقى . . ولا يلام ([32])
. . ولولا أنه خير صادق طاهر راق ما أحب أصلاً، فيا رب شفِّع فينا حبيبك محمداً r، واجعل حبنا فيك بيننا شفيعاً لحسن أخلاقنا وسداد أقوالنا وصلاح
أعمالنا.
شتان
بين هذا الحب وآثاره وبين حب الأبوة والبنوة والأخوة والقرابة والزوجية.
إن
جلّت ذنوبنا وعظمت فللمحب أمل بالله ورجاء، ومن غير المحب يكون أهلاً للأمل
والرجاء، إذا صفا القلب فلن يضير الإنسان بعد ذلك تقصير ([33])،
فإن الحب الذي فيه يغلب كل ما سواه ويُنسي ما عداه . . بل صفاء القلب وشدة الحب تحجزك عن الذنوب
والتقصير . .
والله
يريد منا قلوبنا، لأنها هي وحدها التي لا يطلع عليها إلا هو وحده ([34])
. . عندها قليل العمل يكفي . . وعندها تغضي
عين المحبة عن الزلات والهفوات ([35])
. .
والإنسان
في سيره الحياتي إلى الله ربِّه بحاجة إلى المذكرات([36])
والمقومات والمصححات والمقويّات([37])
والمنبهات ، ويحتاج إلى علاج لما يقع من الوسوسات والمشوشات.
فقد
تعمل وتتقرب وتنتظر ثمرة ذلك، وقد تدعو وتنتظر الإجابة؛ فلا تيأس، لذلك قيل:
«
لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك، فهو سبحانه ضَمن لك
الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت
الذي تريد »
([38]).
والقلب
بحاجة إلى مراعاة؛ بل إلى رعاية خاصة، ومفتاح ذلك خلوات، تخلو بها مع الله مؤقتاً ([39]):
« ما نفع القلب شيء
مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة »،
وكلنا يريد إشراق القلب بنور الله، ولكن قيل في الوصول إلى ذلك: «
كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ؟
أم كيف يرحل إلى الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته ؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته ؟ »
فلنعالج الغفلة بالذكر، ولنعالج الشهوة بالتوبة والمجاهدة والعمل الصالح،
ولنعالج تعلقنا بالدنيا بتذكر الآخرة ([40])
ومعرفة حق الله في أوامره ونواهيه، من غير يأس ولا قنوط ولا تحقير لأنفسنا ([41])
وما نحن فيه من نعم عظيمة: نعمة الإيمان والتوحيد، ونعمة التفكير بالارتقاء
ومحاسبة النفس.
وأنت في الدنيا في دار كدر؛ فلا تستغرب
وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا ما هو مستحق وصفها، فمن هذه
الأكدار: تعلقات القلوب من غير قدرة على الوصل المطلوب، ومن هذه الأكدار: رغبات
الارتقاء مع وجود القواطع، ومن الأكدار: الشهوات والمعاصي والغفلة ([42])
…
لكن المهم ألا يكون رضا عن النفس، وأن
يستمر البحث عن الرقي والسعي إليه من غير قنوط ولا يأس، «
فأصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس([43])،
وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه
خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه ».
والمسلم يضع دائماً حسن الظن بالله مع
العمل، فإن لم تحسن ظنك به لما يتصف به من الكمال والجمال، فحسن ظنك به لوجود
معاملته معك؛ فهل عوّدك إلا حسناً، وهل أسدى إليك إلا منناً.
وإذا قارنت نفسك بالعظماء من الصحابة
والأولياء؛ فليكن ذلك دافعاً إلى مزيد من العمل([44])،
لا إلى اليأس والانشغال بذم النفس وتحقيرها، وليكن ذلك داعياً إلى التواضع مع ذكر
نعمة الله.
ولا بد لك
من كثرة الذكر،
ولو لم
يكن معه
حضور قلبك، كما هو شأن المبتدئ:
«
فلا تترك الذكر
لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى
أن ينقلك من ذكر مع غفلة، إلى ذكر مع يقظة، إلى ذكر مع حضور، إلى ذكر مع غيبة عما
سوى المذكور »([45]).
ولنتفحص قلوبنا دائماً، فمن علامات حياة
القلب: الحزن على ما فات من الموافقة للطاعة، والندم على الزلاّت، لكن لا ينبغي أن
يعظم الذنب عندنا عظمة تقنّطنا وتصدّنا عن حسن الظن بالله، فمن عرف كرم ربه استصغر
في جنب كرمه ذنبه.
ولا معنى للحزن على ما فات من الطاعات
إذا لم ننهض إلى الأعمال وتدارك ما فات، إلا كان ذلك غرة بالله وجهلاً ([46]).
ومتى رزقك الطاعة وعدم الاستغناء بها بل
الاستغناء بالله؛ فقد أسبغ نعمه ظاهرة وباطنة ([47]).
ولله في خلقه حِكَم، فقد تدفعنا الأقدار
إلى الذنوب والمعاصي، لتذل قلوبنا وتنكسر لله، فيكون ذلك سبباً في زوال الاغترار
بالأعمال والنفس، وسبباً في الذلة والاستكانة والانكسار لله تعالى ([48])؛
فتنقلب المعصية سبباً في القرب، وأي شيء يقرّبك إلى الله أكثر من تواضعٍ وذلةٍ
وانكسار، وهل العبودية إلا ذلك ؟
ولا تنس أيها السائر إلى الله ـ أو الطائر ـ أن
لك جناحين تطير بهما إليه ([49])،
هما: الخوف والرجاء، تخاف النار، فتعمل متقياً للمعاصي، وترجو الجنة، فتعمل لترتقي
([50]).
حتى ترتقي لتصل إلى العمل حباً لله
وشوقاً إليه وفناءً فيه ([51]).
وإذا أردت أن يفتح لك باب الرجاء فاشهد
ما منه إليك، فتَذَكُّر رحمته يورث حسن الظن به.
وإذا أردت أن يفتح لك باب الخوف فاشهد
ما منك إليه، فتذكر معاصيك وتقصيرِك يورث الخوف والهيبة منه سبحانه.
وإذا التبس عليك أمران أيهما تفعل، أو
أيهما أفضل، فانظر إلى أثقلهما على النفس فاتبعه ([52]).
الأهم دائماً: القيام بالواجبات، ثم
تليها النوافل ([53])،
وقد جعل الله لها أوقاتاً لئلا يكون تسويفٌ، ووسع وقت النوافل ليكون لك الاختيار،
والمسارعة إلى النوافل مع ترك الواجبات علامة هوى ([54])،
ومن أقام الواجبات على تمامها لم يكن مقصراً، ومن زاد عليها من النوافل كان
مترقياً متقرباً.
ولا يُخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج
أو شوق مقلق ([55])،
فإذا لم ترزق بذلك فعلى الأقل لا تجعل في قلبك أحوال أهل النار؛ أهل المعاصي
والغفلة، احرص على الفطرة الإنسانية التي فطر الله النفوس عليها ([56])،
واحرص على المنح والعطايا الربانية من الحب والوجد والشوق والأنس.
وعلى كل حال فما رأينا في القلب من
الأغيار فلنملأ مكانه من المعارف والأسرار الربانية؛ بمزيد الشوق إليه والحب فيه
والطاعة له .
