بسم الله الرحمن الرحيم
الأسئلة الصحفية الموجهة لفضيلة الدكتور محمد سعيد حوى- حول
الهجمة على الأحاديث النبوية ـ أستاذ مساعد في الحديث النبوي – جامعة مؤتة –
الأردن .
من محمود
أبو فروة الرجبي "mamoud
rajaby" mm1342@hotmail.com
السؤال
الأول: هَلْ الهجمة الشرسة عَلَى السنة النبوية ومحاولة استبعادها هِيَ حملة جديدة
أم لَهَا جذور تاريخية؟
السؤال
الثاني: هَلْ تعتقد ان هُنَاكَ من المسلمين من وقع بحسن نية فِي حبائل أصحاب هَذِهِ
الدعوات، فراح يدعو مثلما يدعو ردا عَلَى محاولات التزوير التي وقعت لبعض الاحاديث
النبوية خاصة؟
السؤال
الثالث: ما هُوَ الرد عَلَى هَذِهِ
الشبهات؟
أولاً: لو أراد الله سبحانه وتعالى ان
تَكُون السنة مصدرا للتشريع لحفظها كما حفظ القرآن الكريم، ولكن هَذَا لم يحصل.
ثانياً: السنة النبوية الشريفة هِيَ
تطبيق عملي لأحكام القرآن الكريم فِي عصر الرسول r، إذا هِيَ خاصة به، وبالظروف
المحيطة به، إذا من حقنا ان نجد نَمُوذَجاً عَصْرياً بناء عَلَى المعطيات الحديثة؟
ثالثاً: هُنَاكَ قصور فِي منهج تنقية
السنة من الشوائب والموضوعات والسبب هُوَ الاختلاف الكبير بَيْنَ العلماء فِي
الحكم عَلَى بعض الاحاديث.
السؤال
الرابع: لماذا لا يكون هُنَاكَ مرجعية واحدة تفرز الأحاديث النبوية الصحيحة عَنْ
غيرها؟
السؤال
الخامس: هَلْ يُمْكِنُ اعتماد مَا صححه الألباني – رحمه الله – من أحاديث، وَمَا
ضعفه وَمَا جعله مَوْضُوعَاً، وأخذه بِشَكْلٍ كامل دون جدال أوْ نقاش؟
السؤال
السادس: هَلْ تتفق مع الرأي القائل ان المسلمين يركزون عَلَى سند الحديث، ويهملون
متنه، مع ان السند وسيلة والمتن غاية، وان مئات الآلاف من العلماء عَلَى مختلف
العصور، عملوا وَمَا زال بعضهم يحصد ويزرع فِي الحقل نفسه .. أي فِي الموضوع نفسه
هَذَا السند صحيح أوْ غَيْر صحيح، مع انه من المفترض ان هَذِهِ المسائل حسمت منذ
مئات السنين؟
السؤال
السابع: هَلْ من اقتراحات لعلماء الأمة من أجل إيجاد طريقة نستطيع ان نتعامل بها مع
السنة النبوية بِشَكْلٍ صحيح، حتى تتحصن الأجيال امام الدعوات الهدامة التي تهدف
إلى سلخ السنة من الإسلام ، وإبعاد الإسلام عَنْ السنة؟
الإجابات
بسم الله الرحمن الرحيم
إجابة الأسئلة الصحفية حول الهجمة على الأحاديث النبوية.
وجه
الأسئلة: محمود أبو فروة الرجبي.
أجاب عليها
الدكتور محمد سعيد حوى، أستاذ مساعد في الحديث النبوي ـ
جامعة مؤتة ـ الأردن.
السؤال
الأول: هَلْ الهجمة الشرسة عَلَى السنة النبوية ومحاولة استبعادها هِيَ حملة جديدة
أم لَهَا جذور تاريخية؟
جواب
السؤال الأول:
بداية أود أن أؤكد أن السنة مصدر ثابت من مصادر التشريع، وأن مكانتها من
القضايا الأساسية البديهية القطعية، وما أكثر الأدلة والبراهين النقلية والعقلية
القطعية على ذلك.