ومن تمام نعمة الله عليك: أن يرزقك ما
يكفيك، ويمنعك ما يطغيك، فليقل ما تفرح به، وليقل ما تحزن عليه.
وليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضاً
أو يطلب منه غرضاً، فلنحيى حياة القلوب بأمدادها وعطائها وأنوارها وسعادتها
وطمأنينتها ولذائذ صِلاتها الربانية، في الله ولله . .
([1])
إن أعظم شيء يرفع مقامك عند الله هو الحب لله ولرسوله r وللصالحين، والذي يدلك على ذلك قول النبي r : « فأنت مع من أحببت » [رواه البخاري رقم 3485
ومسلم رقم 2639 وابن حبان رقم 105 ]، فالحب يجعلك في مقام حبيبك، فإن قلت: فأين
الأعمال الصالحة من الحب ؟ قلنا: إن الحب
عمل وهو أحسن العمل وهو الذي يدفع إلى العمل وهو الذي يصنع الإخلاص والصدق في
العمل، فلا عمل من غير حب، وإذا وجد الحب وجد العمل والاقتداء لأن العمل هو الدليل
على الحب؛ لكنه قد لا يبلغ مثل أعمال مَن أَحبَّ ومع ذلك فإنه يجمع بهم، قال أنس
رضي الله عنه: « فأنا أحب النبي r وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل
أعمالهم » [ رواه البخاري 3485 ].
([2])
هذه الصور هي من رحمة الله، كما بين الحديث، فهي المظاهر التي نشأت عن صفة
الرحمة عند الله، أو نشأت عن اسم الله الرحمن الرحيم، وهي التي تعرّفك على الله،
فهي التي ظهر لخلقه بها - أو تقول تجلى لهم بها والمعنى واحد - وهي التي ظهرت
أسماؤه بها وعرفت، وهذه الظواهر - والصور المخلوقة - هي التي ظهر بها الله، كيف لا
وهو الظاهر كما قال ) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (، ولا تعجب من هذا . . فكيف قبلت أن تقول إن رحمة الحيوان والأم -
وهي مخلوقات وأفعالها مخلوقة - هي من رحمة الله، ولا تقبل أن تقول إن هذه المظاهر
المخلوقة هي التي ظهر بها الحق سبحانه وهي اسم الله الظاهر، فهي من وجه تلبسها
بالخلق تسمى مخلوقة، وهي من وجه إمداد الحق لها تكون صفات لله وأسماءً، قال تعالى:
) كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك (.
والصفات في الحقيقة لا وجود لها حقيقياً
وإنما وجودها اعتبارياً ـ أو قل ضرورة للتعبير، فليس هناك شيء محسوس اسمه الكرم أو
الانتقام …، وإنما هي أسماء يعبّر بها عن الأفعال المحتوية ذلك المعنى، ولهذا لا
نجد القرآن يحدثنا عن صفات الله، وإنما دائماً يذكر لنا الأسماء: ) ولله الأسماء الحسنى (، ) … أيّاً ما تدعو فله الأسماء الحسنى ( …
وتلك المعاني التي تحملها تلك الأسماء
والتي هي أفعال لا وجود لها إلا في الخلق، فالرحمة نازلة على الخلق، والمغفرة
واقعة للخلق، والنقمة واقعة على الخلق … فانظر كيف كانت الأسماء أسراراً سارية في
هذا الخلق ممدة له وإلى هذا كانت الإشارة في قول الله تعالى: ) الله نور السموات والأرض (، وفي قوله r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من قول النبي r في قيامه في الليل: « الله نور السموات والأرض ومن فيهن ».
([3])
كما أن الصغير يكون ضعيف الإدراك، فكذلك المسلم يكون في بدء أمره ضعيف الخيال
ومحدود الآفاق، حتى إذا ما دخلت أنوار الإيمان على قلب المسلم اتسعت آفاقه كما قال
النبي r في تفسير قوله تعالى ) فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ( : « إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح » [ رواه الطبري عن عبد
الله بن مسعود في تفسيره ج 8، ص 27، وراه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج 4، ص
346 رقم 7863، وسعيد بن منصور في سننه ج 5 ص 88 رقم 918، وابن أبي شيبة في مصنفه،
والبيهقي في شعب الإيمان، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول وغيرهم ] وكما تتوسع
الآفاق والمدارك والخيال كلما كبر الإنسان، كذلك تتوسع آفاق الإيمان ومدارك
المعارف وخيالات القرب كلما كبر عمر الإنسان في الطاعات والإيمان، ولا يكبر هذا
بتقادم الأزمان ككبر السن، بل يكبر بزيادة الطاعات والإخلاص فيها، وذلك النور عطاء
الله وكرمه لأهل الإحسان ) إن رحمة الله قريب من المحسنين (، ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ( ) يهدي الله لنوره من يشاء ( ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ( ) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم؛
لهم أجرهم ونورهم (
) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (.
([4])
وقد فتح
الله
لنا
باب
الخيال،
لأن
معاني
المحبة
والقرب
إلى
الله
لا
سبيل
إليها
ابتداءً
من
غير
خيال:
انظر
إلى
قول
رسول
الله
r في
تعريف
الإحسان:
«
أن
تعبد
الله
كأنك
تراه
»
فانظر
إلى
كلمة
«
كأنك
»
وما
تحمله
من
علم
الخيال.
وانظر
إلى
قوله
r في
الحديث
الصحيح:
«استحي
من
الله
استحياءك
من
رجل
من
أهلك
»
وفي
رواية:
« من
رجل
ذي
هيبة
في
قومك
»
وفي أخرى:
«
من
رجلين
من
صالحي
عشيرتك»،
فكأنه
يقول
لك:
إذا
لم
تستطع
مراقبة
الله
تعالى
وتعظيمه
ولم
تستطع
أن
تبني
على
ذلك
أدباً
واستحياءً
من
الله،
فتخيل
أنك
مع
رجل
ذو
قدر
وذو
هيبة
في
قومك،
فافعل
في
خلوتك
ما
تفعله
إذا
كان
معك،
وتأدب
واستحيي
مع
الله
كما
تتأدب
وتستحيي
لو
كان
ذلك
المَهيب
معك.
فائدة: ولقد أخذ
أهل السلوك والتربية الصوفية من هذين الحديثين وما يتضمنان من معنى صحيح لا بد
منه؛ أخذوا مشروعية تخيل الشيخ معك، حتى تكون على غاية الأدب في كل حالك، وهو مجرد
خيال لا يضر بالاعتقاد كما لا يضرك وجوده معك حقيقة، حتى إذا قوي الخيال عندك
وانفتحت آفاقك إلى محبة رسول الله r وتخيله وتخيل أعماله وأوصافه وأقواله؛ جعلته في خيالك مكان الشيخ،
وهذا ما يسمى بالفناء بالرسول r، ويسمى الأول بالفناء بالشيخ، وليس معنى الفناء غير هذا، ومن توهم
غيره فهو جاهل بالقوم وبطريق القوم، وإنما سمي فناءً لأنك تستغرق أوقاتك وتفنيها
في تذكرهما، وليس هذا التذكر والتخيل ـ الذي أشار إليه الحديث ـ مراداً بذاته بل
مراداً لما يترتب عليه من أدب، كما لا ينبغي أن يقف عنده الإنسان طول عمره، وإنما
هو مرحلة لتقوية الأدب والخيال، فإذا قوي الخيال عندك وقوي الأدب عندك صار التخيل
والتذكر والمراقبة لله وحده، ويسمونه فناءً بالله، وعندئد تكون دورة التربية عند
الشيخ قد اكتملت، لتأخذ بعد ذلك طوراً آخر لإعداد التلميذ لمقام المشيخة.