فلئن كان القرآن قطعياً في ثبوته
لا يمكن لمسلم يدعي الإسلام أن ينكر حرفاً منه، فلقد وجه القرآن إلى الأخذ بكل ما
جاء عن رسول الله r:
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ﴾ [الأنفال: 20].
﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون ﴾
[النحل: 44].
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ [النساء: 80].
إلى غير ذلك من النصوص القرآنية الكثيرة التي تؤكد وجوب طاعة رسول الله r، والأخذ بجميع ما صدر عنه r.
ولذلك نستطيع الجزم بكل طمأنينة أنه لا نزاع ولا شك عند كل من ينتسب إلى
الإسلام صادقاً أن حجية السنة ضرورة دينية، والواقع أنه لم يقع خلاف أبداً في أصل
هذه المسألة بين المسلمين قاطبة.
إنما الخلاف الذي وقع حقيقة وبعد التأمل في مقولات كل المدارس والمذاهب
الإسلامية ـ سنيها ومعتزلها وشيعيها، سلفها وخلفها ـ في ثبوت حديث ما، أنه صدر عن
رسول الله r أم لم يصدر، وهذا الاختلاف في ثبوت حديث لا يعني رد
السنة ابتداءً عند أي طرف في الحقيقة.
كما أن هذا الاختلاف إنما هو بالنسبة للتابعين فمن بعدهم، أما الصحابي فقد
تهيأ له أن يسمع من رسول الله r مباشرة فكان الأمر في حقه قطعياً
وحجة مطلقة، يكفر لو ردها ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾،
﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾.
ثم إن بعض الصحابة قد يغيب عن مشهد ولا يبلغه الحديث مباشرة فيحتاج إلى
التثبت من ورود النص عن رسول الله r.
إذن في حقيقة الأمر الاختلاف بين
المسلمين في الطريق التي تعتمد في إثبات صدور السنة أو الحديث عن رسول الله r، وهذا الاختلاف في الحقيقة
ليس اختلافاً في حجية السنة، وما ينسب إلى المتقدمين من إنكار للسنة في الحقيقة
ظلم لهم.
وإنما يفعل ذلك بعض الناس إما ليهاجم خصماً، أو ليشوه موقفه، فيتهمه بأنه
منكر للسنة، أو لأن الخصم أو المخالف رد بعض الأحكام الثابتة عند الآخر، وهي صادرة
عن رسول الله r، فيظن أن ذلك إنكار للسنة، وليس الأمر كذلك.
ولقد بسط هذا البحث الدكتور السباعي في كتابه «السنة ومكانتها في
التشريع» ص 149 وما بعدها، والأستاذ عبد الغني عبد الخالق في كتابه «حجية
السنة» ص 245 وما بعدها، والدكتور الأعظمي في كتابه «دراسات» ص
22 وما بعدها.
لا شك أن الاختلاف في قواعد الأخذ بالسنة كان كبيراً في بعض الحالات،
كالذين اشترطوا التواتر، ولهم أدلتهم غير المقبولة، التي أجاب عنها الأئمة، كما
فعل الشافعي في كتابه «الرسالة».
لكن مهما يكن من أمر فهذا لا يجوز لنا أن ندعي أن أحداً من علماء الإسلام
أو المسلمين المتقدمين عدوٌّ للسنة أو يرفض السنة أو ينكرها، ولا يجوز لأحد من
المتأخرين أن يعتمد عليهم في رد السنة.
أما الهجمة المعاصرة فهي نوعان:
الأول: كالسابقين لا يقصدون رد السنة ولا إنكارها، ولا هم أعداء لها بحال
من الأحوال، إنما وجدت عبارات لبعض العلماء في سياق ما؛ استغلت بشكل سيء من
الأعداء أو الخصوم، كما نقل عن محمد عبده قوله: «إن المسلمين ليس لهم إمام
في هذا العصر غير القرآن، وإن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه المسلمون في الصدر
الأول قبل الفتن» انظر: «دراسات» ص 26.
والواقع أن مراد الإمام كقول القائل: القرآن دستورنا، وقوله: «وإن
الإسلام الصحيح هو ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول» يوضح أن القرآن والسنة
هما المرجعية للمسلمين، لأن الصدر الأول عمل بهما ورجع إليهما، ثم إن اعتبار
القرآن إماماً يعني الأخذَ بالسنة، لأن القرآن وَجَّه إلى طاعة رسول الله r.
وكذا ما نقل عن رشيد رضا، إنما يقصد أن المرجع الذي يصدر عنه المسلمون ولا
يحيدون عنه هو الذي يعصم الفكر من الخطإ، والسلوك من الانحراف، وينقذ الأمة من
وهدتها في خضم الصراعات المضطربة؛ إنما هو القرآن، وغاية ما دعا إليه رشيد رضا هو
التحقيق والتدقيق في أحاديث الآحاد.
ولا يجوز تحميل كلامه أكثر مما يحتمل، انظر: كتاب «السنة ومكانتها»
ص 42 و «دراسات» ص 27.
النوع الثاني: إنما كانت هناك بعض الدعوات من مثل أبي ريه في كتابه «أضواء
على السنة»، وتوفيق صدقي في مقال له في مجلة المنار، وأحمد أمين في كتابه «فجر
الإسلام» وإسماعيل أدهم في رسالة له، وبعض المنتسبين للعلم في القارة
الهندية وغيرهم ما يفيد التشكيك بمجمل السنة النبوية.
وإنني أقول الآن: لا بد من دراسة آرائهم بدقة، فبعض هؤلاء أيضاً لا يقصد
مطلق إنكار السنة، وإنما شكك بطرق ثبوتها، ولكنهم لا شك انحرفوا، وأثاروا شبهات لا
تمتّ للعلم والتحقيق بصلة، ولم تكن غايات بعضهم سليمة، ولا أهدافهم نبيلة.
وهكذا نجد أن بعض المعاصرين الذين شككوا بمجمل السنة لا رصيد لهم في
التاريخ، بل هم مبتوتوا الصلة تماماً عن الأمة ومنهجِ تعاملها مع السنة.
وإننا وإن كنا نخالف منهج المعتزلة وغيرهم في طرق اعتماد السنة، لكننا لا نستطيع
أن نصنّفهم في دائرة الخصوم والأعداء للسنة، إنما هو اجتهاد خاطئ ولا شك، على خلاف
بعض المعاصرين.
السؤال
الثاني: هَلْ تعتقد ان هُنَاكَ من المسلمين من وقع بحسن نية فِي حبائل أصحاب هَذِهِ
الدعوات، فراح يدعو مثلما يدعو، رداً عَلَى محاولات التزوير التي وقعت لبعض الأحاديث
النبوية خاصة؟
جواب
السؤال الثاني:
عندما تسأل هل هناك أحد من المسلمين وقع في حبائل من يدعو إلى رد السنة؛ فلا
يصح أن نتكلم عن أي إنسان، إنما نتكلم عمن كان من أهل العلم والاجتهاد والنقد
والاختصاص، فليس أي إنسان تكلم في هذا الشأن يؤبه له أو يهتم لكلامه.
وعلى هذا فلو أجلنا النظر في علماء الأمة واستعرضنا كتاباتهم ومقالاتهم
أستطيع القول بكل جزم ويقين: إن أحداً من علماء الأمة المعدودين المعتبرين لم
يتأثر بتلك الدعوات.
وما صدر عن بعضهم إنما هو اجتهاد في فهم النصوص، أو نقدها في إطار القواعد
العامة المعتبرة.
السؤال
الثالث: ما هُوَ الرد عَلَى هَذِهِ
الشبهات؟
أولاً: لو أراد الله سبحانه وتعالى ان
تَكُون السنة مصدراً للتشريع لحفظها كما حفظ القرآن الكريم، ولكن هَذَا لم يحصل.