([5])
وهي الشيخ بالنسبة لكل شخص، الشيخ الذي ترى فيه كثيراً من صفات رسول الله r وأقواله وأعماله وأحواله ودعوته، لأنه حريص على
اتباع النبي r والاقتداء بهديه، وترى فيه رشحاً من تربية رسول الله r وحكمته وتزكيته لمن معه، فهو ممن ورث عن رسول الله r صفاته وأحواله وإخلاصه وعلمه وعمله …
فائدة: وإذا كان
للمؤمن أنواره فإن الشيخ يحتاج إلى أنوار خاصة زائدة لما يقوم به من تزكية وتربية
ولما يحتاجه من علم وحكمة في تربية الناس وهدايتهم بإذن الله، ذلك النور الذي سماه
الله بصيرة في قوله عز وجل على لسان نبيه r وأتباعه: ) أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني (، كما صرح الله بتسميته نوراً في قوله سبحانه: ) أوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس
( فحياة المؤمن تكون بالنور الخاص به الذي أشرنا إليه أولاً، وذلك
نور لا يتعدى نفعه إلى غيره فهو حياة له وحده، ثم يجعل الله نوراً ينفع به الناس ) وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ( ذلك النور الذي يعطيه الله إياه ليمشي به في الناس أي يدعوهم به
ويهديهم به بإذن الله إلى صراطه المستقيم، فذلك نور زائد على نور الإيمان الذي
يكون به المؤمن حياً.
([6])
واتخاذ الشيخ سنة كونية، كما هي مطلب شرعي: أما كونها سنة كونية: فإن الذي
يريد أن يكون نجاراً يحتاج إلى نجار يعلمه ويدرّبه، والذي يريد أن يكون خبازاً
يحتاج إلى خباز يعلمه ويدرّبه، وكذا سائر الصناعات، والذي يريد أن يكون عالماً
يحتاج إلى عالم يعلمه، فكيف تعجب أن يحتاج من يريد الولاية إلى ولي يعلمه ويسلك به
طريقه، وليس في الدنيا شيء يطلب أعظم من الولاية [ فالنبوة لا سبيل إلى طلبها ]،
فإذا احتاج ما دونها إلى شيخ فالولاية أحوج؛ لأنها أعظم وأصعب وأدق. وأما كونها مطلباً
شرعياً: فدليل ذلك حال صحابة رسول الله r مع رسول الله وصحبتهم له وأخذهم عنه، ثم فعل التابعين مع الصحابة
مثل ذلك … وأدلة ذلك من القرآن كثيرة، منها: أمره تعالى بمرافقة الصادقين: ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (، فجعل الأمر بصحبة الصادقين قرين الأمر بالتقوى، فانظر ما أهمّه
وما ألزمه، وتذكر أن الصادقين الذين أمر بالكينونة معهم هم من أشار إليهم النبي r بقوله: « وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً »،
كما قال تعالى آمراً
باتخاذ الشيخ: )
واتبع
سبيل من أناب
إلي ( فأمر باتباع أهل الاستقامة والإنابة إلى الله،
كما بين تعالى أن له عباداً خبراء به؛ هم الذين يسألون عن الله ويُتعرف إلى الله
عن طريقهم فقال سبحانه: ) الرحمن فاسأل به خبيراً ( وهم الذين يسميهم أهل السلوك: عارفين. كما جعل الله تعالى من
علامة الضلال أن لا يكون للإنسان ولي مرشد معه ) من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً (، فيفهم من الآية ضرورة ملازمة الولي المرشد حتى يكون أحدنا من أهل
الهداية.
([7])
قد يتعجب بعض الناس من وصف إنسان بالكمال، ويحتجون في نفي ذلك بأن الكمال لله
وحده، وهم في ذلك يخطئون خطأين:
الأول: مشابهة كمال الله بكمال
الخلق، فإن الكمال الذي يتصف به الله هو كمال ألوهية وربوبية، بينما كمال المخلوق
كمال عبودية، فلا تصح المقارنة بينهما لانفكاك الجهة، ثم إن في هذه المقارنة توهم
بإمكان قرب المخلوق من كمال الخالق، وهذا مستحيل، فمهما بلغ المخلوق فليس له من
الكمال الإلهي شيء، ولا يقاربه أحد ولا بذَرة، ومن ادعى ذلك فهو هالك، لذلك كان
المستكبر ـ ولو لم يكن في قلبه إلا ذرة واحد من الكِبْر ـ مستحقاً للعذاب لأنه
نازع الله في صفة لا تكون إلا له سبحانه، قال الرسول r: « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » رواه مسلم. الثاني: أما الخطأ الثاني فهو نفي
وجود الكمال في بعض الخلق ـ وهو كما أشرنا كمال عبودية، وهو غير كمال الخالق ـ ولا
يصح أن ينفى ذلك وقد أثبته r
إذ قال: « كَمُل من الرجال كثير … » رواه البخاري ومسلم، فإذا
أقررنا بوجود الكمال في الخلق، فليعلم بعد ذلك بأنه نسبي يتفاوت فيه أهله، فأكملهم
نبينا ورسولنا محمد r، ثم الرسل والأنبياء ثم الصدّيقون والصالحون، وكلهم يتفاوتون في
ذلك، ففي كل رتبة درجات ومراتب ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ ﴾ [البقرة: 253]، وقال: ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 21].
وإذا كان لك أن تناقش في كمال الصالحين،
فلك أن تناقش في صحة دعوى تلميذ في كمال شيخه، فربما أخطأ في وصف شيخه بالكمال،
وهذا كثير الحصول، لكنه على كل حال: إذا كان استخار الله في ذلك الشيخ ورأى
الاستقامة والاتباع على ظاهره؛ فهو معذور في وصف شيخه بالكمال، ولا بد أن ينتفع
بما أداه إليه يقينه أو غلبة ظنه، وإن كان مخطئاً في الحقيقة، فالله لم يكلفنا
بأكثر من ذلك. وكما لا ينبغي أن يستعجل
الإنسان في وصفِ صالحٍ بالكمال، لأن الكمال رتبة عزيزة عالية قلَّ أهلها، كذلك لا
ينبغي أن يستعجل إنسان بنفي الكمال عن الصالح الذي ظهرت استقامته واشتهرت ولايته.
([8])
إن من أعظم قواعد التعامل في الإسلام: حسن الظن بالمسلمين، قال تعالى: ) اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم (، فإذا قرأت عبارة موهمة فخذها بالتأويل والمجاز، فذلك أولى لك من
أن تقع في تكفير المسلمين والمؤمنين بغير يقين، ولقد وقع كثير من العلماء فضلاً عن
العامة في إساءة الظن بالناس والعلماء والأولياء، فكفّروا ناساً وبدّعوهم وفسّوقهم،
ولو أنا لزمنا حسن الظن لما وقعنا في ذلك، ولا يسلم أحد من أن يتكلم مجازاً أو ما
يحتاج إلى تأويل، وإذا كان أدبنا مع الله ورسوله r أن نُؤَوِّل كلامهما فيما لا يجوز إقراره على ظاهره، فليكن أدبنا
كذلك مع جميع المسلمين . .