ثانياً: السنة النبوية الشريفة هِيَ
تطبيق عملي لأحكام القرآن الكريم فِي عصر الرسول r، إذاً هِيَ خاصة به، وبالظروف
المحيطة به، إذاً من حقنا أن نجد نَمُوذَجاً عَصْرياً بناءً عَلَى المعطيات
الحديثة.
ثالثاً: هُنَاكَ قصور فِي منهج تنقية
السنة من الشوائب والموضوعات، والسبب هُوَ الاختلاف الكبير بَيْنَ العلماء فِي
الحكم عَلَى بعض الاحاديث.
جواب
السؤال الثالث:
الرد على الشبهة الأولى:
حفظ اللهُ السنةَ حفظاً عاماً بأن هيأ لها أعلاماً يحملونها جيلاً عن جيل،
والسنة كما هو معلوم منها ما هو متواتر لفظاً أو معنى، وهو الأقل، ومنها ما هو
ظني، لكنه لم يختلف في صحته، فهو مما تلقته الأمة بالقبول، ومنها ما هو ظني مختلف
فيه، والراجح ثبوته عند الجمهور، والأدلة العقلية والنقلية تشهد له، وكل هذا كافٍ
في إثبات الأحكام الشرعية العملية، فبإجماع العلماء أن الدليل الظني الثبوت يكفي
لإثبات الأحكام العملية من فروع العقائد والعبادات والمعاملات.
أما العقائد والأصول العامة فلا بد لها من الأدلة القطعية، لإقامة الحجة
بها، ولا يعني هذا رد أحاديث الآحاد، وإنما يتعلق هذا بمسألة الحكم بالكفر أو
الإيمان، فما لم يكن الدليل قطعياً لا يكفر منكره، وهذه الأدلة القطعية قد وجدت في
القرآن الكريم، ولا مشكلة إذن.
ولو جعل الله السنة كلها قطعية الثبوت؛ لكان في ذلك تضييق على العباد، فجعل
الله رحمة منه بالعباد وتيسيراً عليهم كثيراً من النصوص القطعية الثبوت جعلها ظنية
الدلالة، وجعل أدلة أخرى ظنية الثبوت والدلالة، وأخرى قطعية الدلالة، لكن ظنية
الثبوت، وكل ذلك تحقيق لمقتضى التيسير وفتح باب الاجتهاد لكل عصر بما يناسبه في
الفروع والوسائل، لا في الأصول والمقاصد.
الرد على الشبهة الثانية:
السنة هي تطبيق عملي وتفسير وبيان للظروف المحيطة بالرسول r، لكن أن يُدَّعَى أنها
أنموذجٌ خاص لمرحلة خاصة، فهذه دعوى لا دليل عليها.
ونحن لا ننكر أن بعض تصرفات النبي r خاصة به، أو خاصة بظروف محددة،
لكن عندما يقوم دليل على ذلك، والأصل أن السنة الثابتة تشريع عام للنبي r وللناس جميعاً.
ثم لو أتينا إلى الناحية العملية والواقعية هل يمكن أن ندعي أن التطبيق
العملي كان خاصاً لمرحلة، فالصلاة بكل تفصيلاتها هي الصلاة، والصوم هو الصوم،
والزكاة ... وهكذا.
نعم وجدنا العلماء يجتهدون في بعض الفروع، وهذا أمر لا ينكر، من مثل بعض
مصارف الزكاة، وبعض واجبات الحج، وبعض صور البيوع المنهي عنها، والتطبيق العملي
لها، ولكن ذلك ليس مبنياً على إنكار السنة أو إنكار حجيتها، وإنما مرده إلى
الاختلاف في القواعد الأصولية واللغوية والنقدية المعمول بها.
والتشريع بذلك يسع الزمان والمكان والأشخاص، والمستجدات تسع كل ذلك من خلال
مرونة النص القرآني وإجماله وسعته وبيانه، ومن خلال الاجتهاد في الفهم اللغوي، ومن
خلال القواعد الكلية والمقاصد الشرعية العامة، والواقع خير برهان.