كيف تفهم قول رسول الله r عن ربه ـ كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم 2569 وابن حبان 944
ـ: « مرضت فلم تعدني … استطعمتك فلم تطعمني »، هل يجوز لك أن تقول: الله يمرض
والله يجوع أو يطلب الطعام، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، من قال ذلك أو اعتقده
فقد كفر، وأنت ترى أن ظاهر هذا النص يثبت ذلك . .
كيف تفهم قوله تعالى: ) نسوا الله فنسيهم (، هل يجوز لك أن تصف الله بالنسيان، سبحانه، وهو يقول: ) في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (، فهل يصح لك أن تعتقد تناقض القرآن، من اعتقد تناقض القرأن أو وصف
الله بالنسيان كفر.
كيف تفهم قول الله: ) يد الله فوق أيديهم ( وقد كانت يد رسول الله r فوق أيديهم، فهل يصح لك أن تقول إن يد الرسول r هي يد الله ؟ يكفر من يقول ذلك . . فكما تفهم كلام الله وكلام رسوله r على غير ظاهره أحياناً، فافهم كلام أولياء الله وكلام العلماء
وكلام عامة المسلمين على فهم يتفق مع حسن الظن فاحمله على وجه صحيح مقبول شرعاً،
ولا تتعجل في تهمة المسلمين وإيذائهم وتكفيرهم.
على أن من واجب المسلم وخاصة العلماء أن يراعوا
في كلماتهم الدقة، فلا يتكلم أحدٌ بكلمة يَعترضُ عليهم فيها فقيه أو عالم . .
وهذه الكلمة التي نحن بصددها: « بهم
أتنفس » إن فَهمت أن الكاتب يقصد بها أن أولئك الشيوخ يخلُقون نفَسَه، كفَّرْته،
وحاشا الكاتب وكلَّ مسلم أن يقصد ذلك أو يعتقده، وإن فهمت أنه يقصد أن كلماته ـ
التي تخرج مع أنفاسه ـ مأخوذة من كلامهم وتدور حول معانيهم؛ فذلك معنى صحيح مقبول،
تمتدح قائله لأنه يوافقهم على الحق الذي حملوه . . فلنتق الله في عباد الله.
([9])
وكذلك شأن التلميذ مع شيخه ـ إذا اختاره بعد استخارة الله ثم انشراح صدره لمرافقته
وصحبته، وبعد أن رآى عليه استقامته على شرع الله: كتاب الله وسنة رسوله r، وبعد أن وقع في ظنه أنه على خير وولاية واستقامة، بل بعد أن وقع
في ظنه أنه هو خير الناس ـ فكيف يرى بديلاً عنه ورفيقاً سواه، ولا عجب؛ فلو كنا في
زمن رسول الله r هل نتخذ أبا بكر t ـ على فضله ومكانته ـ شيخاً دون رسول الله r ؟
([10])
لذلك جعل الله تعالى أنبياءه وورثتهم من بعدهم أمثلة للخير والاستقامة، قال
الله تعالى في عيسى عليه الصلاة والسلام: ) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل (، وجعل الله الدافع والباعث على الاتباع هو الحب، فمن ادعى الحب
ولم يكن متبعاً كان كاذباً، فقال سبحانه: ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني (.
([11])
الدوام على العمل هو الثبات وهو الصبر الذي أمرنا الله أن نستعين به ) استعينوا بالصبر والصلاة (، ولا يستقر المرء على العمل الصالح ما لم يكن مزوداً بالمحبة التي
تعطي حلاوة الطاعة والخشوع فيها، فتذهب بثقل العمل: ) وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (، ثم إنّ الصبر على العمل والدوام عليه أعظم أجراً من ذات العمل،
فإنك إذا عملت عملاً ثم توقفت عنه وقفت حسناتك وصارت محدودة على قدر عملك، أما إذا
داومت على العمل ـ ولو كان قليلاً ـ حتى
تلقى الله؛ فإنك تعطى أجران، كما قال تعالى:
) يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ( فأجر لك على عملك، وأجر لك على صبرك الذي رافق العمل، لكن أجر
الأعمال التي عملتها محدودة بعمرك تقف عند موتك، أما أجر الصبر ـ والذي هو دوامك
على العمل ـ فلا حد له، لأنك أَثبتّ بين يدي الله تعالى أنك مهما عشت فلن تترك
العمل فلا يقف أجر صبرك بل يعد مستمراً إلى غير نهاية، وهذا معنى قول الله تعالى: «
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ».
ولما كان الدوام على العمل يحمل معنى
الصبر كان هو الأفضل وهو الأحب إلى الله تعالى، كما بين النبي r في قوله: « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل »، رواه البخاري
ومسلم، ومن هذا الحديث أخذ أهل التربية لزوم الدوام على الأوراد، حتى عاملوها
معاملة الواجب رغم عدم وجوبها.
([12])
قال تعالى: ) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي
المأوى (.
([13])
قال تعالى: ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (.
([14])
قال تعالى: ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (.
([15])
اعتاد أهل المحبة أن يستعملوا لفظ الخمرة عن غمرة الحب إذ تملأُ القلب، وهي مجاز
يراد به التعبير عما في الحب من نشوة وحلاوة تنشأ عن الاستغراق في ذكر الله وشدة
الحضور معه التي تذهب بكل خاطر سواه، كما هي تعبير عما في الحب من غياب عن النفس
وأهوائها في هوى المحبوب سبحانه ومرادِه، وفي هوى أحباب الله تعالى. ولا ينبغي لمسلم أن يفسق مسلماً على استعمال
هذا التعبير ما دام واضحاً من السياق أنه يريد ما ذكرنا من معنى، وقد تجرأ ناس على
تفسيق مسلمين لمثل هذه الكلمة ونسبوهم إلى شرب الخمر، وهم يعلمون قطعاً أنهم لا
يريدون ذلك، نعوذ بالله من سوء الظن بالمسلمين، ونعوذ بالله من الكذب على الله
والناس والنفس.
([16])
وهذا من سنة الله في خلقه أن تجتمع الأرواح والقلوب ـ بل والأجسام، إذا توافقت
اتجاهاتها وتآلفت، قال رسول الله r: « الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها
اختلف »، رواه البخاري.
([17])
أما إذا اجتمعت المحبة الزوجية الطاهرة مع المحبة الإيمانية السامية، فذلك كمال،
ما أقل أهله، وما أعظم ذوقه . .
([18])
يدل على سعة قلب المؤمن قول الرسول r: « إن لله آنية من أهل الأرض، ألا وهي قلوب عباده الصالحين،
وأَحَبُّها إليه ألينها وأرقُّها » [رواه الإمام أحمد وابن ماجه والطبراني في مسند
الشاميين 2 / 19 رقم 840، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد 1 / 384، وصححه الألباني،
وانظر: كشف الخفاء 2 / 129 رقم 1884 وانظر تهذيب الكمال 34 / 151 ذكره بلفظ: «
أرحمها وألينها »]، ومن هذا الحديث أخذ الصوفية مصطلح « الآنية »، فما ابتدعوه،
وإنما تبعوا فيه نبيهم r، وهذا الحديث في معنى الحديث الذي يروونه عن الله تعالى: « ما
وسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن »، لكن هذا الحديث موضوع فيما
يراه أهل الحديث، فلا داعي للاستدلال به فيكفينا ذاك الحديث الصحيح، وكلاهما يدل
على سعة قلب المؤمن، لكن هذه السعة ليس سعة حسية ـ تعالى الله عن ذلك علواً
كبيراً، فليس يعتقد ذلك مسلم ولا عاقل أبداً، والله تعالى محيط بكل شيء، وإنما
يكون قلب المؤمن إناءً له ويتسع له سعة معنوية؛ يتسع فيها القلب للمعارف العلية
والمعاني القدسية، يتسع لمعرفة أسماء الله سبحانه حتى يكون بها خبيراً، ومن عرف
الله فهو بالخلق أعرف.
([19])
إن رفقة الصالحين تسمو بالإنسان وترتقي به، لأنّ من يصاحب أحداً يشرب من أخلاقه
وأعماله وإخلاصه، وهذا معنى القدوة: ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (، لذلك عدت أم الدرداء رضي الله عنها صحبة الصالحين من أعظم
العبادات، وانظر إلى قول النبي r ـ الذي رواه البخاري رقم 6045 ومسلم 2689 وغيرهما عن أبي هريرة
رضي الله عنه فيمن يأتي إلى مجالس الذاكرين المسبحين والمهللين والحامدين … الذين
تحفهم الملائكة، فإذا جالسهم من ليس منهم من أهل الذنوب كان له رحمة ومغفرة لأجل
مجالستهم ورفقتهم ساعة، فكيف بمن يرافقهم عمراً أو زمناً طويلاً، فقال تعالى في
أولئك: « هم القوم لا يشقى بهم جليسهم »، وانظر إلى قوله: «بهم» لتعرف قيمة
الصحبة، وانظر إلى قول حنظلة: « نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار فكأنا رأيُ
عين » وانظر إلى جواب النبي r له: « لو تدومون على ما أنتم عليه عندي وفي الذكر لصافحتكم
الملائكة على فرشكم وفي الطرقات » رواه مسلم رقم 2750، ولا شك أن لوُرّاثِ حالِ
النبي r نصيب من ذلك على من يصحبهم على قدر وراثتهم، وانظر إلى أثر الشيخ
- وهو وارث النبي r - في إعانة تلميذه وحمله في قول النبي r لمن طلب منه الدعاء بأن يجعله الله معه في الجنة فقال r: « فأعِنّي على نفسك بكثرة السجود » رواه مسلم رقم 489،فانظر إلى
قوله: « أعني » الذي يدل على أثره في عون غيره، وانظر إلى قوله: « نفسك
» لتعلم أثره في إصلاح النفس، [ وفي رواية « أعني على ذلك » ]، والكل سبب من
الأسباب جعلها الله وهو المعين فيها جميعاً.
فائدة: في الحديث السابق الذي
رواه البخاري ومسلم دليل على مشروعية الاجتماع على الذكر، بل وندب إليه لما فيه من
الفضيلة، فأين المتنطعون الذين يتجرّأون على وصف المجتمعين على الذكر بالبدعة، وهم
أهل هذه الكرامة العظيمة عند الله، بل ومَن جالسهم.
([20])
رواه البخاري رقم 3485 ومسلم رقم 2639 وابن حبان رقم 105.
([21])
بمعنى: فخر واعتزاز وسعادة.
([22])
إنما تسكن النفس وتطمئن بعد أن تصل إلى مقام المحبة، ولا تصل هذا المقام من غير
اجتهاد ومجاهدة : ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب (، ) فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه
أحداً (، فالراجي لقاء ربه والمسلم السالك إلى مرضاة ربه يسلك طريق
الأعمال الصالحة، وهي القيام بالفرائض على تمامها مع الاشتغال بالنوافل والاستمرار
عليها والازدياد منها، حتى يستحق مرتبة المحبة، قال رسول الله r: قال الله تعالى: « من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب، وما تقرب
إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل
حتى أحبّه … » [ رواه البخاري ]، فإذا بلغ مرتبة المحبة ذهب عنه جهاده ومجاهدته،
فصارت الطاعة على جوارحه من غير كلفة ولا مشقة ولا مكابدة ولا مجاهدة، فقد صار
هواه ما يهواه الشارع: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » [ أخرجه
ابن أبي عاصم في السنة رقم 15، وصححه النووي، انظر جامع العلوم والحكم ص 386، وقال
ابن حجر: رجاله ثقات، انظر: فتح الباري 13، 289]، بل صار له لذة وراحة في طاعته
بدل التعب والمكابدة، « أرحنا بها يا بلال » [رواه أبو داود 4985] انظر إلى قوله «
بها »، « ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد
رسولاً » [ رواه مسلم رقم 34 وابن حبان رقم 1694 ]، فتبقى الأعمال وتزول أتعابها،
وهذا ما قصده بعض الصالحين بزوال التكليف، أي زوال الكلفة والمشقة، أما بمعنى زوال
الأعمال وعدم وجوبها وسقوط الفرائض والتكاليف؛ فذلك ما لا يقول به صالح، قائله
ساقط، تزندق وكَفَرَ بعد إيمان، ما سقطت التكاليف عن رسول الله r أفتَسقط عن سواه ؟
([23])
الإخلاص ـ كالهداية نوعان ـ نوع تبذله ونوع تعطاه، فالهداية تحرص عليها وتلتزمها
قدر جهدك، فإذا رآك الله قد سلكتها أعطاك هداية منه عنده فوق تلك، وشتان بين ما
تقدمه إلى الله وما يقدمه الله إليك . . قال تعالى مبيناً نوعي الهداية: ) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( وقال تعالى: ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم (، وفي المقابل قال تعالى: ) فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (. أما الإخلاص ففرق بين المُخلِص ـ الذي يبذل الإخلاص ويقدمه
ويتحرّاه ـ وبين المُخلَص ـ الذي أعطاه الله الإخلاص، فأما الأول فهو الإخلاص
المعروف والذي يتكلم عنه العلماء عادة والذي ينافي الرياء والشرك، أما الثاني فهو
عطاء من الله وحده إكراماً لك على الأول وعلى هذا يحمل ما روي عن رسول الله r فيما يرويه عن ربه: « الإخلاص سر من أسراري أُودِعُه قلب من أحببت
من عبادي » [رواه النووي بإسناده وصححه في كتابه بستان العارفين، وضعفه ابن حجر في
فتح الباري 4/ 109]، فإذا أودع الله الإخلاص في قلبك سهل عليك في كل أمر أن تكون
مخلصاً بل صارت كل أعمالك العبادية والعادية خالصة لله، بل صارت كل كلماتك وخطراتك
وأنفاسك لله ...