الرد على الشبهة الثالثة:
هذه دعوى باطلة ينقضها الواقع، ولو جئت تدرس بإنصاف منهج النقد عند المحدثين
واستيعابه لكل جزئيات الرواية، وما يطرأ عليها متناً وسنداً، والقواعد والضوابط
الصارمة الواضحة، التي وضعها العلماء؛ لعلمت أنه لم يوجد في تاريخ أمة ما منهج
كهذا المنهج، والتفصيل في ذلك محله الكتب المطولات.
لقد وضع علماؤنا القواعد الحازمة لنقد المتن، ولك أن ترجع في ذلك إلى كتاب «المنار
المنيف في الصحيح والضعيف» لابن قيم الجوزية، وكتاب «الأسرار المرفوعة
في الأحاديث الموضوعة» لعلي القاري.
كما أنهم درسوا أحوال الرواة بكل جزئياتها، وأحوال الأسانيد، فلم يكن ثمت
قصور.
لذا نلحظ أن الإمام البخاري انتقى لنا من بين عشرات الآلاف من الروايات فقط
2600 حديث، والإمام مسلم انتقى 3300 حديث، ثم توسع من بعدهم فكان ابن حبان وانتقى
7500 حديث، من غير أن يعني ذلك بالضرورة ضعف كل ما عدا ذلك، لكن هذا يدلك على شدة
التحري والانتقاء.
ونجد أن العلماء يذكرون أن عدد الصحيح ربما لا يتجاوز عشرة آلاف حديث،
بينما اشتملت الكتب على عشرات الآلاف من الروايات.
نلاحظ كيف أن أهل العلم المحققين يردّون الحديث لأدنى شبهة، كشبهة التدليس
أو الإرسال أو الانقطاع أو خلل الضبط ... فضلاً عن أسباب الضعف الظاهرة الأخرى.
أما لماذا اختلفوا في الحكم على الأحاديث، فلا بد أن نضع القضية في إطارها الحقيقي:
فهناك الكثير من الأحاديث التي اتفقوا على صحتها، أو صحة متنها على الأقل،
أو كانت محل شبه اتفاق.
وهناك من الأحاديث ما اتفقوا على ردها أو ضعفها، أو كانت محل شبه اتفاق، أي
لم يخالف من يعتد به.
وهذان الصنفان من الأحاديث يشكلان الكَمَّ الأكبر.
بقي النوع الثالث الذي اختلفوا فيه، وهو على مراتب:
نوع الاختلاف فيه قريب ويسير، ونوع الاختلاف فيه متباين، لكن من السهل
ترجيح رأي أحد الطرفين لوضوح الأدلة.
إذن ما بقي إلا الكم الأقل الذي وقع الاختلاف فيه، وتتقارب الأدلة وتتأرجح،
وهنا يغلب جانب الاحتياط غالباً، وهو رد الحديث أو التوقف فيه.
وإذن لم يكن ثمت قصور في شيء، ولا يتصور غير هذا أصلاً.
إننا إزاء أحكام القضاء الدنيوي تتعادل أحياناً الأدلة وتتكافؤ أو يترجح
بعضها بمرجح يسير، فهل نقول: نلغي أحكام القضاء لذلك؟
ويبقى هذا اللون من الاختلاف الجزئي في الحكم على الأحاديث معلماً إيجابيا
وحضارياً، إذ يفتح باب الاجتهاد، ويعطي لكل عالم حقه في أن يدلي برأيه ويتفاعل
المجتهد من خلال ذلك مع التطورات.
ثم لهذا الاختلاف أسبابه المنطقية، من مثل اختلاف بعض العلماء في حكم
التعامل مع المرسل، أو حكم الحديث المعنعن، أو متى يتقوى الحديث بالشواهد
والمتابعات، أو هل خالف هذا الحديث حديثاً أقوى منه ... ومثل هذه الأسباب لا يمكن
لا واقعياً و لا شرعياً إلغاؤها.
السؤال
الرابع: لماذا لا يكون هُنَاكَ مرجعية واحدة تفرز الأحاديث النبوية الصحيحة عَنْ
غيرها؟
جواب
السؤال الرابع:
لو قررنا أن يكون ثمت مرجعية لقيل: هذا حَجْرٌ على العقل والبحث، ولو تقرر
أن يكون هناك مرجعية؛ فسيقال: من الذي يقرر هذه المرجعية؟ وما صفاتها؟
ولماذا هذه وليس تلك؟
وإذن سنقع في اختلاف جديد، ثم ما المصلحة في ذلك؟
لو أريد لنا أن تكون مرجعية محددة لكان النبي r أولى بهذه المرجعية، ولكان أَمَرَ
بكتابة السنة، كما كتب القرآن، لكنه لم يفعل ذلك، حتى يبقى ثمت ميدان للاجتهاد
وعملِ العقل والبحث المتجدد والتيسير على العباد.
ثم ثمت مرجعية عامة في ذلك، وهم العلماء الذين عرفوا بالنقد والبحث
والتحري، مع العلم والتحقيق والتقوى.
ولا يصعب التعرف إليهم أو إلى أكثرهم لمن أراد الإنصاف في الحقيقة.
وهذه المرجعية تمتاز بالجمع بين خصيصة التعدد والسعة والتنوع، مع الضبط
والإحكام.
السؤال
الخامس: هَلْ يُمْكِنُ اعتماد مَا صحّحه الألباني ـ رحمه الله ـ من أحاديث، وَمَا
ضعّفه وَمَا جعله مَوْضُوعَاً، وأخذُه بِشَكْلٍ كامل دون جدال أوْ نقاش؟
جواب
السؤال الخامس:
ما ذكر في الجواب السابق جواب على هذا السؤال.
الشيخ الألباني رحمه الله واحد من أولئك الأعلام الذين سعوا لخدمة السنة
وتمييزها ونقدها وتنقيتها، وهو كسائر المشتغلين في هذا العلم أو غيره، يجتهد فيصيب
ويخطئ، فلا شك هو أحد المراجع، لكن لا يمكن اعتماده مرجعاً نهائياً، لسبب بسيط، أن
الشيخ نفسه رحمه الله قد صحح أحاديث ثم تراجع عنها، وضعف أحاديث ثم صححها، وتناقض
أحياناً في أحوال أخرى، وهذا أمر طبيعي من حيث هو بشر، ثم هو نفسه لم يدّع مثل هذا
الأمر، ولم يقل قط إنه مرجع، لا مرجع قبله ولا بعده، ولا معقب على قوله.
نعم للأسف قد رأينا من سلوك بعض من انتسب إلى مدرسة الشيخ رحمه الله أنه
إذا قال الشيخ قولاً فلا يناقِش، ولا يَستعِدُّ أن يسمع لرأي آخر، وهذا خطأ منهجي
قاتل، الشيخ نفسه بريء منه رحمه الله.
ويرى البعض أن الشيخ رحمه الله كان مكثراً جداً من التأليف والنقد، ومعروف
علمياً أن المكثرين تكثر أخطاؤهم، فلو اقتصر رحمه الله على نقد جملة أقل من
الحديث، كما فعل البخاري ومسلم، وقصر جهده على الأحاديث التي اختلف فيها أهل العلم؛
لكان ذلك أجدى وأنفع للأمة، وأبعد عن كثير من الإشكالات التي وقعنا بها اليوم،
بسبب الباب الواسع في التصحيح والتضعيف للشيخ رحمه الله، وبسبب المنهجية الخاطئة لبعض
تلامذته إذ عدّوا كلامه نهائياً.
ومع ذلك لا يسع أي باحث منصف إلا أن يقدر للشيخ الألباني جهوده العظيمة
وأثره الواسع في خدمة السنة، والمشكلة فينا نحن من بعده أن نتعامل مع اجتهاداته تعاملاً
صحيحاً من غير تقليد محض ولا مغالاة.