([24])
ليس هذا من باب الاستخفاف بمعصية الله، فذلك مهلك وليس هو من شأن أهل الإيمان،
وإنما هو من باب النظر إلى سعة رحمة الله ومغفرته ) إن ربك واسع المغفرة (، ومن باب حسن الظن بالله، وقد أقسم الله بالنفس اللوامة، فهي درجة
عظيمة بالنسبة إلى ما قبلها وهي النفس الأمارة بالسوء التي تعمل السوء ولا تبالي
به « كرجل وقع على أنفسه ذباب فقال هكذا فطارت »،أما النفس اللوامة فهي التي تقع
في المعصية مرة بعد مرة لكن صاحبها يلوم نفسه في كل مرة ويعتذر إلى ربه ويستغفره
ويرجو من الله أن لا يعيده إلى تلك المعصية، فإذا كان المسلم على هذا فهو على خير
والمغفرة مرجوة له، وهذا من معنى عدم الإصرار ) ولم يصروا على ما فعلوا (، روى البخاري 7068 ومسلم
2758 نحوه ـ يرويه حديثاً قدسياً ـ عن أبي هريرة قال سمعت النبي r قال: « إن عبدا أصاب ذنباً، وربما قال أذنب ذنباً، فقال: ربِّ
أذنبتُ، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب
ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً أو أذنب ذنباً، فقال: رب
أذنبت أو أصبت آخرَ فاغفره، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما
شاء الله، ثم أذنب ذنباً، وربما قال أصاب ذنباً، قال: قال رب أصبت أو قال أذنبت
آخر فاغفره لي، فقال: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي،
ثلاثاً فليعمل ما شاء ». ومعناه: فليعمل ما شاء ما دام على هذه الحال كلما أذنب
ذنباً استغفر منه، ولا ينبغي للمسلم أن يقف عند هذا الحد بل يطلب أن تكون نفسه
أطهر وأزكى حتى تطمئن وتركن إلى أحكام الله فلا تخالفها ) يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في
عبادي وادخلي جنتي (، وسبيل الترقي إلى هذه النفس المطمئنة: الطاعات التي تذهب
بالمعاصي والسيئات: ) إن الحسنات يذهبن السيئات (، وأقرب سبيل إلى ذلك: الدوام على ذكر الله: ) إلا بذكر الله تطمئن القلوب (، تطمئن إلى أحكام الشريعة، كما تطمئن إلى الله رضاً بما يصنع
ويختار له.
([25])
العزة لله ) فإن العزة لله جميعاً (، وإنما تكون للمؤمن استمداداً من الله: ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (، ومن توكل على الله واعتمد عليه كفاه الله؛ فكيف يخاف من خلق الله
وكيف يخاف من ذنبه وقد رجع إلى الله واستجار به من ذنبه ) ومن يتق الله يجعل له مخرجاً (.
([26])
الأخلاق والآداب ـ كالحب ـ ذات مقام عظيم، وهي من أعظم أسباب القرب إلى الله، لذلك
مدح الله رسوله r بها فقال: ) وإنك لعلى خلق عظيم (، وقال r: « إن المؤمن ليدرك بخلقه درجة الصائم القائم » [ رواه ابن حبان
رقم 480 ] وقال r: « أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن » [ رواه ابن حبان رقم 481 ]،
وقال r: « إن أحبكم إلى الله وأقربكم مني أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم
إلى الله وأبعدكم مني الثرثارون المتفيهقون المتشدقون » [ رواه ابن حبان رقم 482
]، وقال r: « إن خيارَكم أحاسنُكم أخلاقاً » [ رواه البخاري رقم 5688 ومسلم
رقم 2321 وابن حبان رقم 477 ].
([27])
فالأعراض الزائلة لا تعني غنىً في مفهوم المؤمن، وإنما الغنى أن تستعف عنها فلا
تتعلق بها، بل تتعلق بالغني سبحانه الذي بيده ملك كل شيء، قال r: « ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس » [رواه
البخاري رقم 6081 ومسلم 1051 وابن حبان 679].
([28])
رواه البخاري رقم 5743 ومسلم رقم 2607 وابن حبان 274.
([29])
من أكثر ما يرتقي به العبد إلى الله خلقُ الرحمة بالخلق، قال رسول الله r: « إنما يرحمُ اللهُ من عباده الرحماءُ » [رواه البخاري رقم 7010]
وقال r: « الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في
السماء » [رواه الترمذي رقم 1924 وقال: هذا حديث حسن صحيح]، وقال r: « لا يرحم الله من لا يرحم الناس » [رواه البخاري ونحوه عند
مسلم]، وقال r: « من لا يرحم لا يرحم » [رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد
والحاكم]،فبدلاً من أن تعادي المخطئ تكون مشفقاً عليه راجياً له التوبة والعودة
إلى الله باذلاً جهدك في ذلك، كما كان حال رسول الله r حتى خفف الله عنه: ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (، ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً (. وقد بين الله أنه أرسل رسوله r رحمة للعالمين جميعاً كافرهم ومؤمنهم: ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (، فمن آمن فقد قبِل تلك الرحمة ونال منها، ومن كفر فقد رفضها
وخسرها.
([30])
فلو صلح أحدهم وجب له الحب، فإنما تعلق الحب والكره بفعله، والذات تبع في ذلك
للفعل، بحسب ما يختم الله لصاحبها.
([31])
يقول بعض الناس إن المدد لا يكون إلا من الله، ويحكمون بناءً على ذلك بالكفر على
من يطلب المدد من غير الله، وذلك صحيح لو كان فعل المدد لا يجوز أن يطلق على غير
الله، أما إذا كان يجوز إطلاقه على غير الله فلا إشكال في ذلك، على أن يفهم في كل
موطن بحسبه، فاسم « الكريم » أو « الرحيم » ـ مثلاً ـ كما يطلق على الله يجوز أن
يطلق على الخلق فتقول فلان كريم ومررت بالرجل الكريم وتقول: فلان رحيم، وقال تعالى
في رسوله r: ) بالمؤمنين رؤوف رحيم (، والمدد يطلق على الخلق أيضاً بنص القرآن الكريم عن
الكافرين: ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (، فإذا كان الكافر يمد بالغي، فالمؤمن ـ والصالح والنبي ـ أولى أن
يكون ممداً بالهداية.
والميت من المؤمنين حي بروحه المطلقة،
وإذا كان الشهيد حياً ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ( فالنبي أولى بوصف الحياة منه، ومن أجاز الاستمداد من الميت ـ الحي
ـ فإنما ينظر إلى حياة روحه لا إلى موت جسمه، ثم إن مرجع المدد كلِّه إلى الله،
وما هذه الأرواح إلا أسباب، لا تنفع بنفسها، ويستوي في ذلك الحي والميت، فالذي
يفرق بين مدد الحي ومدد الميت؛ إنما يظن أن الحي ينفع ويضر، والحق أنهما سواء لا
ينفعان بأنفسهما، وينفعان بالله؛ كل مما أعطاه الله، ومن أعطاه الله بصيرة شهد
ذلك.
على أنه ما دام المدد كله مرجعه إلى الله
ومن عند الله؛ فليكن طلبك متوجهاً إلى الله مباشرة، كما هو شأنك في الدعاء « إذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله »، وإنما فصّلت فيما سبق حتى لا نستعجل
إلى تكفير من يقول مثل ذلك، بل نفهم قولهم على مرادهم، ونعرف أن لهم فيه وجهاً
صحيحاً.