السؤال
السادس: هَلْ تتفق مع الرأي القائل إن المسلمين يركزون عَلَى سند الحديث، ويهملون
متنه، مع أن السند وسيلة والمتن غاية، وإن مئات الآلاف من العلماء عَلَى مختلف
العصور عملوا وَمَا زال بعضهم يحصد ويزرع فِي الحقل نفسه، أي فِي الموضوع نفسه؛
هَذَا السند صحيح أوْ غَيْر صحيح، مع أنه من المفترض أن هَذِهِ المسائل حسمت منذ
مئات السنين؟
جواب
السؤال السادس:
بالتأكيد هذا الكلام غير صحيح ولا منصف، وهو ظلم فادح للسنة وللعلماء
ولجهودهم العظيمة في خدمة السنة متناً وسنداً.
ولقد كتب علماؤنا كثيراً في نقد المتن، ووضعوا قواعد في ذلك، لا تقل أهمية
وخطراً عن قواعد نقد السند، وهي تتكامل مع قواعد نقد السند.
فمثلاً أعمال الفقهاء ونظراتهم في الحديث هي نقد للمتن من بعض الوجوه، هذا
أوّلاً.
وثانياً: كتب مُشْكِل الحديث ومُختلِف الحديث، وهي كتب متخصصة في نقد المتن
في الغالب، وهي كثيرة، ومنها كتابا الطحاوي رحمه الله: كتاب «مشكل الآثار»
وقد طبع في 16 مجلداً، وكتاب «شرح معاني الآثار» في 4 مجلدات ، فهذه
الكتب وأمثالها أنموذج آخر من كتب نقد المتن.
وثالثاً: لقد اشتملت كتب الشروح الحديثية على الكثير من عبارات النقد
للمتن، مع أن ظاهر سند الحديث السلامة.
ورابعاً: بماذا عرّف علماؤنا الحديث الصحيح؟ لقد قالوا: ما اتصل سنده
بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة.
ما هو الشذوذ؟ أليس جزءً كبير منه مخالفة حديث لحديث أقوى في
المتن؟
ما العلة؟ أليس منها ما هو متصل بالمعاني والألفاظ؟
من هنا نجد أن نظر علمائنا كان نحو السند والمتن معاً.
وخامساً: لو رجعنا إلى أنواع علوم الحديث؛ لوجدنا كثيراً منها يتعلق بنقد
المتن.
ولقد كتب بعض المعاصرين كتباً خاصة في ذلك منها: كتاب «مقاييس نقد
متون السنة» للدكتور مسفر الدميني، وكتاب «نقد المتن» للدكتور
صلاح الدين الإدلبي، وكتاب «نقد الحديث بالعرض على الوقائع التاريخية»
للدكتور سلطان العكايلة، وغيرها.
السؤال
السابع: هَلْ من اقتراحات لعلماء الأمة من أجل إيجاد طريقة نستطيع أن نتعامل بها مع
السنة النبوية بِشَكْلٍ صحيح، حتى تتحصن الأجيال أمام الدعوات الهدامة التي تهدف
إلى سلخ السنة من الإسلام، وإبعاد الإسلام عَنْ السنة؟
جواب
السؤال السابع:
نعم، ثمة اقتراحات عدة:
1.
أن لا يتصدى للتعامل مع السنة إلا من تأهل لذلك بشهادة أهل العلم المعتبرين
له، فإن الأمر دين وحق ومسؤولية عظمى وأمانة، وسنحاسب عن كل كلمة نقولها بحق حديث
رسول الله r من غير تثبت وعلم، وعندما يتقي الله أولئك الذين
ينسبون إلى العلم فلا يقولون في حق السنة إلا عن علم وبصيرة وتقى، مع تأهل لذلك؛
قطعاً ستضيق شقة الخلاف، وتضع الأمور في موضعها الصحيح.