([32])
وكيف يلام والله تعالى يقول: ) واتبع سبيل من أناب إلي (، وأمرنا بالسلام على الصالحين في كل صلاة في كل تشهد: السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعلمنا أن المؤمنين يحب بعضهم بعضاً ) إنما المؤمنون إخوة (، ) يحبون من هاجر إليهم (.
([33])
إذا صفا القلب لا يكاد يقع التقصير، قال حذيفة: سمعت رسول الله r يقول: « تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عُودا عوداً، فأي قلب
أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكته بيضاء، حتى تصير القلوب
على قلبين: قلب أبيض مثلِ الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض،
ويصير الآخر مربادّاً كالكوز مجخياً [أي أسود مائلاً عن الاستقامة] لا يعرف
معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه » [رواه أبو عوانة والبزار وأبو نعيم
الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم 1 / 210 رقم 367 بنحوه]،
أما قبل التحقق بالصفاء فالتقصير نوعان: تقصير في رؤية الهدف وتقصير في
العمل، فالفتور عن العمل - ما لم يكن تقصيراً في فرض - مجبور، أما التقصير في رؤية
الهدف فهو غير مقبول، قال r: « سددوا وقاربوا »، فلا بد أن تكون عينُك نحو الهدف ـ وهو رضى
الله ـ دائماً، أما التقصير في العمل فقد قال فيه r: « إن لكل عامل شرّة [ أي نشاط وقوة ]، ولكل شرّة فترة [ أي فتور
وكسل وانقطاع ]، فإذا رأيتم الرجل يسدد ويقارب فارجوه، وإذا رأيتموه غير ذلك فلا
تعدوه »، وفي رواية: « فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت شرته إلى غير ذلك
فقد هلك » [ وروي بألفاظ أخرى، رواه ابن حبان رقم 11 و 349 وابن خزيمة وأحمد 6477
] فمن نشط في العمل الصالح ثم تركه غير مبال بهدفه وغير حريص على عودة عمله فذلك
طريق الانحراف وصاحبه كأنه لم يعمل شيئاً، أما إذا فتر عن العمل وهو يطلبه ويرجو
العودة إليه، وهدفه بين عينه؛ فذلك أمر طبيعي يقع فيه كل مسلم.
([34])
ولا ينبغي أن يفهم من هذا الاستهانة بأعمال الجوارح واستقامتها على الشريعة، فذلك
ليس مقصوداً.
([35])
قال تعالى: ) ويعفو عن كثير ( وقال: ) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، إن ربك واسع
المغفرة (.
([36])
ومن أعظم أسباب التذكير رفقة الصالحين الناصحين، واتخاذ شيخ ولي مرشد.
([37])
ومن أعظمها رفقة الصالحين، وقراءة قصصهم.
([38])
هذه الحكمة وكثير مما بعدها مستمد من كلام الأولياء والصالحين وأكثرها من كلام ابن
عطاء الله السكندري في حكمه، وهي من أجود ما نجد فيه علاج قلوبنا، فلنكثر من النظر
فيها.
([39])
وذلك ريثما ينصلح ويتمكن من ذكر الله ويطمئن به ) إلا من أتى الله بقلب سليم (، وتكون مدة ذلك بحسب اجتهاد صاحبها وهمته في طاعة الله وذكره
والتقرب إليه، ولنا في اعتكاف رسول الله r في آخر رمضان كل عام أسوة وسنة.
([40])
قال تعالى: ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (، وقد حرص الصالحون لأجل ذلك على التزام ورد يومي؛ يفرغون أنفسهم
دقائق يتذكرون فيها الموت وما بعده، أخذاً من هذه الآية، ويسميها بعضهم: رابطة
الموت.
([41])
يعني: أن لا نعتبر النفس عدواً مطلقاً، وإنما هي عدو ينبغي أن نحذره ما دامت تخالف
شرع الله، وهي صديق وحبيب إذا كانت توافق شرع الله، ويمكن أن تصل النفس إلى هذه
الحالة فتكون مزكاة ) قد أفلح من زكاها ( فتكون نفسك حينئذ حبيباً ومعيناً لك على طاعة الله ومرضاته، وليس
المراد من الكلمة المذكورة أن لا نتهم أنفسنا بالتقصير، وأن لا ننتبه إلى وساوسها
فذلة النفس لله وانكسارها واتهامها وإدانتها مطلوبة بقوله r: « الكيس من دان نفسه »، والانتباه إلى وساوس النفس مهم لذلك
نبهنا الله عليه بقوله: ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه (.
([42])
لا يزال المسلم في مكابدة هذه الأكدار حتى يستسلم قلبه لله ويستقيم
حاله
فيغلب
عليه
حال
الرضا عن الله ) رضي الله عنهم ورضوا عنه ( فيعيش السعادة في الرضا عن الله، فلا يعرف الكدر مهما اشتد عليه
البلاء الذي يكون ألصق به وبأمثاله من الصالحين « الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم
الأمثل فالأمثل »، لكن الكدر والضنك يزول رغم ذلك، قال تعالى: ) وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم ؟ قالوا: خيراً، للذين أحسنوا
في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير، ولنعم دار المتقين (، فإذا كان الحديث الشريف:« الدنيا سجن المؤمن » [رواه مسلم
وابن
حبان]
يبين أنه لا
راحة
للمؤمن في الدنيا وأنه مسجون ومقيد بأحكام الله فيها، فهذه الآية
تبين أن المحسن يتجاوز ـ بتقواه وإحسانه ـ هذا الحال
إلى أن تصير الدنيا له سعادة وخيراً، وهذا من عاجل حساب الله؛ قال تعالى: ) والله سريع الحساب (، وقد بين الله تعالى أنه يجازي بعض عباده في الدنيا قبل الآخرة،
فقال في إبراهيم r
: ) وآتيناه أجره في الدنيا، وإنه في الآخرة من الصالحين (، واعلم أن أقرب طريق لزوال الأكدار ذكر الله تعالى: ) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً (، والذكر هنا يشمل سائر العبادات والطاعات، لكن تسميتها جميعاً
بالذكر دليل على أن الذكر في العبادات روحها وهدفها، كما قال تعالى في الصلاة: ) وأقم الصلاة لذكري (.
([43])
قال r: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » فجعل الكياسة مرهونة
بدوام إتهام النفس وعدم الرضا عنها مع دوام العمل.
([44])
فليست أجسامهم غير أجسامنا، ولا قدراتهم غير قدراتنا، وإنما هو الصدق مع الله الذي
يحمل الجسم ويمده بالقوة، انظر إلى قول الله تعالى الذي يدلك على أن عودتك إلى
الله وإقبالك عليه يكون سبباً في زيادة قوة الجسم: ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُرسلِ السماء عليكم مدراراً
ويزدكم قوة إلى قوتكم ( [ سورة هود: آية 52 ].
([45])
من حكم ابن عطاء الله السكندري مختصراً.
([46])
قال r: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه
هواها وتمنى على الله » [رواه الترمذي 2459 وابن ماجه وأحمد]، فالذي يرجو من الله
أن يصلح حاله لكنه يتركها على غاربها ولا يحملها على العمل يكون عاجزاً مغتراً
بالله، وإنما يكون الدعاء والأمنية والرجاء مقبولاً إذا وافقه العمل لذلك قرن الله
العمل مع الدعاء في قوله ) وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان،
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (، فانظر كيف جعل من شرط إجابة دعائك أن تستجيب لأوامره، وانظر إلى
دعاء آخر سورة آل عمران كيف قال الله بعده: ) فاستجاب
لهم
ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم
(، ولم
يقل: فاستجاب لهم ربهم دعاءهم.
([47])
الأعمال والعبادات والطاعات هي كسائر الأسباب مطلوبة، ولا يجوز للمسلم أن يعتمد
عليها ولا أن يظنها أنها ترفعه أو تدخله الجنة، فالله هو الذي يدخل الجنة وهو الذي
يقرِّب، فاعمل؛ معتمداً على الله ومتوكلاً عليه أن يقبل عملك ويرفعك به وينفعك،
قال r: « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله،
قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته »، وقد جعل الله تعالى الاستقامة على
الأعمال والإحسان بين يدي الله علامة على القبول والرحمة والانتفاع، فقال سبحانه: ) إن رحمة الله قريب من المحسنين (، وقال تعالى: ) وتلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (. فالعمل عندئذ مظهر رحمة الله وهي صفته، لا قيمة له إلا بما فيه
من الرحمة، فإن كان رحمة الله نفع وإلا فلا.
([48])
وهي مطلوبات من العباد، فقد ذمّ الله قوماً فقال: ) فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (.
([49])
ولا يمكن الطيران إلا بهما معاً، فإذا قطعت أحدهما عجزت عن الطيران.
([50])
وإنما يخاف المسلمُ النارَ لأنها مظهرُ غضب الله ونقمته، ويرجو الجنة لأنها مظهر
رحمة الله، فالمسلم لا يعبد الله لغرض سواه: ) ألا لله الدين الخالص (، ) فاعبد الله مخلصاً له الدين (، فمن عبد الله يقصد الجنة فقد قصد مخلوقاً، ومن عبد الله هرباً من
النار فقد هرب من مخلوق، فأين ذلك من الإخلاص لله . . إلا أن تراهما مظهران لأسماء الله كما أشرنا.
([51])
لقد قبل الله تعالى من عباده العمل رجاء الله ورجاء اليوم الآخر، قال تعالى: ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيراً (، لكن شتان بين الدرجتين قال تعالى: ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها ومساكن طيبةً في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم ( [ التوبة: آية 72 ]، فإذا كان رضوان الله أكبر وأعظم فلا تقنع
بالأدنى، وكن كصحابة رسول الله r ورضي عنهم وكن كحزب الله الذين قال فيهم: ) رضي الله عنهم ورضوا عنه (، فنالوا الرضا في الدنيا قبل الآخرة، أما الذين قصرت هممهم فلا
ينالوا الرضا إلى بعد دخول الجنة، كما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله r: « إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون:
لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم
تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من
ذلك، فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً » [ رواه البخاري
6183 ومسلم 2829 ] فانظر كيف تأخر نوالهم الرضوان إلى تلك الدار. فاختر لنفسك . .
وانظر كيف فرّق الله بين السابقين وأهل اليمين في سورة الواقعة، فذكر لكل منهما
جنة، لكنه ميّز السابقين بأمر عظيم وهو القرب، فقال: ) والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم … (.
([52])
ذلك أن مخالفة النفس أعظم سبيل لنوال الإخلاص، وسرّ ذلك أن أعظم إله يعبد من دون
الله ويصرف عن أمر الله هو ذلك الإله القريب إلى كل واحد، وهو النفس والهوى ) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (، فكل واحد منّا يحتاج إلى إسقاط ألوهية هذا الإله، فإذا خالفه إلى
أمر الله، فقد أسقط ألوهيته وأثبت الألوهية لله، وإذا أسقط ألوهية هذا الإله الذي
هو بين جنبيه؛ فهو على إسقاط ألوهية غيره ـ سوى الله ـ أقدر، فانظر ما أهم شأن
المجاهدة والمخالفة عند السالك، فهي مطلوبة للتحقق بالإيمان والإخلاص، وليست مجرد
عمل يُطلب به الأجر، ولعل هذا هو سببَ
جعْل أجر الصيام لله أو نسبته إليه على وجه الخصوص، لأنه تَرْكُ شهوةِ النفس
ومخالفةُ عوائدها لله، وهذا يمس الإيمان قبل أن يمس الأعمال، فكان أجره غير محدود:
« إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به »، والإيمان والإخلاص بهما تقبل الأعمال، ومن
غيرهما لا تكون حسنات.
([53])
فلا قيمة للنوافل إلا بعد أداء الفرائض، قال تعالى ـ في الحديث القدسي الذي رواه
البخاري: « وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه »، ولا يساوي أجر
النوافل شيئاً في مقابل الفرائض، انظر إلى صلاة فريضة الفجر والعشاء إذا صليتهما
في جماعة كتب لك أجر قيام الليل كله، وهما عمل قليل في مقابل طول قيام الليل،
لكنهما بأجرهما أعظم بكثير.
([54])
قيل: « من عمل بفرض كفاية وهو تارك لفرض عين وادعى الصدق فهو كذاب »، فكيف بمن
يترك الفريضة لنافلة كمن يترك طاعة والديه لأجل الدراسة أو لأجل قراءة القرآن كيف
ينظر الله إليه أو إلى عمله.
([55])
فذلك الذي يقلع جذور الشهوة، ومهما حاول المبتلى فلا يزال يتردد بين ضعف وقوة؛ يقع
في الذنب ثم يتوب ) ولا أقسم بالنفس اللوامة (، حتى يمنّ الله على قلبك بنفحة تخلعه عن شهوته، والمهم أن تتعرض
لنفحات الله حتى يأتيك ذلك الشوق أو الخوف، والنفحات كثيرة متوالية، إلا أنها لا
تدخل القلب إلا إذا كان متعرضاً لها مستعداً لها، وذلك بدوام التجاء القلب إلى
الله مع الحرص على أن يكون المرء في كل حالة في طاعة « إن لربكم في أيام الدهر
نفحات فتعرضوا لها » [رواه ابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وابن
عساكر]، وقد علمنا النبي r أن ندعو طالبين من الله تعالى أن يرزقنا الخوف الذي ينْزع الشهوة
والمعصية من القلب بقوله: « اللهم اقسم لي من خشيتك ما تحول به بيني وبين معصيتك ».
([56])
قال تعالى: ) فطرت الله التي فطر الناس عليها (، وقال r: « كل مولود يولد على الفطرة »، ولا يستقر المسلم على الطاعة
ويثبت إلا إذا نزلت هذه الفطرة في قلبه، فهي التي تحمل العلم والعمل، ومهما تعلم
المرء ما لم يكن في قلبه تلك الفطرة والاستعداد فلا قيمة له وهذا ما أشار إليه
حديث البخاري عن حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله r: أنه حدثهم « أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من
القرآن ثم علموا من السنة »، فانظر ما الذي يسبق ؟ العلم أم الفطرة والأمانة،
وانظر إلى حرف « ثم ».