2.
اللجوء إلى الاجتهاد الجماعي في نقد بعض النصوص التي وقع الاختلاف فيها،
وكان لهذا الاختلاف أثر في واقع المسلمين الفكري أو الفقهي، كأحاديث الطلاق،
والخلع، والجمع بين الصلوات، والذهب المحلّق وحكمه، وبعض أحاديث الصفات، وأحاديث
الحول في الزكاة، وأحاديث النكاح بعبارة النساء، وأحاديث البيوع المنهي عنها ...
ولا أدعي أن الاجتهاد الجماعي سينهي المشكلة، لكنه يقلل من الخطإ، ويقرب من
الصواب.
3.
ألا يكون همنا كيف نثبت صحة حديث ما، بل أن يكون همنا التحري والدقة، فإن
إثبات صحة حديث ما بتكلف وتعسف؛ لا يقل خطراً عن ترك العمل بما هو صحيح ثابت.
4.
أن يكون للفقيه دوره الأكبر في كيفية التعامل مع نص الحديث على فرض ثبوته،
لأن الفقيه ينظر إلى الأدلة نظرة شمولية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس،
مراعياً قواعد العام والخاص، والمجاز والحقيقة، منتبهاً إلى قواعد إزالة التعارض الموجود
بين بعض النصوص في الظاهر، وغير ذلك.
ولا يصح للمحدث أن ينكر على الفقيه إلا في حدود الإثبات والنفي للحديث، إلا
أن يكون المحدث فقيهاً أيضاً.
5.
ولا بد من التوجّه إلى نقاد الحديث أنفسهم لأقول لهم: ثمت قواعد بديهية في
نقد الحديث يغفل عنها البعض، ونحن أحوج ما نكون إلى مراعاتها في عملية النقد،
ومنها:
1ً.
أن نتعامل مع السنة غير المتواترة على أنها ظنية الثبوت، فعملية تخريج الحديث هي
عملية اجتهادية يُحتمل الخلاف فيها، فلا يصح أن نعتبر اجتهادنا أمراً ملزماً
للغير، ولا يصح أن نقسوَ على المخالفين في الاجتهاد.
2ً. أن نراعي أن مراتب ثبوت الحديث ليست واحدة، فما كان
من درجة الحديث الحسن فهو دون الصحيح في الحجية، ولا يؤخذ بحديث الصدوق إذا تفرد
حتى يختبر.
3ً. التأكد من توافر جميع شروط الحديث الصحيح.
4ً. التأكد من عدم مخالفة حديث ما للقرآن.
5ً. الإعراض عن الغرائب والمناكير.
6ً. معرفة شروط الاحتجاج بالشاهد والتابع، ومتى؟
7ً. الإفادة من أقوال الأئمة المتقدمين.
8ً. الإفادة من القرائن المُعِينة على معرفة حكم حديث
ما، مثل: جمع أحاديث الباب الواحد، ومعرفة سبب ورود الحديث، وكون الراوي صاحب فقه
أو صاحب القصة ...
6.
ونحن نتعامل مع السنة لا بد من التركيز على الجوهر والكيف، لا على الكمّ،
فلقد لوحظ أن بعض المنتسبين لهذا العلم يحرص على كثرة التخريج والتأليف، وتخلو
أحكامه في كثير من الأحاديث من الدقة والتمحيص، ويقع في تناقضات أحياناً، كما يحرص
يقع بعض العاملين في هذا الشأن على التطويل في التخريج إلى درجة الحشو الكثير
الزائد، وهذا يضعف جانب الدقة، ويرهق القارئ علمياً ومادياً، ومن ثم ينعكس على
السنة سلباً.
7.
تقوى الله والإخلاص في كل قول وعمل، فإنه رأس كل أمر.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمحبته ورضوانه وحسن خدمة كتابه وسنة نبيه r، والنصح لدينه ولأئمة
المسلمين وعلمائهم وعامتهم.
وأشكر لكم هذا اللقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.